إدارة دونالد ترمب تواجه تحدياً صعباً مع الربيع العربي الموروث من عهد باراك أوباما. الموجة التي اجتاحت الدول العربية خلّفت وراءها اقتصاداً متهالكاً وشباباً يبحث عن وظيفة ما وراء البحار.
تتجه آراء بعض الخبراء إلى ضرورة صياغة استراتيجية أميركية جديدة للتعامل مع الربيع العربي الذي لم ينته بعد، وإن هدأ بعض الشيء.
فما زالت البطالة والهجرة غير الشرعية والإرهاب أشباحاً تحوم غير بعيدٍ حول المنطقة التي يعد شبابها الأكثر تضرراً.
والآن بعدما صادق مجلس الشيوخ الأميركي أخيراً على تعيين مساعد لوزير الخارجية للشؤون الإفريقية، وأصبح هناك مديرٌ رفيع المستوى للشؤون الإفريقية في مجلس الأمن القومي الأميركي، حان الوقت لكي تعيد أميركا هيكلة سياساتها في المنطقة.
في الدول العربية.. العنصر الأخطر ليس النفط بل الشعوب
واعتبر الصحافي المغربي أحمد شراي في مقال بمجلة The National Interest الأميركية، أن العنصر الأخطر الذي يثير الاضطراب في العالم العربي ليس النفط، بل الشعوب.
فإذا لم تشجع أميركا النمو الاقتصادي والحكم الذي يُمثِّل إرادة الشعوب، ستجتاح الهجمات الإرهابية والهجرة المُزعزعة للاستقرار أوروبا والولايات المتحدة وتُدمِّرهما، على حد تعبيره.
واعتبر أن "موجات المهاجرين التي تتوافد إلى سواحل حلفاء أميركا الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تهدد سلامتهم، وكذلك ملايين الشباب العرب والأفارقة الذين يمكثون في أوطانهم".
وقال شراي إن بعض الحركات الشبابية تُهدِّد بإطاحة حلفاء أميركا في الدول العربية. فما يسمى بالربيع العربي لم ينته بعد، بل انحسرت أخباره ببساطة في عناوين الصحافة الغربية.
وجدير بالذكر أنَّ معظم حركات الهجرة والاضطرابات الداخلية تكمن وراءها نفس الأسباب الأساسية.
وحدد شراي سببيْن رئيسييْن وراء حركات "الربيع العربي" في عامي 2010 و2011، مع أنَّ بعض العوامل الإقليمية والمحلية الأخرى أدَّت دوراً داعماً.
فهم التركيبة السكانية واحتضان الطموحات السياسية والاقتصادية مفاتيح الاستقرار
أولاً: أحد الأسباب الرئيسية هو التركيبة السكانية، فالمجتمعات العربية تُمثِّل هرماً تشمل قمته الصغيرة السكان فوق سن الستين، ويوجد السكان بين سن الثلاثين والستين في منتصف الهرم، وقاعدته الضخمة تمثل الشباب تحت سن الثلاثين.
يمثل الأشخاص دون سن الثلاثين أكثر من نصف السكان في المغرب والجزائر وتونس.
وصحيحٌ أنَّ الفرص التعليمية المتزايدة خفَّضت معدلات الخصوبة لدى الفتيات والنساء، لكنَّ معدل الإنجاب ما زال يتجاوز طفلين لكل امرأة في سن الإنجاب.
باختصار، هذا معدل يفوق معدل تجديد الأجيال، ممَّا يعني أنَّ عدد السكان سيستمر في النمو في المستقبل المنظور، وهذا عكس الواقع الديمغرافي في أوروبا والكثير من دول العالم الصناعي.
ثانياً: تُعد الطموحات الاقتصادية والسياسية من بين العوامل المساهمة أيضاً.
إذ يُطالب الشباب العرب تحت سن الثلاثين بوظيفةٍ ونمو اقتصادي وأن يكون لهم رأيٌ مسموع في النظام الذي يحكمهم.
وقال شراي إنهم يريدون اقتصادات حرة تسمح بتأسيس الشركات بسهولة وخلق فرص عمل بأجور تتيح لهم الزواج وتأسيس عائلات.
واعتبر أن الشباب يريدون حكومات أكثر حرية لا تخنق طموحاتهم الاقتصادية بمطالب بيروقراطية للحصول على تراخيص (ودفع رشوة في بعض الأحيان لتجنُّب المتاهة الإدارية الحكومية)، بالإضافة إلى مسؤولين حكوميين ينصتون إلى مشاغلهم.
مطالب لم تتغير منذ الربيع العربي.. ولكن تغيرت وجوه قادته
هذا بالضبط ما قاله المتظاهرون في بداية الربيع العربي، ولم تتغير هذه المطالب الأساسية.
ما تغير هو قيادة الحركة الشبابية؛ إذ سيطرت في البداية جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية على الاحتجاجات في العديد من الدول العربية، لأنَّها كانت تمتلك تنظيماتٍ سرية موجودة سلفاً كانت تحاول تقويض سلطة الدولة.
وفور تولي جماعة الإخوان السلطة، أصبحت المطالب أكثر تديُّناً ورمزية، وتبخَّر الدعم الشعبي للانتفاضات.
الشباب يحاولون استعادة القيادة في فضاء العالم الرقمي
ولكن الآن، ظهرت حركات شبابية مرة أخرى على شبكات التواصل الاجتماعي.
يُمكّن فيسبوك وتويتر القادة الشباب من الوصول إلى حشود افتراضية من الشباب دون سن الثلاثين. بينما لا يتمتع عملاء جماعة الإخوان الموجودون في الشوارع بأي سلطة في هذا العالم الرقمي.
ولا يملك وكلاء الحكومة أيضاً أي سلطة على هذا العالم.
ومن ثَمَّ، أصبح القادة الذين يسعون نحو تحقيق نمو اقتصادي وحكومة تمثل إرادة الشعب يُحرِّكون الآن أعداداً كبيرة من المتابعين على الإنترنت، ويشكّلون تحدياً متزايداً لبعض الحكومات العربية.
الأردن والمغرب نجحا في تجنب الاضطرابات حتى الآن
جديرٌ بالذكر أنَّ الأردن والمغرب تجنَّبا هذه الاضطرابات؛ لأنَّ الأنظمة السياسية فيهما أظهرت مرونة وسرعة استجابة.
ومن المثير للاهتمام أنَّ البلدين خاضعان لنظام الحكم الملكي، الذي يُعد من أقدم أشكال الحكم. ومع ذلك، يبدو أنَّهما أفضل تجهيزاً للتعامل مع التحدّيات الرقمية.
في الرباط.. سرعة في الاستجابة وحكومة مسموحٌ بمساءلتها
إذ دعا الملك المغربي محمد السادس، في خطابٍ تاريخي يوم 9 مايو/أيار 2011، إلى انتخاب حكومة جديدة لإدارة الشؤون الداخلية مع الحفاظ على حقوق المرأة والأقليات الدينية (خاصةً المسيحيين واليهود).
وتبدَّدت حركة الربيع العربي في المغرب تقريباً بعد تصديق الشعب المغربي على الدستور وانتخاب حكومة جديدة. لقد حصل الشباب على ما يريدون: اقتصاد أكثر حرية وحكومة أكثر حرية وقابلة للمُساءَلة أمام الشعب نفسه.
لكن البطالة ما زالت تُلهب الشارع المغربي
لكنَّ مسألة النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل ما زالت تُمثِّل معضلة مريرة.
فمع أنَّ اقتصادات المغرب والبلدان المغاربية الأخرى تنمو بنسبة تزيد على 3%، ما زالت معدلات البطالة أعلى من 9%.
وتصل إلى نسبة أعلى قليلاً بين الفئة السكانية النشطة سياسياً تحت سن الثلاثين.
وعاد المتظاهرون العاطلون عن العمل إلى الشوارع وعجَّت شبكات التواصل الاجتماعي برسائل غاضبة تشير إلى أنَّ الشباب فقدوا الثقة في جميع الأحزاب السياسية.
ولجأ بعض الشباب اليائسين إلى العنف، ويشنون هجوماً لفظياً في بعض الأحيان على رموز الدولة والملك نفسه.
ومع تزايد الاضطرابات الداخلية، تزداد الرغبة في الهجرة
تفصل المغرب عن إسبانيا 9 أميال فقط (14.5 كيلومتر) من الماء. ويَسعَد المُهرِّبون بتهريب الشباب عبر القناة التي تفصل العالم الثالث عن العالم الأول مقابل المال.
إذ ظهرت تنظيمات عصابية لنقل المهاجرين الباحثين عن حياة اقتصادية أفضل، وغالباً ما يدخلون في عمليات تبادل إطلاق نار مع القوات البحرية المغربية والإسبانية.
لقي مئات الآملين في حياةٍ أفضل حتفهم بالقرب من مصبِّ البحر الأبيض المتوسط في العام الجاري 2018.
لذلك، أصبحت الحاجة إلى الإصلاح مُلحَّة. ويحتاج المغرب إلى توسيع اقتصاده بنسبة 7% سنوياً على الأقل فقط من أجل استيعاب الشباب الذين يتركون المدرسة وينضمون إلى سوق العمل.
لكن الملك مقيَّد بالبيروقراطية والحاجة للتنمية شديدة
لكنَّ سلطة الملك مُقيدة بالدستور الديمقراطي، الذي أُقِرَّ في عام 2011.
إذ لا يستطيع تغيير الحكومة أو التحكم في البيروقراطية. ويقتصر دوره على ضمان استقرار البلاد عبر تقديم رؤية لمسارٍ يمكن للحكومة المنتخبة اتّباعه.
وقد فعل ذلك بصياغته رؤيةً جريئة في سلسلة من الخطابات، ألقى آخرها في يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول في البرلمان.
واقترح نموذجاً جديداً للتنمية يُعزِّز التماسك الاجتماعي والعدالة الإقليمية. ويزيد هذا النموذج كذلك الفرص السانحة للمزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة والمهنيين.
وهذا مشروع ضخم؛ لأنَّ النموذج الحالي يركز الجهود على قطاعات صناعية معينة، مثل صناعة السيارات.
فبينما فتحت شركة رينو مصنعاً بالقرب من مدينة طنجة المغربية وفتحت مصانع أخرى لقطع غيار السيارات، يظل هذا غير كافٍ، لأنَّه لا يحل أزمة بطالة الشباب ولا يعالج أوجه عدم المساواة بين المناطق الحضرية والريفية.
لكن إذا نُفِّذت تلك الرؤية الجديدة، يمكن أن تجعل المغرب نموذج عمل للمنطقة بأكملها.
إدارة دونالد ترمب تواجه تحدياً صعباً مع الربيع العربي والدعم الاقتصادي يبطئ تدفق الهجرة
هذا النهج الجديد بحاجة إلى دعم من القيادة الأميركية، على حد رأي الصحافي المغربي.
إذ ينبغي أن يصبح المغرب، الذي يعد شريكاً بالفعل في مكافحة الإرهاب، شريكاً في النمو الاقتصادي والإصلاح السياسي كذلك.
وسيحتاج المغرب إلى مساعدة الولايات المتحدة مع المؤسسات الدولية، بما في ذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وإلى دعم الرأي العام في الخطب والبيانات العامة.
فمن شأن رؤية مشتركة لنمو اقتصادي وحكومة ديمقراطية أن ترضي الحركات الشبابية وتحوِّل العالم العربي وتُبطئ تدفق الهجرة (التي تؤدي إلى عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في أوروبا).
فالديمقراطية وحدها لا تُطعم الخبز!
وإذا تجاهلت أميركا هذه الفرصة، ستكون العواقب مأساوية.
وستقع المزيد من وفيات المهاجرين في أعالي البحار والمزيد من الاضطرابات في أوروبا.
وإذا خَلُصت الحركات الشبابية إلى أنَّ الديمقراطية لا تستطيع توفير الوظائف وتحقيق الآمال، سينشأ اهتمامٌ مُتجدِّد بالتطرف الإسلامي.
وستنتقل المعارضة من مجرَّد تغريدات على شبكات التواصل الاجتماعي إلى قنابل على الأرض ستنفجر في الدار البيضاء وخارج البيت الأبيض.