هل يطمح العسكريون فعلاً للعب دور سياسي في البلاد أم أنهم يفضلون البقاء بعيداً؟.. الحقائق والأوهام عن الجيش الجزائري

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/29 الساعة 21:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/29 الساعة 21:34 بتوقيت غرينتش

ترَكَّزت التطورات السياسية في الأشهر الأخيرة حول دور الجيش الجزائري للعب دور سياسي، وبالتحديد التغييرات المهمة في صفوف كبار المسؤولين العسكريين، والدعوة إلى "فترة انتقالية" سياسية برعياة الجيش.

في أواخر أغسطس/آب، أُقيل 4 من القادة الستة للمناطق العسكرية في الجزائر، وهي خطوة جاءت بعد إقالة قائد الشرطة العسكرية وخمسة من القادة الستة لسلاح الدرك الوطني.

دفعت هذه الموجة من الإقالات هذا الصيف الجميع للتعليق والتخمين. وهي تتزامن أيضاً مع فضيحة سياسية كبيرة تتعلق بالمخدرات تابعها كل الجزائريين بحالة من الذهول، صُودِرَ فيها 701 كيلوغرام من الكوكايين في ميناء وهران غرب البلاد. وحين تضع مجموعة النظريات التي تحاول تفسير التطورات المذكورة أعلاه إلى جانب ما يبدو أنَّه فترة ولاية خامسة محتومة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، يصبح فصل الحقيقة عن الوهم عملاً صعباً ومعقداً، بحسب تقرير لموقع  The Middle East Eye البريطاني.

وعلى سبيل المثال الدعوة التي وجهها أحد أطراف المعارضة السياسية. في منتصف يوليو/تموز، فاجأت حركة مجتمع السلم (الحزب الإسلامي الرئيسي في الجزائر) الكثيرين من خلال مناشدة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي ونائب وزير الدفاع الفريق أحمد قايد صلاح للمساعدة  في "حل أزمة البلاد" وتمهيد الطريق "للانتقال الديمقراطي".

استبعاد التدخل المباشر للجيش

حتَّى قبل أن يحظى الفريق بفرصة للرد على زعيم حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري، كانت جماعات المعارضة في قمة الاحتجاج والغضب. وقال متحدث باسم الحزب العلماني "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية": "مشاركة الجيش في إدارة المأزق الحالي بشكل مباشر لا يمكن أن تشكّل حلاً معقولاً وذا مصداقية للأزمة السياسية الراهنة".

أما بالنسبة للشخص الذي ناشده مقري، فأجاب قايد صالح بالرفض، مُصراً على الموقف الذي كان قد اتخذه منذ تعيينه رئيساً للأركان في عام 2004، إذ قال في يوليو/تموز: "أصبح من السنن غير الحميدة، بل أصبح من الغريب وغير المعقول، بل وحتى غير المقبول، أنَّه مع اقتراب كل استحقاق انتخابي، وبدلاً من الاهتمام بالعمل على كسب ثقة الشعب الجزائري من خلال الاهتمام بانشغالاته المُلِّحة، يتعمد بعض الأشخاص وبعض الأطراف الابتعاد عن صلب الحنكة السياسية".

ورداً على دعوات تدخل الجيش في الساحة السياسية، قال: "لقد سبق لي الإشارة والتوضيح بإلحاحٍ شديد، على أنَّ الجيش الوطني الشعبي يعرف حدود ونطاق مهامه الدستورية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إقحامه في المتاهات الحزبية والسياسية". وأصرَّ رئيس الأركان على أنَّ نظامه لم يكن لديه أجندة سياسية.

من المُسَّلم به أنَّه في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئيسية، والانتخابات الرئاسية على وجه الخصوص، ركزَّ خطاب المعارضة على الحاجة إلى التغيير السياسي وعلى مسؤولية الجيش "لضمان" هذا الانتقال. وتؤكد المعارضة أنَّ الأزمة السياسية الحالية يمكن أن تُعزى إلى بوتفليقة، الذي تولى السلطة منذ عام 1999 (وهو رقم قياسي)، والذي أدت صحته المتدهورة إلى اهتزاز النظام، وعجز عن تجديد نفسه، ومع ذلك يظل مقاوماً لفكرة تغيير الحكومة.

وتنبع مناشدة الجيش، وهو "الفيلق الوحيد المنظم بقوة" كما يقول الأدب الجزائري المدفوع سياسياً، من إدراكٍ دائم للدور الرئيسي والنفوذ الذي يتمتع به الجيش الوطني الشعبي. وقال ضابط جزائري سابق لموقع Middle East Eye البريطاني: "هناك هوس مَرضي في الجزائر وأماكن أخرى -وفي فرنسا على وجه الخصوص- بالنظر للجيش بوصفه "صانع الملوك".

نظرة غير واقعية للجيش الوطني الشعبي

تحدَّث بمرارة أحد ضباط الاستخبارات رفيعي المستوى المتقاعدين قائلاً: "وسائل الإعلام الفرنسية واللاعبين السياسيين الفرنسيين لن يتخلوا أبداً عن أوهامهم بكون الجيش الجزائري عبارة عن مجموعة من الجنرالات الفاسدين المتعطشين للدماء الذين يخططون لانقلاب، جيش من العرب المتخلفين الذين يأكلون لحوم البشر. في أعينهم، لا يمكن أن نكون شيئاً سوى ما تمليه عليهم تصوراتهم العنصرية المتعالية. ولا يمكنهم رؤية الجيش الجزائري أو السياسة الجزائرية بشكلٍ عام من منظور آخر".

إذن ما هي حقيقة الأمور؟ الجيش الجزائري غير عادي، لأنَّه كان موجوداً تماماً قبل الحكومة الجزائرية. وهيكلة جيش التحرير الوطني، الجناح المسلح لجبهة التحرير الوطني، إبان حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962)، وتأسيس الخدمات السرية، التي كانت قائمةً قبل الاستقلال، والانتشار الكادح للمؤسسات الوطنية الحكومية الوليدة، كلها عوامل حددَّت نظرتنا للواقع السياسي للجزائر.

وأكد رشيد بن يلس في عرضه لمذكراته "داخل أروقة السلطة" في الجزائر العاصمة في مايو 2017 أنَّ "الجيش في الجزائر ليس هو صانع القرار. بل خلافاً للاعتقاد الشائع، كان الجيش دائماً تحت تصرف أصحاب القرار".

الجنرال اللواء المتقاعد بن يلس، الذي كان أميناً عاماً لوزارة الدفاع ووزيراً في حكومة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، يعرف ما يتحدث عنه من حيث المبدأ، إذ قال: "على سبيل المثال، [الرئيس هواري] بومدين لم يشارك الجيش أبداً في صنع القرار، وأعني صنع القرارات الاقتصادية الاستراتيجية، حتَّى أنَّه منع السياسيين من الاقتراب من الجيش. لم تكن الأمور في إطار الديكتاتورية العسكرية المعروفة، بل كانت أقرب إلى النظام الاستبدادي".

بالطبع، هناك ثغرة في هذه النظرية، كما يشير الجنرال السابق من خلال ذكره لتدخل الجيش في عام 1992 بعد انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

هل تقدير دور الجيش الجزائري مبالغ فيه؟

ربما يجب أن نتذكر هنا دور القيادة العسكرية العليا بعد اختفاء شخصية بومدين الأبوية، وتعيين الرؤساء بن جديد (1979-1992) واليامين زروال (1994-1999).

قال مسؤول سابق بوزارة الدفاع الجزائرية لموقع MEE البريطاني في معرض حديثه عن الطريقة التي كان يتصرف بها الجيش في مثل هذه الظروف: "ليست القيادة العليا كلها هي التي تُقرر، فقط عدد قليل من كبار الضباط بجانب رئيس الأمن العسكري".

وتحدث وزير سابق في سياق مشابه قائلاً: "من الضروري هنا تحديد مفهوم رئيسي، تحديداً ما المقصود بكلمة "الجيش"، هل القوات كاملةً أم مسؤوليه الكبار فقط على مستوى النخبة؟ نحن نشير إلى القادة العسكريين الذين يعملون تحت سلطة الرئيس، والذين يتدخلون عندما يجد "المدنيون" أنفسهم أمام طريقٍ مسدود".

من الواضح أنَّ جزءاً معقولاً من المعارضة يعرف من يتحدث معه عندما يدعو إلى تدخل قيادة الجيش الوطني الشعبي. هل يمكن أن يكون دور الجيش في الساحة السياسية الجزائرية مبالغاً فيه؟

نعم ولا. بالنظر إلى عدم استقرار مؤسسات الدولة، المحصورة في مدار السلطة الرئاسية، يظهر "الجيش الوطني الشعبي" على أنَّه "نظام قوي ومتماسك". والواقع أنَّ الشرعية التاريخية التي اكتسبها الجيش منذ الاستقلال في عام 1962 واستعراضه للقوة في السنوات العشرين الماضية جعلته قوة استقرار في بناء سلطة الدولة.

وزن التاريخ

كتبت الباحثة راديجة نيمار: "لقد أدى الجيش دوراً مهماً في بناء سلطة الدولة، إذ قدَّم نفسه فاعلاً تاريخي في سيناريو بناء الأمة الجزائرية. وبصفته المتمتع الرئيسي بالشرعية السياسية للدولة، انسحب من السلطة الرسمية لكي لا يضطر إلى التعامل مع الأعمال الحكومية اليومية. دوره محفوظ من خلال خطابه الشعبوي الذي يروج لنفسه كقوة تقدمية للإصلاح في الجزائر، الأمر الذي من شأنه أن يُبرر تدخلاته اللاحقة عندما تتعرض الأمة التي بُنيت على هذا النحو للتهديد".

,قال أحد كبار الضباط السابقين: "أحياناً نجد أنفسنا ملزمين أخلاقياً بدخول الساحة السياسية".

في يونيو/حزيران الماضي، قال وزير الدفاع السابق الجنرال المتقاعد خالد نزار في إحدى الفعاليات التي عرض فيها مذكراته: "كنا نُشَد إلى السياسة رغم أنفسنا". لقد وُسم جيل كامل من قادة الجيش بشكلٍ كبير بالاستثناء الفارق في التسعينيات، عندما كبح الجيش صعود الإسلاميين. وجد كبار الضباط أنفسهم متورطين في السياسة "ضد إرادتهم"، وأصبحوا أكثر نفوذاً نظراً للانهيار الفعلي للمؤسسات العامة، وهلع النظام العسكري الدائم من الاقتتال الداخلي.

وبعد عشرين عاماً، وعلى الرغم من أوجه القصور المستمرة، جعلت القيادة القوية والاستراتيجية الواضحة من حيث التدريب والدفاع وبرامج الأسلحة والاتصالات من الجيش الوطني الشعبي أحد أقوى الجيوش في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اليوم.

وقال ضابط متقاعد: "في تلك الأثناء، وضعت فترة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول نهايةً للشكوك المستمرة التي أصابت الجيش الجزائري في التسعينيات، عندما نُظِر إليه في النهاية كشريك ومثل يُحتذى به في مكافحة الإرهاب". وتحدث محمد شفيق مصباح، وهو عقيد سابق في الخدمة السرية، عن جيل جديدٍ من القادة العسكريين "الذين يتمتعون بالكفاءة العالية ولديهم رؤية منفتحة للمجتمع المعاصر".

العنصر البشري

هناك خاصية مميزة  أخرى للجيش الجزائري، وهي العنصر البشري في جميع مستويات القيادة. يقول مصباح: "يأتي معظم القادة العسكريين الجدد من الطبقات الاجتماعية الدنيا، وفي أفضل الأحوال، من الطبقة الوسطى. وهم منغمسون تماماً في الواقع الاجتماعي. وفي حين أنَّهم محايدون سياسياً، فهم دائماً ما يولون اهتماماً فائقاً للصعوبات التي يواجهها الشعب الجزائري والعقبات التي تقف في طريق التنمية الوطنية".

والتغيرات التي حدثت داخل الجيش الوطني الشعبي خلال العقدين الماضيين ليصبح مؤسسة أكثر احترافية، إلى جانب طموحه في تعزيز هيكله التكنوقراطي، تصب مباشرةً في مصلحة بوتفليقة، الذي كان يستغل بحنكة احترافية الجيش لصقل صورته كرئيسٍ مدني نجح في إبقاء الجيش بعيداً عن السياسة.

وأسهمت التغيرات التي أدت إلى حل دائرة الاستعلام والأمن في عام 2016، التي تحولت في غضون 25 عاماً إلى وحشٍ أمني متضخم، في زيادة تطبيع وتحسين صورة الجيش بعد أحداث التسعينيات المدمرة. وقال أحد كبار المسؤولين الحكوميين قبل عقدٍ من الزمن: "لقد أردنا أن نحاول جعل جهاز الخدمة السرية السياسي جهاز استخبارات حديث على أرض الواقع".

والتغييرات الأخيرة في قيادة الجيش "هي جزء من عملية مستمرة لتحويل الجيش الوطني الشعبي إلى جيش محترف، وجيش تحت سلطة قائد واحد، وهو الرئيس، وليس تكتلاً محتملاً لكبار القادة أصحاب النفوذ" حسبما قال مسؤول وزارة الدفاع. وفي رأيه، فإنَّ محاولات ربط هذه التغييرات بالمشهد السياسي الحالي "لا تبدو صحيحة".

ضبط التفاعل المدني/العسكري

قال أحد الوزراء السابقين الذي تولى منصبه خلال التسعينيات: "يحدِّد الأجندة مكتب الرئيس بالتعاون الكامل مع رئيس الأركان". وسارع الوزير السابق إلى الإشارة إلى المخاطر التي تنطوي على ضبط التفاعلات بين السلطات العامة والجيش.

ومع ذلك، كما قالت لويزا دريس-آيت-حمدوش الخبيرة في العلوم السياسية في تصريحٍ لموقع  MEE في سبتمبر/أيلول 2015: "تنطوي هيمنة السياسة على الجيش على وجود وسائل مدنية للرقابة على الجيش، مثل اللجان داخل وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع الوطني".

وبدون تلك الرقابة، سيستمر الصراع على السلطة في ظل الانقسام المدني العسكري.

وعلَّق أحد الجنرالات السابقين قائلاً: "الضابط الأعلى رتبة في الجيش الوطني الشعبي هو المواطن. هذا ما نقوله لضباط المستقبل باستمرار. نحن بحاجة إلى العمل على جعل هذا الشعار حقيقةً. ولكي يصبح حقيقة، يجب على السياسيين أن يتعلموا ألا يجرونا إلى ساحتهم بلا تردد".

وأضاف أنَّ السؤال المطروح هو: "هل هم يريدون دولةً يحكمها الشعب أم لا يرغبون في ذلك؟".

علامات:
تحميل المزيد