ما زال في جعبة البشير الكثير.. كيف ستجتاز القيادة السودانية عاصفة الاحتجاجات على الأوضاع الاقتصادية؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/02/25 الساعة 16:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/03/30 الساعة 17:48 بتوقيت غرينتش
الرئيس السوداني عمر البشير/رويترز

مر أكثر من شهرين على التظاهرات المطالبة بالإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير الذي يتربع على عرش البلاد منذ 30 عاماً، لكن حتى الآن مازال البشير متحكماً في المشهد بالكامل رغم التعديلات التي صدرت قبل يومين بشأن تهدئة الشارع.

البشير اتخذ عدة إجراءات الجمعة 22 فبراير/شباط 2019، وكان أبرزها عدم التشريح لفترة رئاسية جديدة العام المقبل، وكذلك تعيين محمد طاهر إيلا رئيس وزراء للبلاد وتعيين نائب له وهو وزير الدفاع السابق الفريق أول عوض بن عوف، لامتصاص غضب الشارع، لكن يبدو أن هذه التغيرات لم تأت بجديد.

كانت قرارات البشير مناورة منه بعد الحديث عن خطة أمريكية لإزاحته عن المشهد وتولي مدير الاستخبارات صلاح قوش بدلاً منه لكن البشير أجهض هذه الخطة وجاء بأشخاص يضمن ولاءهم في المستقبل خوفاً من تسليمه للجنائية الدولية.

أيضا رغم هذه التغيرات والتي فرض فيها البشير حالة الطوارئ لم يقتنع السودانيون بها وتظاهر الآلاف في عدد من مدن البلاد مطالبين الرئيس بالرحيل، مما يشير إلى تأزم الوضع في البلاد في الفترات المقبلة. لكن رغم كل هذا مازال في جعبة البشير عدد من الإجراءات، بحسب تقرير لموقع مركز Stratfor الأمريكي.

ويرى الموقع الأمريكي أن القوة العسكرية التي تدين بالولاء للبشير يمكن أن تشكل قوة ضاربة إذا ما استمرت التظاهرات في المستقبل، فيما سيحاول الرئيس السوداني الاستفادة من الاختلافات المذهبية والعرقية الموجودة في البلاد.

ولفهم طبيعة المشهد في البلاد علينا فهم ماذا يجري في البلاد وما هي أوراق الضغط التي توجد في يد البشير؟.

ماذا يحدث في السودان الآن؟

على مدار عهد البشير المُمتد منذ عقود، شهد السودان مظاهرات متكررة نتيجة أزماته الاقتصادية شبه الدائمة. إذ اجتمع وضع الدولة كمنبوذة دولياً، والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وسمعتها كدولة راعية للإرهاب (يُذكَّر أنَّ السودان استضاف أسامة بن لادن في فترة التسعينيات)، معاً ليتركوها متعثرة مالياً ومن دون أصدقاء. وكأنَّ هذا لم يكن كافياً، بل زاد عليه إعلان جنوب السودان استقلالها في يوليو/تموز 2011؛ لترحل ومعها ثلاثة أرباع الإنتاج النفطي للدولة. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الاحتجاجات أكثر شيوعاً، وسجلت في 2012 و2013 ارتفاعات ملحوظة.  

احتجاجات ليلية ستشهدها مدن السودان/ رويترز
احتجاجات ليلية ستشهدها مدن السودان/ رويترز

وعلَّمت الاحتجاجات المستمرة البشير أنَّ الاقتصاد الضعيف قد يؤدي إلى سقوطه في النهاية؛ مما دفعه لأن يقود السودان نحو التحول دبلوماسياً عام 2014 بعيداً عن إيران صوب مجلس التعاون الخليجي -وفي النهاية الغرب- بحثاً عن وسائل دعم مالية. وحصد هذا التحول نجاحاً أولياً في صورة حصول السودان على مساعدة من مجلس التعاون الخليجي، لكن الاحتياطي الأجنبي للسودان آنذاك، وكان يبلغ 1.2 مليار دولار، كان بالكاد يكفي لتغطية 7 أسابيع من قيمة وارداته.

وبحسب الموقع الأمريكي، قد تكون القروض المتقطعة والتعهدات الاستثمارية من كبار الشركاء الخليجيين ساعدت السودان إلى حد ما، إلا أنَّها في نهاية المطاف لا ترقى إلى المساعدة المالية المنتظمة التي قد يقدمها الغرب أو خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي للخرطوم. وبالرغم من أنَّ التقارب بين الخرطوم والغرب أسفر عن رفع العقوبات الأمريكية عليه، تصر واشنطن على توصيف السودان بأنه دولة راعية للإرهاب، إضافة إلى أن البشير يواجه اتهامات من المحكمة الجنائية الدولية؛ مما يقوض من مزايا التحول الدبلوماسي الذي شهدته الخرطوم.        

ونظراً لغياب دعم دولي حقيقي، تدهور اقتصاد السودان الضعيف بالفعل إلى أزمة كاملة العام الماضي. إذ خلق نقص السيولة عجزاً في إمدادات الوقود والخبز، ودفعت الضغوط المتزايدة على الجنيه السوداني إلى أن يخفض البنك المركزي قيمته ثلاث مرات مقابل الدولار -آخرها في أكتوبر/تشرين الأول 2018. وبالرغم من برنامج التقشف الذي تبنته الحكومة، ارتفع معدل التضخم إلى مستويات مُقلِّقة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبدأت الأموال تنفد من ماكينات الصرف الألي. ومع توافر خيارات قليلة أمام السودان، لجأ مرة أخرى إلى الخليج العربي، لكن لم تظهر أية أدلة على أنَّ المساعدة في طريقها إليه.   

حركة احتجاجية بدعمٍ واسع  

وبالرغم من الأزمة الاقتصادية المُستَّعرة، اتخذ حزب المؤتمر الوطني الحاكم، خطوات نحو إطالة بقاء البشير في السلطة. وبالرغم من أنَّ البشير كان قد تعهد في 2016 أن تنتهي فترة حكمه في 2020، أعلن حزب المؤتمر الوطني مؤخراً ترشيحه لخوض السباق الانتخابي في 2020. ويُشار إلى أنَّ دستور حزب المؤتمر الوطني والقانون السوداني كانا مصاغين بالأساس على نحو يمنع أي مرشح من قضاء أكثر من ولايتين في الحكم، لكن التعديلات التي استُحدِثَت عليهما لاحقاً سمحت للبشير بالاستمرار في الحكم.

ومن هنا، تسبَّب الاقتصاد المتهالك ونية البشير الواضحة للبقاء في السلطة في تأجيج ما كانت في البداية احتجاجات تركز على نقص الخبز، التي اندلعت في 19 ديسمبر/كانون الأول. ومنتشرة كالنار في الهشيم، اجتاحت مظاهرات أوسع البلاد، ليس فقط المدن الكبرى مثل أم درمان والخرطوم، بل وصلت كذلك لمناطق نائية مثل دارفور وبورتسودان.  

ومع تصاعد الحركة الاحتجاجية، بذلت جماعات المعارضة القديمة والحديثة جهوداً بارزة لتنظيم صفوفها. فإلى جانب حشد جماعات أكثر تنظيماً مثل: "التغيير الآن" و"قرفنا"، دفعت هذه الموجة الاحتجاجية الواسعة الأخيرة الأطباء والمعلمين وآخرين من مهنٍ مشابهة إلى تشكيل تجمع المهنيين السودانيين، الذي نظم العديد من الاحتجاجات المحلية، منها مسيرات بارزة إلى المجلس الوطني في أم درمان والقصر الرئاسي في الخرطوم. وجذب نجاح تجمع المهنيين السودانيين ونشاطاته دعم العديد من أحزاب المعارضة ومنظمات احتجاجية أخرى، التي وقَّع كثيرٌ منها في 2 يناير/كانون الثاني إعلان مطالب من ثماني نقاط -منها اسقالة البشير- سُمي "إعلان الحرية والتغيير".   

لا يزال في جعبة الرئيس قوة ليستعرضها

وبحسب الموقع الأمريكي، يمكن أن نعتبر الاضطرابات الحالية واحدة من أخطر التهديدات التي واجهها البشير إلى الآن. ومع ذلك، عَمِلَ الرئيس السوداني طوال فترة بقائه في السلطة على ترسيخ نفوذه ضد الخطر الدائم بالانقلاب عليه. فعقب الانقلاب على السلطة الذي دبَّره هو في 1989، شكَّل تحالفاً مع حسن الترابي، وهو زعيم إسلامي أصبحت الجبهة الإسلامية القومية التي شكَّلها فيما بعد حزب المؤتمر الوطني. وأسست هذه الشراكة القوتان المتنافستان على الساحة السياسية في السودان اللتان لا تزالان موجودتين إلى الآن. وخلال أغلب فترة التسعينيات، كان الترابي هو الذي يحرك المشهد السياسي السوداني من وراء الكواليس، لكن البشير أزاح القائد الإسلامي في 1999، ليدير ميزان القوى لصالحه. وعقب تهميش الترابي، انضم أغلب المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين إلى البشير، من بينهم عدد من الإسلاميين النافذين، الذين نجح ولاؤهم الجديد في تقويض الحركة الإسلامية إلى النصف.          

ومنذ 1999، شدَّد البشير قبضته على المؤسسات الأمنية، مزيحاً عن طريقه كبار القادة الإسلاميين الذين قد يعارضونه. وبعد استبعاد الترابي، استطاع البشير التحول بالحركة الإسلامية في بلاده بعيداً عن ماضيها المتطرف الخاضع لتأثير إيران من خلال تهميش رموز بارزة ذات ميول متشددة. وبذلك، استطاع الحفاظ على الحركة الإسلامية مُفكَّكة؛ ومن ثم منع أي خصم إسلامي من تحديه بسهولة. أضف إلى هذا أنَّ إسكات الأصوات المتشددة كان له قيمة إضافية في جعل الحكومة السودانية أكثر اتساقاً مع مبادئ الغرب ودول الخليج. بيَّد أنَّ استراتيجية البشير هذه لم تأتِ دون ثمن، إلى جانب أنَّ الدور المتضائل للمسؤولين الإسلاميين في المؤسسة الأمنية السودانية شكل مصدراً لبعض الانشقاق.  

الرئيس السوداني عمر البشير / رويترز
الرئيس السوداني عمر البشير / رويترز

ولأنَّ البشير يدرك الدور الحيوي للمؤسسات المتخصصة داخل الجهاز الأمني للدولة، يطالب بأن تدين قوات الدعم السريع بالولاء له. وبوصفها المؤسسة الأقدر على مكافحة التمرد في السودان، انتشرت في أرجاء البلد مؤخراً للمساعدة في احتواء الاحتجاجات. وتعمل هذه الوحدة أيضاً كدرع في مواجهة أي انقلاب محتمل قد تدبره القوات المسلحة السودانية ضد البشير. إلى جانب أنَّ جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني يضطلع بدور حيوي في ضبط الانشقاقات، على الرغم من أنَّ الكثير من المسؤولين الإسلاميين داخل المنظمة ناقمين لأنهم مهمشون لصالح زملائهم غير الإسلاميين، بحسب الموقع الأمريكي.

سيذهب القادة الذين تمتد جذور نفوذهم عميقاً إلى أبعد مدى لضمان استمرارهم في السلطة، لكن التاريخ يُذكِّرنا أنه لا يوجد شخص منيع. إذ اشتهرت مليشيا الجنجويد المدعومة من الحكومة، التي تمخضت عن قوات الدعم السريع، بعد أن شنَّت حملة قمعية ضد سكان دارفور من ذوي الأصول الإفريقية؛ ما قاد المحكمة الجنائية الدولية إلى إدانة البشير، ومعه زعماء مليشيات آخرون. وبالرغم من أنَّ البشير سعى للحفاظ على دعم حزب المؤتمر الوطني الحاكم بتعيين حلفاء أساسيين في مناصب رفيعة، تظل هناك فصائل متناحرة داخل الحزب. ونتيجة لاتهامات المحكمة الجنائية الدولية، فلا يعد التنحي خياراً جاذباً للرئيس السوداني؛ إذ يمكن أن يؤدي أي تغيير في حظوظه السياسية، إلى أن تُحكِم المحكمة الجنائية الدولية قبضتها على رجلها المنشود. وإضافة إلى ذلك، ربما يرفض الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة تقديم مزيد من المساعدات الاقتصادية الضرورية إلى أن تحتجز المحكمة البشير، وهي الحقيقة الحاضرة في أذهان من يرونه على أنه عقبة ضد ازدهار السودان.  

وتحاول الحكومة السودانية الحالية زرع بذور الشقاق داخل الحركة الاحتجاجية، لكن لا تزال هذه الاستراتيجية لم تؤتِ ثمارها بعد. وفي الوقت الذي تواصل فيه الجماعات المُشارِكة المُطالَبة برحيل الرئيس، سواء على الفور أو وفق نهج مرحلي، يمكن أن تقدم الحكومة تغييراً ظاهرياً في القيادة لتسكين المخاوف الملحة.

ما الذي سيحدث لاحقاً؟     

وبحسب الموقع الأمريكي، هناك القليل من الحلول الجيدة لمعضلة السودان الاقتصادية. فقد تثير ممارسة المزيد من العنف ضد المتظاهرين إدانات دولية، ومن ثم تعطيل المساعدات المحتملة أو إمكانية رفع السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب. وفي حال فشلت محاولات السودان التواصل مع الغرب تماماً، فلن يكون أمامه أي خيار سوى اللجوء إلى مجلس التعاون الخليجي. وحتى في هذه الحالة، تضيف الصراعات داخل المجلس بين قطر والإمارات والسعودية مزيداً من التعقيدات لجهود السودان الرامية لتأمين الدعم المالي. ومن هنا، ليس هناك حل سهل لمشكلة الخرطوم المالية؛ أي أنَّ الدولة ستظل تعاني من احتجاجات مستمرة واقتصاد على شفا الانهيار.

الرئيس السوداني عمر البشير يلوح إلى أنصاره خلال تجمع في الساحة الخضراء في الخرطوم ـ رويترز
الرئيس السوداني عمر البشير يلوح إلى أنصاره خلال تجمع في الساحة الخضراء في الخرطوم ـ رويترز

وفشلت إلى الآن محاولات الحكومة إنهاء المظاهرات. إذ لم تسفر الوعود الرمزية لزيادة المرتبات والإعلان عن برامج اقتصادية مبهمة عن تهدئة الاضطرابات، كما لم تفعل الذخيرة الحية. وسيستمر البشير في اتباع منهج الثواب والعقاب، بينما يحاول هو وحلفاؤه النجاة من عاصفة الاحتجاجات، آملين ألا يكتسب السخط الشعبي ثِقلاً حرجاً يؤدي إلى تعجيل تغيير الحكومة. وفي حين أنَّ هذه الاضطرابات هي الأخطر التي يشهدها السودان منذ سنوات، ظل الجيش والحزب الحاكمين متمسكين بولائهما لمن في الحكم. وقد يكون البشير وحلفاؤه لديهم القوى الضرورية للمرور من العاصفة للوقت الحالي، إلا أنه في ظل محاولاتهم التشبث بالسلطة، تظهر احتمالية حدوث تسوية دموية للاحتجاجات كحقيقة بارزة.                         

تحميل المزيد