الصراع بين “الأتراك السود” و”الأتراك البيض”.. كيف نجحت ثورة أردوغان “الصامتة” في حمل المتمسكين بجذورهم العثمانية إلى الحكم على حساب أبناء الجمهورية؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/26 الساعة 16:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/27 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش

وضعت المعركة الانتخابية في تركيا أوزارها، لكن يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي اتخذ لنفسه مكاناً بين المجموعة الناشئة من حكام العالم الأقوياء بعد فوزه بالرئاسة مجدداً أمام معركة جديدة ربما تكون أصعب.

أوغور غرسيس، وهو مصرفي سابق وكاتب عمود في صحيفة حريت التركية، قال بحسب The New York Time إن أردوغان "حقَّقَ فوزاً مُقلِقاً جداً. ولكن لديه الآن في جعبته عدة مشاكل".

وتولى حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان الحكم في عام 2002 حيث حقق الاقتصاد منذ ذلك الوقت قفزة نوعية، إذ استطاع الحزب إنقاذ البلاد من واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية التي وقعت في نهاية التسعينيات، وذلك بعد انهيار الليرة التركية بنسبة 100% وارتفع التضخم إلى مستويات قياسية، حيث وصل إلى 70% وأفلست على إثرها نصف البنوك التركية، ووصلت معدلات البطالة مستويات خرافية.

يواجه حزمة من الأزمات الاقتصادية

وبحسب الصحيفة الأميركية يجابه أردوغان عدداً من المشكلات الاقتصادية، مُتمَثِّلةً في شعبٍ يزداد سخطه وعلاقات متدهورة مع حلفاء تركيا من بلاد الغرب. ومن بين المشكلات العديدة التي يواجهها أردوغان، حاجزٌ رئيسيٌّ أمام خطاه يتمثَّل في كون سياساته الخارجية تتعارض مع احتياجاته الاقتصادية.

الصحيفة الأميركية اشارت إلى أن النزعة القومية التي يتبناها اردوغان والتي تعادي الغرب تُنفِّر المستثمرين الأجانب، مما يضر بالليرة التركية. ومع انخفاض العملة، تفرُّ رؤوس الأموال المحلية.

في المقابل يؤكد المسؤولون الأتراك أن السياسة التي ينتهجها أردوغان هي التي نقلت تركيا اقتصادياً، إذ أرجع المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، سر فوز مرشح "تحالف الشعب" للرئاسة، رجب طيب أردوغان، في انتخابات الأحد الماضي، إلى حفاظه لسنوات طويلة على نمو الاقتصاد التركي، وخلقه نظام سياسي أكثر مرونة وشمولية مما كان عليه في السابق، إلى جانب تسهيل انخراط جميع فئات المجتمع في عدة مجالات، منها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي".

وأكد قالن أن "سر نجاح أردوغان الدائم يكمن في إعطائه الأولوية للشعب، حيث أنه تجاوز الخلافات السياسية الحزبية التي لا تنتهي، ليعمل بلا كلل من أجل رفع مستوى الملايين من الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وذلك من خلال الاستثمار في مختلف المجالات، وفي مقدمتها، التعليم والصحة والبنية التحتية والطرق والمطارات والإسكان العام".

وارتفعت قيمة الليرة التركية على استحياء مع الأخبار المتواترة التي تشير إلى إعادة انتخاب أردوغان، فيما نشر أبرز مستشاريه الاقتصاديين رسالة على موقع تويتر مساء الأحد، قال فيها "يمهد هذا المرحلة من أجل تسريع الإصلاحات".

أكثر المشاكل إلحاحاً

وترى الصحيفة الأميركية أن الاقتصاد يشكل أكثر المشاكل إلحاحاً التي تواجه أردوغان، إلا أن بعض المعارضين لأردوغان شككوا في القدرة على إجراء العملية العلاجية الضرورية، وقدَّموا التدابير التقشُّفية اللازمة في ظلِّ الانتخابات المحلية المزمع عقدها في مارس/آذار 2019.

وقال قدري غورسيل، وهو كاتب عمود في صحيفة جمهوريت تعرَّض للسجن على يد أردوغان لمدة 11 شهراً، إن "التحدي الأول الآن هو تدهور الاقتصاد، وأردوغان لا يملك أي وسائل، ولا أي منظور لتغيير مسار الأحداث".

وأوضح غروسيل أن أردوغان لم يُقدِّم أيَّ أفكارٍ خلال حملته الانتخابية حول تفسير الطريقة التي سيرتقي من خلالها بالاقتصاد، فيما عدا مزيداً من نفس الأشياء. وأضاف غروسيل قائلاً: "لم يستطع أن يُقدِّم رؤية للمستقبل. وكل ما استطاع أن يُقدِّمه كان مشروعات بنية تحتية وتمثيل سيئ للماضي".

ولكن  أردوغان انتقد بعض الجهات التي تدّعي بأنّ حالة الطوارئ المعلنة في البلاد عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، تعيق الاستثمارات في تركيا، قائلاً في هذا الخصوص: "حالة الطوارئ لم تُعلن في البلاد إلّا لمكافحة التنظيمات الإرهابية، وليس لها تأثير على عالم الأعمال والاقتصاد".

ومع التأكُّد من نتائج الانتخابات، لا يزال أردوغان يُبقي على الدعم القوي القادم من الإسلاميين الذين يتمتَّعون مؤخراً بحالةٍ من الازدهار، بعد أن تعرَّضوا للتهميش لعهودٍ طويلة في ظلِّ الجمهورية العلمانية التي أسَّسَها مصطفى كمال أتاتورك.

تغيرات اجتماعية في تركيا

ولعل التغير الكبير الذي شهدته تركيا على الأقل في ال15 عاماً الماضية وهي فترة حكم حزب العدالة والتنمية الذي يوصف بأنه صاحب انتماء إسلامي قد شهد تحولاً في طبيعة الطبقة الاجتماعية الحاكمة، وقد يفسر ذلك النظرية التي سكتها الخبيرة الاجتماعية السياسية، نيلوفار غولا، في منتصف التسعينيات، والتي قسمت المجتمع إلى الأتراك البيض والأتراك السود والأتراك الرماديين وذلك بعد تعرض الشريحة المحافظة من المواطنين الأتراك للإقصاء والإجراءات الاستئصالية بحقهم.

الشرائح الرئيسية في تركيا.. نظرية تفسر أسباب الاختلاف بين أبناء المجتمع الواحد.

وأرادت غولا بهذه المصطلحات تعريف الشرائح الأساسية للمجتمع التركي، وتصف غولا "الأتراك البيض" بأنهم الصنف الذي تعود أصوله إلى المدينة، ويرى نفسه أنه النخبة المتقدمة التي أسست الجمهورية التركية التي يجب الحفاظ على جذورها وفقاً لمبادئ العلمانية والتقدمية والأفكار الغربية.

ويتألف هذا القسم، وفقاً لغولا، من تحالف يضم الجنرالات ورجال الدولة المدنيين رفيعي المستوى والمفكرين الذين يدرسون في الخارج، خاصةً في الدول الغربية، ويضم هذا القسم ثلة تحتضن مواطنين من الطبقة الثرية التي يؤيدها ثلة من مواطنين الطبقة الوسطى، وتبني هذه الطبقة ثراءها من خلال العلاقات الشخصية الموجودة بين منتسبيها العسكريين والمدنيين، يُعرف هؤلاء المواطنون بملابسهم "الحرة" التي يصفها الطرف الآخر "بالخليع"، وأحاديثهم المدافعة باستماتة عن العلمانية ومبادئ أتاتورك، وآنذاك وصفت غولا هذا القسم لقب "الأقلية المسيطرة".

أما "الأتراك السود"، بحسب تعريف غولا، هم المواطنون الذين تعود أصول بعضهم للطبقة المتوسطة والبعض الآخر للطبقة الفقيرة.

وكانوا يتعرضون قبل وصول أردوغان للحكم، لحملات إعلامية "مستحقرة" لهم ولقيمهم التي تشكل جذور الثقافة التركية المحافظة المرتبطة بالتاريخ العثماني والسلجوقي الإسلامي وليس التاريخ الذي يبدأ بتأسيس الجمهورية التركية فقط.

لقد رسمت غولا نظريتها في التسعينيات، وبدا واضحاً، بعد تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا، تلاشي سيطرة "الأتراك البيض" رويداً رويداً على مفاصل الإعلام، عشية تأسيس حزب العدالة والتنمية "ذي الأصول المنحدرة مع السعي لرفع المستوى الثقافي والحقوقي للمواطنين عبر دورات وبرامج التوعية، والقضاء على حالة "التجهيل" التي اتبعها "الأتراك البيض"، وفقاً لما تشير إليه غولا، من خلال تأسيس جامعة في كل مدينة تركية، وفتح الباب أمام جميع المواطنين الأتراك بلا استثناء للظفر بفرصة الدراسة في الخارج على نفقة الدولة.

لكن جميع هذه الخطوات تمت رويداً رويداً، أي بالتدرج الذي وُصف على أنه "ثورة صامتة" قامت بتغيير الوضع في تركيا من خلال بناء هيمنة ثقافية وإعلامية وعلمية واجتماعية واقتصادية ومؤسساتية دولتية ـ شملت مؤسستي الشرطة والجيش اللتين لعبتا دوراً أساسياً في صد انقلاب الجنود التابعين لجماعة غولن في 15 من تموز/يوليو، ومن ثم تحصين هذه الثورة التي غيرت دعائم الدولة بشكل أساسي بمواد دستورية  توفر "للأتراك السود" ـ الفئة الأكثرية ـ ضمان الاستمرارية في حكم أنفسهم بأنفسهم، والتمتع بحقوق العيش الحر المحافظ أو العلماني أو الليبرالي البعيد عن قوانين العلمانية "الاقصائية".

انتقادات للأتراك السود

إلا أن الصحيفة الأميركية عادت وأشارت إلى أن هناك انتقادات موجهة للأتراك السود أو الرماديين (السود الذين تحسن وضعهم) وتحديداً الإسلاميين، إذ قال بكير أغيردير، مدير مؤسسة استطلاعات آراء، إن انتقال السلطة والثروة إلى هؤلاء الوافدين الجدد خلال الـ15 عاماً الماضية يُشكِّل انتقالاً لرأس المال يُغيِّر تركيا على الدوام.

وأضاف أغيردير: "الحكومة تدعمهم، فيصعدون ويصبحون ناجحين. إنها هندسة سياسية واجتماعية".

في المقابل قال الرئيس التركي قبل الانتخابات، إنه كان وما زال يدعم كل من يساهم في نمو الاقتصاد التركي، بصرف النظر عن توجهاته وانتماءاته السياسية.

وبالرغم من الضرر المالي الذي يتعرَّض له المواطنون الأتراك العاديون، لا يزال هؤلاء يثقون بكلِّ وضوح في أردوغان. قال أزغور أونلوهيسارسيكلي، مدير مكتب صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة في أنقرة، خلال مقابلةٍ معه، إن "هناك هذا القلق حول: ما الذي سيحدث إذا رحل أردوغان؟".

وأضاف: "الاقتصاد يعاني، وتوجد مشكلةٌ تتعلَّق بالأداء في بعض المجالات، لكن هذه الأمور لم تنعكس على التصويت".

يقول خبراء الاقتصاد إن أردوغان يحتاج إلى خفض الإنفاق العام، بما في ذلك الدعم المُكلِّف للكهرباء والوقود.

اقترضت تركيا كثيراً في الأعوام الأخيرة من أسواق رؤوس الأموال الدولية، وتواجه في الوقت الحالي استحقاقاً سنوياً بقيمة 250 مليار دولار للوفاء بالدين والحساب الجاري للبلاد، الذي يأخذ هو الآخر في التدهور. يمكن أن يجبر هذا على الاستعانة بصندوق النقد الدولي.

لكن قليلين يقولون إنهم يعتقدون أنه سيتَّخِذ التدابير الضرورية.

قال غرسيس، كاتب صحيفة حريت: "يجب على أردوغان أن يجري عمليةً جراحية على الاقتصاد.

ونفى صندوق النقد الدولي، الجمعة، 22 يونيو/حزيران 2018 ادعاءات تتعلق باستعداد تركيا لطرق أبوابه في المرحلة القادمة لطلب دعم مالي.

وكذّب مسؤول في صندوق النقد، ما بثته قناة "دويتشه فيله" الألمانية، الخميس، في خبر لها بعنوان: "التأهب من أجل تركيا"، وأشار إلى عدم وجود أي موضوعات تتعلق بتقديم دعم مالي لتركيا.

وفي ضوء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، تقول الصحيفة الأميركية يبدو أنه سيكون لزاماً على أردوغان تهدئة سياسته الخارجية، وتخفيف نبرته وسياساته المعادية للغرب. لكنه يظهر في هيئة رجل يمنعه كبرياؤه عن التراجع، ولا سيما في ظلِّ اعتماده الحالي بدرجةٍ ما على حزب الحركة القومية، الذي حافظ لأردوغان على الأغلبية في البرلمان.

أوضح رئيس الحزب، دولت بهتشلي، أنه سيطالب ببعض التنازلات مقابل دعمه، وأنه سوف يدفع بأجندة مناهضة لسوريا والأكراد والغرب، على الأقل فيما يتعلق بالخطاب الحزبي. وأشار بهتشلي إلى أنه لن يوافق على تواصل أردوغان مع أيٍّ من أحزاب المعارضة بعد الانتخابات.

قال أونلوهيسارسيكلي، مدير مكتب صندوق مارشال في أنقرة، في منشور على موقع تويتر، إن "وزن حزب الحركة القومية يرُجح أن يزداد خلال الفترة القادمة، ليس فقط داخلياً، بل على صعيد السياسة الخارجية، مما يعطي إشارة جيدة على العلاقات التركية عبر المحيط الأطلسي".

سياسة خارجية متوقعة

ويعارض حزب بهتشلي وجود ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا معارضةً شديدةً، وقد قال بهتشلي نفسه إنه سوف يدفع بسياسات تجعلهم يعودون إلى أوطانهم. وأيَّدَ رئيس الحزب كذلك مزيداً من العمليات ضد المُسلَّحين الأكراد داخل تركيا وفي الجارتين العراقية والسورية.

وتعهَّدَ أردوغان في هذا الصدد خلال خطاب فوزه بأنه سوف يتَّخِذ إجراءاتٍ حاسمة ضد المنظمات الإرهابية، وأنه سوف يمضي قدماً من أجل تحرير مزيد من الأراضي السورية من الأكراد المُسلَّحين كي يُمكّن اللاجئين السوريين من العودة إلى بلادهم.

يُرجَّح أن يؤدي ذلك إلى أن تطلب تركيا من الولايات المتحدة إنهاء تعاونها مع الأكراد المسلحين في سوريا، وهي الاستراتيجية التي لجأت إليها في قتالها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وتبقى العلاقات الودية بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين نقطة خلاف مُحتَمَلة، ولا سيما في ما يتعلَّق بالمفاوضات مع روسيا حول نظام الدفاع الجوي إس-400، وهي نقطة إشكالية لأي بلد عضو بالناتو، مثل تركيا.

علامات:
تحميل المزيد