صباح يوم الأحد، 7 أبريل/نيسان، في اليوم التالي على تجدُّد احتجاجات السودان المطالبة بإقالة الرئيس عمر البشير، وصلت رسالةٌ على المحادثة الجماعية لأسرتي على تطبيق واتساب تقول: "أُصيب مآب بطلقةٍ في قلبه".
وقف قلبي، ولم أستطِع التنفُّس.. مآب حنفي؟ قريبي؟ المصوُّر خفيف الدم؟ الفتى الطويل النحيل الذي كان خجولاً أكثر ممَّا كان أخوه لكن دائماً يقول كلاماً طيباً؟
في غضبٍ فتحت محادثةً جماعيةً أخرى أكبر لعائلتي الممتدَّة: هناك وجدتُ رسائل قصيرة غير مُصدِّقة ودعواتٍ تنهال من شاشة هاتفي، حروفٌ عربية مغيَّمة بالدموع المنسالة الآن من عينيّ. فكَّرتُ في شقيق مآب التوأم، وأخته الصُغرى، وأمه، وضاق صدري. اتَّصلت بأمي، وشهدت كلتانا فجيعة الأخرى في صمت، إذ لم تستطِع الكلام. قبل بضعة أسابيع من موته، أُصيب مآب برصاصةٍ في الكتف ونجا بحياته. وفي الأسبوع الماضي لا أبعد من ذلك كانت عائلته قد أقامت حفلةً بمناسبة تعافيه. لم يكن لما حدث أن يحدث. قلت لأمي، كان يُفتَرَض أن يعيش مآب حتى يشيخ. وأن أحضر زفافه، إن شاء الله، وأن ألتقي بأطفاله يوماً ما. لم يكن يُفتَرَض أن تكون تِلك قصَّته. ولكن، ويا لَلحسرة، إنَّ ثمن الثورة، والكرامة، والحرية، دائماً ما يكون باهظاً إلى حدِّ الغدر.
للأسف، إنَّ ما حدث لمآب، والدمار الذي حلَّ بعائلتنا إثر مقتله، هو مشهدٌ تكرَّر عشرات المرات منذ اندلاع الاحتجاجات بكل أرجاء السودان في ديسمبر/كانون الأول عام 2018. تِلك الاحتجاجات هي في جوهرها انعكاسٌ لأمة وصلت حدَّ الأزمة: ارتفاعٌ بالأسعار، وتغلغل للفساد، وشُحٌ بالفرص الاقتصادية أدَّى لأن يقف الناس في طوابير بالساعات للحصول على أساسياتٍ لحياتهم مثل الوقود، والخبز، والمال من ماكينات الصراف الآلي. وفي شهر ديسمبر/كانون الأول، بلغ معدَّل التضخُّم في البلاد 72.9%، وبهذا كانت في المركز الثاني الأسوأ عالمياً بعد فنزويلا.
كانت الاحتجاجات الأخيرة نقطة الذروة بعد شهورٍ من النشاطات المقامة احتفالاً بذكرى ثورة عام 1985 التي أسقطت الرئيس السوداني آنذاك، جعفر النميري. ذلك العام، انضمَّ الجيش لصفوف المحتجين، وحدث انقلابٌ عسكري. لكن في يوم السبت الفائت، 6 أبريل/نيسان، بعد 34 عاماً، لم تكن نتيجة الثورة لتكون بهذه البساطة. اشتبكت قوَّات الأمن مع المتظاهرين وقتلت أربعة أشخاص على الأقل، وكان من بينهم مآب. عندئذٍ صارت المظاهرات اعتصاماً، وعلى مدار نهاية الأسبوع عسكر آلاف الأشخاص أمام مقر القيادة العامة العسكرية في الخرطوم، مردِّدين هتافاً ومطلباً واحداً: "تسقط بس". وهي عبارةٌ تطالب الديكتاتور عمر البشير بالتنحي.
لم تصل أنباء الاحتجاجات للإعلام السائد إلَّا ببطءٍ شديد وبعد وقت. تصعُب معرفة ما إن كان سبب ذلك شبكة المصالح الأجنبية المعقَّدة في السودان، أم اللامبالاة تجاه أية مصاعب تواجهها دولة إفريقية. أمَّا التحدِّي الأصعب على المستوى الشخصي، فهو أن أعلَم ماذا أفعل بصفتي سودانية تعيش خارج البلاد. ما هو دورنا في هذه المعركة؟ إنَّ متابعة الثورة وأنتَ في الخارج عن طريق تويتر، وإنستغرام، وفيسبوك، وواتسآب، هو فعلٌ يستحضر مزيجاً من الحنين والندم على تفويت تِلك اللحظات، وهو شعورٌ يصعُب عليَّ التصالح معه. وُلدتُ في السودان، وكل خليةٍ في جسدي تتوق لتكون هُناك في ذلك المجمَّع العسكري في التو واللحظة، الآن والوضع في أشدُّه، أغنِّي في الاشتباك مع بني وطني المكافحين من أجل مستقبل أفضل.
لكن هل ذاك فعلاً مكاني؟ بقدر ما يؤلمني أن أقرّ بهذه الحقيقة، إنَّ حياتي ليست في السودان، ولها زمنٌ لم تكن. تربَّيت في أستراليا وتأتي علاقتي مع السودان مسقط رأسي من رحلاتٍ أقوم بها مرةً كل عامين إلى "الوطن" لزيارة العائلة، ومن حكايات والديّ. أريد أن أكون هناك معهم، لكن بصفتي واحدةً من الجالية السودانية في الخارج، فأنا لستُ واثقة أنِّي أنتمي لذلك المكان بالضرورة. ربما يكون أسهل وأنتَ خارج السودان أن تنساق وراء المفهوم الرومانسي عن الثورة وعن دور كلٍّ منَّا فيها. ولكن مثلي مثل كثيرين من أبناء الجالية السودانية، لقد رضيتُ بأن ألعب دوري فيها من خلال ترديد أصوات هؤلاء الموجودين في موقع الحدث، ومشاركة تغريداتٍ مترجمة، وكتابة مقالاتٍ عن الانتفاضة السودانية في صُحُف الإعلام السائد.
أشعر أنَّ هذا ليس كافياً. لكنَّ الحقيقة أنَّ شعوري بالكفاية ليس ما يهم. كل ما يهم هو تنحِّي البشير، وبدء مشروع إعادة بناء الأمة التي نفتخر جميعاً بكوننا جزءاً منها.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.