نشرت النسخة الإنجليزية من CNN معلومات تبدو صادمة عن الخطة التي كان الرئيس السوداني عمر البشير سيقوم بها لإجهاض التظاهرات ضده ومنع تأثيرها على بقائه في المنصب، بالتعاون مع شركة روسية يملكها ثري مقرب من الكرملين، ويلقَّب بأنه طباخ بوتين.
الخطة السرية لشركة روسية لقمع احتجاجات السودان
حين اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في السودان نهاية العام الماضي، جاء رد الرئيس عمر البشير مباشرةً من كتيب دليل الدكتاتوريين: القمع الذي قاد إلى عشرات القتلى المدنيين.
في الوقت نفسه، وُضِعَت إستراتيجية أكثر غدراً، إستراتيجية تضمَّنت نشر معلومات مضللة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحميل إسرائيل مسؤولية إثارة الاضطرابات، بل وحتى تنفيذ حملة إعدامات علنية لتقديم عِبرة "للصوص".
لم تكن هذه الإستراتيجية من إعداد الحكومة السودانية. فوفقاً لوثائق اطّلعت عليها شبكة CNN الأمريكية، وضعت هذه الخطة شركةٌ روسيةٌ مرتبطةٌ بأحد الأثرياء المُفضًّلين لدى الكرملين: يفغيني بريغوجين.
وأكَّدت مصادر حكومية وعسكرية عدة في الخرطوم لشبكة CNN أنَّ حكومة البشير تلقَّت مقترحات وبدأت العمل عليهم، قبل أن يُعزَل البشير في انقلابٍ عسكري في وقتٍ سابق من هذا الشهر أبريل/نيسان. وقال مسؤول في النظام السابق إنَّ المستشارين الروس راقبوا المحتجين وبدأوا إعداد خطة لمواجهتهم بما سماه المسؤول "خسائر بسيطة لكن مقبولة من الأرواح".
وفي حين لا تأتي الوثائق من الأجهزة الروسية الرسمية، فإنَّها كانت بالأساس تُشكِّل مخططاً لحماية مصالح الكرملين في السودان وإبقاء البشير في السلطة.
وتُعَد الوثائق التي اطَّلعت عليها شبكة CNN، والتي تتضمَّن خطاباتٍ واتصالاتٍ داخلية في الشركة، من بين عدة آلاف من الرسائل التي حصل عليها مركز "Dossier Center" في لندن، وهو مركز يديره رجل الأعمال الروسي المنفيّ ميخائيل خودوركوفسكي.
وحصل المركز على البيانات والوثائق والمعلومات من مصادر مختلفة، غالباً مجهولة، وتقاسمها مع الصحفيين. اصطدم خودوركوفسكي مع الرئيس فلاديمير بوتين بعد ادعائه وجود فساد واسع في روسيا، وقضى بضع سنوات داخل السجن بسبب الغش الضريبي المزعوم، وهو الأمر الذي نفاه دوماً.
وتوصَّلت CNN إلى تقييمٍ بأنَّ الوثائق ذات مصداقية. وهي أيضاً متسقة مع روايات شهود العيان الذين يقولون إنَّ مراقبين روس شُوهِدوا في الاحتجاجات الأخيرة بالسودان.
كان السودان هو نموذج موسكو لمدِّ نفوذها في إفريقيا وحول العالم: مزيج من المصالح الخاصة ومصالح الدولة التي تعود بالنفع على الأثرياء الروس والكرملين. وهي إستراتيجية منخفضة التكلفة تمنح موسكو موطئ قدمٍ في مناطق إستراتيجية دون الالتزام بإرسال القوات النظامية أو القيام بالاستثمارات الكبرى من جانب الحكومة الروسية. وفي المقابل تستخدم شركاتها التي تُوفِّر المتعاقدين الخاصين مقابل امتيازات تجارية.
وبالفعل، يعود أصل الوثائق التي اطّلعت عليها CNN إلى شركة مقرها مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، اسمها شركة "M-Invest"، والتي تملك مكتباً في العاصمة السودانية الخرطوم. تقول الشركة إنَّ عملها الأساسي هو "استخراج المعادن الخام ورمال المعادن النفيسة". ومُنِحَت الشركة امتيازات لمنجم ذهب في السودان، مثلما أفادت CNN من قبل.
لكن يبدو أنَّ أنشطتها تجاوزت مجرد التعدين.
ماذا ظهر في وثائق مركز Dossier Center؟
أقام الرئيس البشير علاقات وثيقة مع الكرملين، وزار موسكو عام 2017. وقدَّمت موسكو للسودان مقاتلات سوخوي 35 الحديثة في العام نفسه. ببساطة، وضعت روسيا رهاناً كبيراً على البشير. لكن بعد تزايد قوة الاحتجاجات ضد النظام، بات هذا الرهان في خطر.
ووفقاً للوثائق التي اطَّلعت عليها CNN، وضعت شركة M-Invest خطةً لتشويه وقمع تلك الاحتجاجات.
فتقترح وثيقة تعود إلى مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، اطَّلعت عليها الشبكة الأمريكية، نشر مزاعم بأنَّ المحتجين يهاجمون المساجد والمستشفيات. وتقترح كذلك خلق صورة للمحتجين باعتبارهم "أعداء للإسلام والقيم التقليدية" عن طريق زرع أعلام المثلية الجنسية بينهم. واقترحت تنفيذ حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تدَّعي أنَّ "إسرائيل تدعم المحتجين".
وتقترح الإستراتيجية كذلك أن تُقدِم الحكومة على "التظاهر بالحوار مع المعارضة وتُظهِر انفتاح الحكومة" بغرض "عزل قادة الاحتجاج (عن المحتجين) وكسب الوقت".
واقترحت الشركة طرقاً لتحسين صورة الحكومة، من خلال "التوزيع المجاني للخبز والدقيق والحبوب والمواد الغذائية" وعمل دعاية لذلك على نطاقٍ واسع.
لكنَّ معظم تركيزها كان مُنصبَّاً على الاحتجاجات. فتُوصي الشركة باختلاق أدلة على "إحراق المتظاهرين للمساجد والمستشفيات ودور الحضانة، وسرقة الحبوب من المخزون العام".
وتقترح كذلك إلقاء اللوم في خروج الاحتجاجات على الغرب، واستخدام "تغطية موسعة على مواقع التواصل الاجتماعي لاستجوابات المعتقلين، التي يعترفون فيها بأنَّهم وصلوا لتنظيم حرب أهلية في السودان". بل واقترحت كذلك تنفيذ "عمليات إعدام علنية للصوص وغير ذلك من الفعاليات المذهلة لتشتيت الجمهور النازع للاحتجاج".
وبذلت شبكة CNN مساعي عديدة للتواصل مع شركة M-Invest. لكنَّ رقم الشركة في سان بطرسبرغ لم يعمل. ورد شخصٌ متحدثٌ باللغة العربية على مكالمة لمكتب الشركة في الخرطوم، لكنَّه انهى المكالمة. وزارت CNN العنوان، لكنَّها أُبلِغَت بأنَّ المكان مُؤجَّر لشركة روسية تُدعى Mir Gold.
وتوصي وثيقة أخرى للشركة بإلقاء القبض على قيادات الاحتجاج في اليوم السابق على حدوث التظاهرات، وتوصي كذلك بنشر معلومات مضللة بالقول إنَّ المحتجين تلقوا أموالاً للمشاركة. وأوصت كذلك بإظهار كيف أنَّ "قوات الأمن احتجزت سيارة مُحمَّلة بالأسلحة والعملة الأجنبية ووسائل الدعاية تعود لمواطنين أجانب".
اقترحت شركة M-Invest كذلك تكوين فرق على مواقع التواصل الاجتماعي لمهاجمة الحراك الاحتجاجي، "والدخول في خلافات مع المستخدمين، والتعبير عن أجندة بديلة… والعدد الأمثل للحسابات التي تعمل بالتوازي هو 40 إلى 50 حساباً".
ويشبه كتيب الدليل هذا بطريقةٍ ما كتيب الدليل الذي استخدمته وكالة أبحاث الإنترنت، التي تتهمها السلطات الأمريكية بمحاولة التشويش على حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016.
كن بريغوجين –المعروف باسم "طباخ بوتين" بسبب عقود الطعام التي كان يملكها مع الكرملين- واحداً من 13 روسياً اتُّهِموا في إطار تحقيق المحقق الأمريكي الخاص روبرت مولر في التدخُّل الروسي بالانتخابات الأمريكية. وتزعم الولايات المتحدة أنَّ حسابات وهمية أُنشِئَت على مواقع التواصل الاجتماعي لاستقطاب الناخبين بمعلومات تحريضية وفي بعض الأحيان زائفة. نفى بريغوجين أي تورُّط في التدخُّل بالانتخابات، ونفى أي صلة بوكالة أبحاث الإنترنت الروسية. ولم يُرد على المكالمات الهاتفية التي وُجِّهَت لشركته الرئيسية "Concord Management and Consulting" للاستشارات.
ولا تشير الوثائق التي اطَّلعت عليها CNN إلى تورط أجهزة الأمن الروسية الرسمية بصورة مباشرة في محاولة قمع المحتجين في السودان.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية في مؤتمرٍ صحفي في يناير/كانون الثاني الماضي: "نحن على علم بأنَّ بعض موظفي شركات الأمن الروسية الخاصة، الذين لا علاقة لهم بالسلطات الحكومية الروسية، بالفعل يعملون في السودان. لكنَّ مهامهم مقتصرة على تدريب الأفراد".
حكومة البشير حاولت تطبيق الخطة.. لكن الوقت بدأ ينفد
أبلغت مصادر في الخرطوم شبكة CNN أنَّ حكومة البشير حاولت بالفعل تطبيق بعض خطط شركة M-Invest.
فعلى سبيل المثال، بدأت تعتقل الطلاب من إقليم دارفور واتهمتهم بمحاولة إثارة حرب أهلية، وهذه إحدى الحيل التي أوصت بها شركة M-Invest. وتقول المصادر إنَّه جرى زرع مستشارين روس من إحدى الشركات الخاصة في العديد من الوزارات وجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني.
لكنَّ هذا كان قليل للغاية ومتأخر جداً.
ففي خطابٍ إلى البشير، صِيغ يوم 17 مارس/آذار، اشتكى بريغوجين من أنَّ "تقاعس" الحكومة السودانية "حفَّز اشتداد الأزمة". وأضاف بتبصُّر: "غياب الخطوات النشطة من الحكومة الجديدة لتجاوز الأزمة سيؤدي على الأرجح إلى عواقب سياسية أخطر".
وأشاد خطابٌ آخر من بريغوجين، مُؤرَّخ بتاريخ 6 أبريل/نيسان، بالرئيس الذي حكم السودان لفترة طويلة باعتباره "قائداً حكيماً وبعيد النظر"، لكنَّه حثَّ على القيام بإصلاحاتٍ اقتصادية فورية لحل الأزمة.
وبعد خمسة أيام من ذلك، عُزِل البشير.
تعرَّض السودان، البلد الغني بالموارد والذي يملك حدوداً مع سبع دول أخرى، للنبذ من الغرب. وكان ساحله المُطِلّ على البحر الأحمر يحظى باهتمامٍ خاص من روسيا، بسبب التحركات الأخيرة من الولايات المتحدة والصين لإقامة وجود عسكري في المنطقة. وكانت موسكو تضع نصب عينيها إقامة قاعدة بحرية في مدينة بورتسودان.
ومجدداً، كانت شركة M-Invest طرفاً في الأمر. ففي يونيو/حزيران 2018، صاغت خطاباً نيابةً عن هيئة التصنيع الحربي السودانية لتوثيق العلاقات العسكرية. ويذكر الخطاب زيارة الشهر السابق لنائب قائد البحرية الروسية الجنرال أوليغ ماكاريفيتش، بحثت "إمكانية إنشاء نقطة لوجستية لسفن البحرية الروسية في إقليم جمهورية السودان".
والخطاب مُوجَّه للجنرال فاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان الروسية. ويُنسَب لغيراسيموف الفضل في تشجيع استخدام التدابير البديلة للقوة العسكرية، بما في ذلك الأدوات السياسية والاقتصادية وكذلك التأثير على الرأي العام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، لزعزعة استقرار الأعداء.
كان يفغيني بريغوجين رائداً في إستراتيجية روسيا الهجينة وشريكاً فيها. فلا ترتبط وكالة أبحاث الإنترنت بشركته Concord Management فقط، بل رُبِط كذلك بشركة Evro Polis، التي حصلت على حقوق التنقيب عن النفط في سوريا. آنذاك، كان مقاتلون من شركة تُدعى Wagner، وهي شركة متعهِّدين عسكرية خاصة، يعملون في سوريا. وكما أفادت CNN سابقاً، يقود شركة Wagner ديمتري أوتكين، الخاضع للعقوبات الأمريكية بسبب مساعدته الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا. ولطالما كان أوتكين مُقرَّباً من الدائرة المُقرَّبة لبريغوجين.
من الصعب كشف خيوط إمبراطورية أعمال بريغوجين المترامية. لكنَّ امتياز التعدين لصالح شركة M-Invest في السودان كان مُوقَّعاً من مدير اسمه ميخائيل بوتيبكين. وشارك رجلٌ يحمل الاسم نفسه في امتلاك شركة تُدعى IT-Debugger مع آنا بوغاتشيفا، وهي واحدة من الروس الـ13 الواردة أسماؤهم في لائحة الاتهام التي أصدرها المحقق مولر باعتبارهم يعملون لصالح وكالة أبحاث الإنترنت.
يُعرِّف بوتيبكين نفسه أيضاً باعتباره مدير مشروع لشركة أخرى، هي شركة Megaline، التي تملك شركة بريغوجين القابضة Concord 50% منها، وذلك بحسب سجلات الشركة. وفي مذكرة كُتِبَت على ورقة مطبوع في عنوانها اسم شركة Megaline أُرسِلَت إلى وزارة المعادن السودانية عام 2017، يقول بوتيبكين إنَّ شركة M-Invest "ستتمتَّع بكل الدعم الضروري من مجموعة Megaline".
ولم تتمكَّن شبكة CNN من التواصل مع بوتيبكين.
وقَّع بوتيبكين كذلك عقداً مع وزارة الدفاع الروسية، اطَّلعت عليه CNN، من أجل استخدام طائرات نقل شركة 223rd Flight التابعة لوزارة الدفاع. وبين أغسطس/آب 2018 وفبراير/شباط 2019، قامت طائرتان من الشركة بتسع رحلات على الأقل إلى الخرطوم. ونقلت إحدى تلك الطائرات البشير في زيارته المثيرة للجدل إلى سوريا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهي أول زيارة لرئيسٍ عربي منذ بدء الانتفاضة السورية عام 2011.
وعزَّزت روسيا حضورها كذلك في جمهورية إفريقيا الوسطى المجاورة، وأرسلت قوافل إمداد عبر الحدود.
ويعتمد بقاء السودان كركيزة في الطموحات الروسية في إفريقيا من عدمه على الوضع الآخذ في الاتضاح بالخرطوم. ولن تتخلَّى موسكو عن هذا بسهولة. إذ تتمتَّع بعلاقاتٍ قوية مع الجيش السوداني، الذي يقود البلاد الآن،حتى لو كان البشير، الذي وصفه بريغوجين بأنَّه "سياسي حكيم ومتزن"، يقبع الآن داخل سجنٍ شديد الحراسة.