من تورغوت أوزال إلى بولنت أجاويد.. الاقتصاد التركي كان ضحية النظام البرلماني والانقلابات.. ماذا ينتظر تركيا بعد ساعات؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/24 الساعة 05:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/24 الساعة 09:00 بتوقيت غرينتش

تمر الجمهورية التركية بمنعطف هام في اللحظات الحالية، فالانتخابات الرئاسية التي تدور رحاها الآن تمثل تحدياً كبيراً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في ظل مرورها بمحطات تاريخية غيرت شكلها بالكامل بدءاً من تأسيسها على يد مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه عام 1923، وما مرت به الجمهورية من أحداث كبيرة في عام 1950 حين تم إعدام الرئيس عدنان مندريس والذي يشار إليه باعتباره صاحب دور كبير في التأسيس للديمقراطية في تركيا وانتهاء بالإنجازات التي لا تخطئها العين والتي حققها حزب العدالة والتنمية وعلى رأسه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.تميزت فترة السبعينيات – ببروز الحكومات الائتلافية والتي لم تحقق للمواطن التركي ما سعى إليه من استقرار اقتصادي وفشل السياسيون في إدارة الاقتصاد وتأمين الاحتياجات الضرورية للمواطن، فأصبحت طوابير الرز والسكر والزيت وأنبوبة الغاز جزءاً من الحياة اليومية، كما انتشرت فوضى السلاح، والصدامات الدامية في الشوارع والجامعات.

ومع حلول عام 1980 وصلت الأزمة السياسية ذروتها، فقد بدأ ماراتون انتخاب رئيس الجمهورية في البرلمان بتاريخ 22 آذار/مارس 1980. وعقدت حتى 12 أيلول/سبتمبر يوم الانقلاب 114 جولة، لكن الأحزاب السياسية فشلت في التفاهم حول رئيس الجمهورية.

بتاريخ 6 أيلول/سبتمبر نظمت حركة "مللي جوروش" Mill Görüş مؤتمر القدس في مدينة قونية وسط البلاد، حضره ما يقارب المليون شخص، يومها اعتبره كثيرون، وفي مقدمتهم الصحافة، تحدياً للجمهورية ومبادئها.

في الفترة نفسها ارتفعت وتيرة الاغتيالات السياسية، التي طالت رئيس الوزراء الأسبق نهاد أريم، وعدداً من النواب والشخصيات السياسية.

جميع ما سبق جعل الأجواء مهيأة والظروف مواتية لتدخلات الجيش التركي في الواقع السياسي الداخلي باعتباره البديل المنظم والجاهز لإدارة البلاد في ظل تهلهل وضعية السياسيين والأحزاب السياسية في ذلك الوقت.

انقلاب كامل الأركان

 وفي ظل استمرار الوضع المضطرب ومع تبادل الاتهامات بين رجال السياسة والجيش بالمسؤولية عن تدهور الأوضاع في البلاد، فقد تحرك الجيش صبيحة 12 أيلول/سبتمبر 1980، بقيادة رئيس الأركان كنعان أفرين ومعه قادة القوات البرية والبحرية والجوية والجندرمة، وأعلن وضع يده على مقاليد السلطة. لتكون المرة الأولى في تاريخ تركيا التي يقوم فيها الجيش بالكامل بكل مستوياته العسكرية بالانقلاب العسكري والسيطرة على البلاد وليس مجرد مجموعة قليلة من داخل الجيش كما كان يحدث في النسخ الفائتة من الانقلابات

تاريخ حافل من الانقلابات:

تميز انقلاب 1980 بالانتهاكات الواضحة للعيان فقد حكم بالإعدام بحق 517 شخصاً نفذ منها 50 حالة، ومات تحت التعذيب 171 شخصاً، واعتقل 650 ألف مواطن، وتم وضع مليون 683 ألف مواطن تحت المراقبة (تفييش). كما فصل 30 ألف موظف من عمله، وهرب مثلهم خارج البلاد، وسحبت الجنسية التركية من 14 ألف مواطن، ومات 73 في ظروف غامضة، وانتحر 43 مواطناً وذلك وفق التقارير الحقوقية والرسمية.

كانت برقية "أولادنا نجحوا"، المرسلة من الدبلوماسيين الأميركان في أنقرة إلى وزارة الخارجية الأميركية، ليس فقط تشير بوضوح إلى علم واشنطن المسبق بالانقلاب، بل وترحيبها به أيضاً.

صبيحة يوم الجمعة 12 أيلول/سبتمبر 1980 قام "مجلس الأمن الوطني" الذي شكلته السلطة التي قامت بالانقلاب بإعلان الأحكام العرفية في البلاد، وحل البرلمان، وتعليق العمل بالدستور، وإنهاء صلاحيات حكومة سليمان ديميريل، وإغلاق الأحزاب السياسية. وحظر جميع نشاطات منظمات المجتمع المدني، ما عدا جمعية رعاية الطفل.

أول استحقاق انتخابي بعد انقلاب 1980

 انتخابات 1983 كانت الأولى بعد انقلاب 1980، حيث أجريت وفق قانون الانتخابات الجديد، الذي يشترط موافقة مجلس الأمن الوطني على 30 عضواً من مؤسسي الأحزاب السياسية على الأقل.

كما تم سن قانون حاجز 10% الذي يشترط حصول الحزب السياسي 10% فما فوق من مجموع أصوات الناخبين في عموم تركيا لكي يتسنى له دخول البرلمان.

على الرغم من أن السلطة الجديدة التي قامت بالانقلاب سمحت بتأسيس الأحزاب السياسية، لكنها في المقابل منعت جميع قيادات الأحزاب السابقة ونواب البرلمان من أن يكونوا أعضاء مؤسسين في الأحزاب الجديدة، بل ذهبت أكثر من ذلك، عندما أعطت الجنرالات الخمسة الذين يشكلون مجلس الأمن الوطني الحق في منع (وضع فيتو) أي شخص من ممارسة العمل السياسي. بهذه الطريقة منع المئات من ممارسة السياسة.

كان حزب الديمقراطية الوطني برئاسة الجنرال "تورغوت صون ألب"، المدعوم من العسكر أول حزب سياسي حاز على حق المشاركة في الانتخابات، ثم سمح لحزب الشعب الذي يمثل اليسار، ثم حزب الوطن الأم الذي كان يمثل يمين الوسط.

وبالعودة الى الوراء قليلاً فقد جرت انتخابات 1980 في أجواء سياسية رسم رموز الانقلاب معالمها بدقة. لكن رياحها جرت بعكس ما تشتهيه سفنهم. فقد حصد حزب الوطن الأم غالبية مقاعد البرلمان بنسبة 45.1% بواقع 211 نائباً، تلاه حزب الشعب 30.5% بواقع 117 نائباً، بينما حصل حزب الديمقراطية الوطني القريب من العسكر على 23.3% بواقع 71 نائباً، إضافة إلى نائب مستقل واحد.

اللافت في انتخابات 1980 كانت نسبة المشاركة العالية التي بلغت 92.3%. والغريب فيها أن الحزبين اللذين تأسسا بدعم من الانقلابيين، حزب الديمقراطية الوطني وحزب الشعب، قل تأثيرهما بشكل واضح في الحياة السياسية.

حزب الوطن الأم: عودة للإرادة الشعبية

سياسياً نجح حزب الوطن الأم بزعامة تورغوت أوزال في جمع فئات مختلفة يمينية ويسارية ومتدينة تحت مظلته، وتمكن بذلك من كسب شعبية واسعة.

اقتصادياً اتبع أوزال نهجاً ليبرالياً منفتحاً على الأسواق العالمية. قدم أوزال دعماً كبيراً لقطاع الصناعة، ووجه الصناعيين نحو التصدير للأسواق الخارجية، وكان أول سياسي تركي يصطحب رجال الأعمال في أسفاره، فأصبحت سنة من بعده.

كان أوزال مولعاً بالتكنولوجيا الحديثة، وقد بذل جهوداً كبيرة في تحديث أجهزة الدولة وتجهيزها بأحدث المعدات.

اتبع أوزال سياسة الدعم اللامحدود للصادرات، فحقق الإنتاج قفزات كبيرة، دفعت الصناعيين الأتراك للانفتاح على الأسواق الخارجية، من أجل كسب دعم الدولة في البداية، ثم ترسخت ثقافة الانفتاح بعد أن سحبت الدولة دعمها تدريجياً.

كمثال على تطور الصادرات، فقد بلغت قيمة صادرات تركيا عام 1983 ما مجموعه 5727 مليون دولار، بينما وصلت عام 1986 ما مجموعه 10190 مليون دولار، أي بزيادة تعادل الضعف، خلال ثلاث سنوات فقط من حكم حزب الوطن الأم.

انتخابات 1987 واستفتاء على رفع الحظر على قادة الأحزاب

مع سياسة الانفتاح التي انتهجها أوزال، بدأت الضغوط تنهال عليه من أجل رفع الحظر عن قادة الأحزاب السياسية الذين منعهم رموز الانقلاب من ممارسة العمل السياسي.

بتاريخ 6 أيلول/سبتمبر 1987 أجري استفتاء شعبي، دعا فيه حزب الوطن الأم للتصويت بـ: لا، لكن النتيجة جاءت 50.16% بنعم لجهة رفع الحظر عنهم. لكن بفارق ضئيل.

رجل السياسة أوزال كان يعلم أنه من المستحيل مقاومة عودتهم، لكنه استغلها فرصة لإظهار أنهم جميعاً بالكاد يساوونه سياسياً، وهذا ما ظهر في نتائج الاستفتاء.

في نوفمبر 1987 أجريت انتخابات برلمانية عامة. هبطت فيها شعبية حزب الوطن الأم، لكنه نجح في الحصول على نتيجة تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده. حصل حزب الوطن الأم على 36.3 بواقع 292 مقعداً، بينما حل حزب الشعب الديمقراطي بقيادة أردال إيننو في المرتبة الثانية بنسبة 24.7% بواقع 99 مقعداً، وحزب الطريق القويم بقيادة سليمان ديميريل 19.1% بواقع 59 مقعداً.

كان سليمان ديميريل الزعيم السياسي الوحيد الذي نجح حزبه في تخطي عتبة 10% بينما فشل في ذلك بقية الزعماء، أربكان وأجاويد وتوركاش، الذين رفع الحظر عنهم. فقد حصل حزب اليسار الديمقراطي بزعامة أجاويد على 8.5%، وحزب الرفاه بزعامة أربكان 7%، وحزب العمل القومي بزعامة توركاش 3%.

بعد عامين انتخب تورغوت أوزال رئيساً للجمهورية، وحل مكانه يلدرم أق بولوت في رئاسة الحزب والحكومة، ثم انتخب الحزب مسعود يلماز رئيساً له، ليبدأ العد التنازلي الذي أوصل الحزب إلى التلاشي والإغلاق.

انتخابات 1991 برلمان غير متناغم

بعد انتخاب تورغوت أوزال رئيساً الجمهورية، حدث خلل كبير في المعادلة السياسية. انتشرت عدوى العولمة، فبدأت نقابات العمال بسلسلة من الإضرابات، ونظمت نقابة عمال المعادن مسيرة ضخمة نحو العاصمة أنقرة، شارك فيها أكثر من 100 ألف عامل.

بعد انتخاب مسعود يلماز رئيساً لحزب الوطن الأم أصبح رئيساً للوزراء أيضاً بحكم الدستور. طالبت أحزاب المعارضة بأن ينتخب الشعب رئيس الوزراء وليس الحزب، فاتخذ البرلمان قراراً بإجراء انتخابات مبكرة، نزل فيها حزب الوطن الأم إلى المرتبة الثانية، أول مرة منذ تأسيسه.

حصل حزب الطريق القويم على 27% بواقع 178 نائباً، وحزب الوطن الأم 24% بواقع 115 نائباً، وحزب الشعب الديمقراطي 20.8% بواقع 88 نائباً، وحزب الرفاه 16.9% بواقع 62 نائباً، وحزب اليسار الديمقراطي 10.7% بواقع 7 نواب.

كانت بعض الأحزاب السياسية قد اتفقت فيما بينها على دخول الانتخابات معاً، ثم انفصلت بعد دخولها البرلمان، ما زاد حالة التشظي السياسي في البلاد، فأصبح البرلمان يضم 8 أحزاب سياسية غير متناغمة

انتخابات 1995 صعود التيار الإسلامي

استمرت حالة الانقسام والاستقطاب السياسي، وبدأ الشعب التركي بالبحث عن بديل جديد فطرق باب حزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي هذه المرة، حيث حل في المرتبة الأولى في سابقة لم تتكرر في تاريخه.

نال حزب الرفاه 21.4% بواقع 158 نائباً، وحزب الوطن الأم 19.7% بواقع 132 نائبا، حزب الطريق القويم على 19.2% بواقع 135 نائباً، وحزب اليسار الديمقراطي 14.6% بواقع 76 نائباً، وحزب الشعب الجمهوري 10.7% بواقع 49 نائباً.

أعلن رئيس حزب الوطن الأم مسعود يلماز رفضه الدخول في حكومة ائتلافية يشكلها حزب الرفاه، الذي اتفق مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو جيلار مقابل تنازلات لا تتناسب مع الوزن السياسي لكل منهما، ورغم الإرث الاقتصادي الثقيل الذي تسببت به حكومة تانسو جيلار عام 1994 حيث عاشت البلاد كارثة اقتصادية أدت إلى هبوط قيمة الليرة التركية إلى النصف، رغم ذلك كله شكل البرفسور نجم الدين أربكان الحكومة، وسارت الأمور على أفضل مما كان متوقعاً.

مع تفاقم الخلاف بين الحزب الإسلامي -حزب الرفاه- وباقي الأحزاب الأخرى مهد الطريق لإحداث مشاكل عمالية وترويج دعوات لعصيان مدني ما دفع المؤسسة العسكرية للتدخل، وأرسلت رتلاً من الدبابات يجوب شوارع سنجان قضاء أنقرة.

بتاريخ 28 شباط/فبراير اجتمع مجلس الأمن الوطني، بأغلبية عسكرية، استمر الاجتماع ست ساعات متواصلة دون انقطاع.  وضع العسكر أمام رئيس الحكومة ستة شروط، كانت تعني نهاية حكومته الائتلافية.

عام 1997 تصاعد وتيرة الأزمة  

بتاريخ 21 أيار/مايو 1997 رفع المدعي العام دعوى بإغلاق حزب الرفاه. وفي 18 حزيران/يونيو قدم أربكان استقالة حكومته، وفي 21 حزيران/يونيو ألقى رجب طيب أردوغان خطبته الشهيرة في مدينة سيرت، وقرأ فيها الشعر الذي تسبب في دخوله السجن.

لكن الحدث الأبرز كان تكليف الرئيس سليمان ديميريل مسعود يلماظ بتشكيل الحكومة، بدلاً من تانسو جيلار الذي كان حزبها في المرتبة الثانية، مخالفاً بذلك الأعراف السياسية المتبعة في تركيا.

انتخابات 1999 استمرار حالة الانقسام السياسي

شكلت عملية القبض على المعارض عبد الله أوجلان زعيم PKK، وإحضاره إلى تركيا بتاريخ 16 شباط/فبراير 1999، الحدث الأبرز الذي انعكس على نتائج الانتخابات التي أجريت في 18 نيسان/أبريل من نفس العام، فاحتل حزب اليسار الديمقراطي المركز الأول بنسبة 28.2% بواقع 136 نائباً، ثم حزب الحركة القومية 18% بواقع 129 نائباً، ثم حزب الفضيلة الذي أخذ مكان حزب الرفاه 15.4% بواقع 111 نائباً، ثم حزب الوطن الأم 13.2% بواقع 86 نائباً، ثم حزب الطريق القويم 12% بواقع 12 نائباً، فالمستقلون 0.9% بواقع 3 نواب. بينما توزعت 18.3% من أصوات الناخبين على بقية الأحزاب.

كنتيجة طبيعية لحالة الانقسام، فقد فشل بولنت أجاويد، الذي كان يعاني من المرض والمشاكل الصحية، في تشكيل حكومة ائتلافية، واضطر لتشكيل حكومة أقلية، قادت البلاد إلى ازمة اقتصادية كلفت خزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار، وهبطت قيمة العملة إلى النصف.

كل ما سبق من تاريخ تركيا الحديث كان تمهيداً لبروز العدالة والتنمية على سطح الحياة السياسية في تركيا ليخوض الانتخابات البرلمانية ويحقق الأغلبية ويشكل الحكومة بعد ذلك.

ساعات قليلة تفصل الأتراك عن استحقاق انتخابي تاريخي والمعنيون بالشأن التركي يراقبون أتون المعركة الانتخابية الأصعب في تاريخ تركيا.

علامات:
تحميل المزيد