نعم، السيسي استعاد دور مصر الإقليمي ولكنه أقلق حلفاءه.. والأقربون أكبر الخاسرين

عربي بوست
تم النشر: 2019/02/11 الساعة 16:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/03/30 الساعة 15:10 بتوقيت غرينتش
السيسي في قمة سابقة للإتحاد الأفريقي/ رويترز

في عام 2019، سوف تحتفل مصر بمرور 150 عاماً على إنشاء قناة السويس، وفي العام ذاته تبوأت رئاسة الاتحاد الإفريقي بعد أن كان الاتحاد علّق عضويتها منذ بضع سنوات، في مؤشر قوي على استعادة مصر لدورها الإقليمي.

يبدو أن التزامن بين الحدثين يظهر كيفية تأثير الجغرافيا المصرية على تاريخهاز

فمصر أهم من أن يتم تجاهلها أو مقاطعتها، ولكن أحياناً تكون أضعف من أن تتحكم في محيطها.

وتعد قناة السويس الممر المائي الذي يربط بين البحرين المتوسط والأحمر، وتوفر طريقاً مختصرة للشحن البحري العالمي، برهاناً على الموقع الاستراتيجي الكبير للبلاد.

لكنَّ التحكم في نقطة بالغة الأهمية لم يكن كافياً لحماية أهمية مصر من التناقص على الصعيد العالمي، حسب تقرير لمركز Stratfor الأمريكي للدراسات الاستراتيجية والأمنية.

وفي حين أنَّ مقدار أهمية مصر بالنظام العالمي ربما يكون موضع جدل، فقليلون في الشرق الأوسط سوف يجادلون في محورية دورها بالمنطقة.

شروط استعادة مصر لدورها الإقليمي تكمن في الداخل  

ومع ذلك، فإنَّ رغبة مصر في إشراك نفسها بالشؤون الإقليمية تزيد وتنقص وفقاً لمدى استقرارها في الداخل.

واليوم، بعد سنوات من الفوضى السياسية منذ الربيع العربي وعودة الجيش إلى السلطة، فإنَّ السياسات الداخلية في مصر قد استقرت.

في ظل هذا النهج المُجدَّد، فإنَّ برلمان مصر يناقش حتى مدَّ حدود فترة ولاية الرئيس، وهي علامة على ثقة الحكومة بحصانتها ضد التحديات الداخلية.

كما أنَّ الاقتصاد قد عاد إلى مساره الصحيح، مع استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي بعد قرب انتهاء برنامج طموح لصندوق النقد الدولي مدته 3 سنوات، حسب وصف التقرير الأمريكي.

لذا، فبينما كان العقد الأخير فترة تركيز داخلي لمصر، فالبلاد الآن في وضع يمكّنها من العودة لدورها التاريخي بوصفها قوة متوسطة، حسب وصف التقرير.

لماذا نجحت مصر في الحفاظ على وضعها كقوةٍ متوسطةٍ فترات طويلة بالتاريخ؟

سلكت مصر، خلال معظم تاريخها الحديث، نهجاً بوصفها قوة متوسطة استراتيجية بالشرق الأوسط، فشاركت في صراعات عديدة أو توسطت فيها، وقدمت دعماً دبلوماسياً للحلفاء الذين يسعون للاستفادة من ثقل البلاد.

إذ تشغل مصر موقعاً محورياً في العالَمين العربي والإسلامي، مع خط ساحلي واسع بطول 3 ممرات مائية رئيسة: البحر الأحمر، والبحر المتوسط، ونهر النيل.

كما أنَّ لديها أكبر قوة عسكرية عربية، وضمنها بَحرية ضخمة وسلك دبلوماسي متطور.

لديها تأثير ثقافي وديني لا يضاهى   

وفي حين أنَّ السعودية ودول الخليج الأخرى كانت تميل إلى أن تكون أكثر الدول العربية ظهوراً بالدبلوماسية العامة خلال السنوات الأخيرة، فالحكومة المصرية كانت قائداً إقليمياً قبل وقت طويل من إنشاء دول الخليج ذاتها، وقبل أن تكتشف النفط الذي يغذي قوتها الآن.

ثقافياً، تحظى مصر -صاحبة أكبر عدد سكان في العالم العربي بأكثر من 100 مليون نسمة، آخذين في النمو بسرعة- بأهمية قصوى في العالم العربي، والعالم الإسلامي الأوسع مدى.

الرئيس المصري خلال أداءه العمرة/ أرشيف
الرئيس المصري خلال أداءه العمرة/ أرشيف

فجامع الأزهر مع مؤسسته الدينية، على سبيل المثال، يعترف به على نطاق واسع بأنه المركز العالمي للتعليم الإسلامي السُّني.

فدوماً استغلت موقعها لنيل المكتسبات من القوى العظمى

أهمية مصر بوصفها قوة وسطى يندرج تحتها كيفية ارتباطها بالعالم الأوسع.

ذلك أنَّ مصر الحديثة قد استغلت نفوذها الإقليمي لانتزاع الفوائد من القوى العالمية التي تنافس من أجل الهيمنة.

ويعتبر الانتقال الحاد من الملكية إلى الجمهورية، عام 1952، مثالاً كلاسيكياً على هذه الديناميكية.

إذ وجدت مصر نفسها، في ذلك الوقت، بموقع فريد للاستفادة من التوترات الوليدة للحرب الباردة بين الشرق والغرب.

فوازنت في البداية المملكة المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، ثم وازنت الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، حسب وصف تقرير المعهد الأمريكي.

ولهذا السبب لم تجرؤ القوى العظمى على إغضابها

وقد أكسب هذا الأمر مصر مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى الدعم الدبلوماسي من جميع الأطراف، لأنه لم يكن أحد من القوى العالمية راغباً في استعداء القاهرة والمخاطرة بخسارة الوصول إلى قناة السويس أو الجيش المصري القوي واقتصاد مصر وسوقها الاستهلاكية الكبيرة.

واليوم، تواصل مصر هذا التوازن، إذ تتلقى أكثر من مليار دولار سنوياً من المساعدات العسكرية الأمريكية، في حين تشتري بالوقت ذاته معدات عسكرية روسية، وتستكشف قدرات تطوير الطاقة النووية مع موسكو.

وتضخ الصين أيضاً استثمارات في مصر، واضعةً نصب عينيها سوقها الاستهلاكية وبيئتها التصنيعية، ولضمان سهولة الوصول إلى البحر الأحمر وقناة السويس بوصفهما جزءاً من مبادرة الحزام والطريق الصينية.

ومع ظهور مصر بوصفها لاعباً إقليمياً أكثر ثقة، فسوف تجد هذه القوى العالمية الثلاث نفسها أيضاً تتنافس للحصول على اهتمام مصر.

ولكن، ظل لها منافسون إقليميون أقوياء

وبالقدر نفسه الذي يصعب معه الجدال بشأن القوة المتأصلة في مصر، فكذا الحال مع نقاط ضعفها.

فعندما كتب الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، عام 1955، أنه "لا بلد في العالم يستطيع الإفلات من النظر إلى ما وراء حدوده، للعثور على مصدر التيارات التي تؤثر فيه"، كان يعترف بأنَّ مصر الحديثة ينبغي لها أن تموضع نفسها بحكمة، حتى بين القوى الأقوى.

اعترف ناصر بعجز مصر عن محاربة الواقع الجغرافي الذي يربطها بالجيران والمنافسين مثل السودان وإثيوبيا في اتجاه النيل، أو تركيا وهي قوة أخرى تسعى للهيمنة على شرق البحر المتوسط.

ويشتهر ناصر بحشد العالم العربي ضد التعدي الغربي وإسرائيل، على الرغم من أنَّ خلفه الرئيسَ السادات قد تحوَّل عن مساره بخصوص إسرائيل عام 1979، كما هو معروف.

ولكن مشكلة مصر الكبرى كانت تأتي من الداخل

ومع ذلك، فإنَّ فترات النضال والمشكلات السياسية والاقتصادية الداخلية في مصر قد قوَّضت، باستمرار، قدرتها على العمل بوصفها قوة محترمة ووسيطاً بين الدول الإقليمية.

لكنَّ هذه الفترات لم تبدل من الضرورات الإقليمية الأساسية لمصر، وهي كالتالي:

أولاً، مصر ستدافع عن قلبها السكاني على طول نهر النيل الأدنى والدلتا من أي تهديدات أمنية من شأنها أن تتسرب عبر حدودها.

وثانياً، فهي ستحارب أي شيء، سواء كان سياسياً أو مادياً، يهدد وصولها إلى المياه والوقود والإمدادات الاقتصادية التي تحتاجها من أجل سكانها المتزايدين بسرعة.

وثالثاً، فستقاتل للحفاظ على حريتها في اتخاذ القرار حول من تتعامل معه وأي الصراعات التي سوف تتورط فيها.

الربيع العربي.. مطالب الحرية تُضعف النفوذ الإقليمي

كانت احتجاجات الربيع العربي لحظة تفاؤل ديمقراطي نادرة في مصر، بعد الإطاحة بالرئيس مبارك الذي حكم مصر فترة طويلة، عام 2011، وتبعتها الانتخابات الرئاسية عام 2012، التي تلاها تشكيل حكومة للإخوان المسلمين.

وشكلت هذه الاحتجاجات أيضاً بداية فترة مضطربة سوف تشهد تراجع مصر عن دورها الإقليمي التاريخي، رغم أنها كانت جزءاً من لحظة فريدة من التفاؤل الديمقراطي للعالم العربي بأَسره.

ومع ذلك، فإنَّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو الهيئة العسكرية التي تهيمن على الشؤون المصرية، رأى عامي 2011 و2012 بوصفهما فترة تقلُّب مخيفة.

القمع مقابل الاستقرار والنفوذ.. معادلة قديمة تُجدَّد

يقول المعهد الأمريكي إن الانقلاب العسكري الذي وقع عام 2013، وانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2014، ساعدا على تهدئة الأجواء السياسية المضطربة، حتى وإن كان ذلك يعني قمعاً عنيفاً للمعارضة.

ونتيجة لذلك، فقد ربح السيسي فترة ثانية بسهولة عام 2018، وهو ما يعطيه السنوات الأربع القادمة لترسيخ إرثه، ويعطي الجيش الكثير من الوقت مع زعيم وافقوا عليه، وحكومة يمكنهم التحكم فيها بسهولة.

الجيش المصري في المرتبة 12 متفوقاً على إسرائيل وإيران وحتى كندا/ Reuters
الجيش المصري في المرتبة 12 متفوقاً على إسرائيل وإيران وحتى كندا/ Reuters

ويبدو أن معادلة القمع مقابل الاستقرار وزيادة النفوذ الإقليمي تتجدَّد في مصر دوماً.

ففي الأغلب كان نفوذ مصر بالمنطقة يتزايد في عهود حكامها الأكثر قمعاً، في حين يتراجع مع تخفيف وطأة القمع.

فبلغت مصر ذروة نفوذها الإقليمي في عهد محمد علي مؤسس الأسرة العلوية وأحد أكثر حكامها قسوة الذي بدأ عهد بمذبحة المماليك (حكام مصر السابقين)، ثم تراجع نفوذها في عهد خلفائه الأقل قسوة، خاصة فيما يسمى العهد الليبرالي، الذي تركزت فيه الجهود على جلاء الاستعمار.

وفي العهد الجمهوري، بلغت مصر ذروة نفوذها الإقليمي مجدداً في عصر الرئيس الراحل عبد الناصر، الأقل في الحريات من خلفيه السادات ومبارك اللذين تراجع في عهديهما نفوذ مصر الإقليمي، ثم زاد انحداراً في عهد الرئيس الديمقراطي المنتخب الوحيد في تاريخ مصر محمد مرسي.

وها نحن نشهد استعادة مصر لدورها الإقليمي في عهد الرئيس السيسي الذي افتتح عهده بالمذابح مثل محمد علي وعبد الناصر، والآن هو يستعد لإطالة عهده بتعديلات دستورية لا تجد من يعارضها إلا في مواقع التواصل الاجتماعي، ومعارضة خجولة في البرلمان.

وهناك شيء آخر مكَّن السيسي من استعادة مصر لدورها الإقليمي

يرى تقرير المركز  الأمريكي أن استعادة مصر لدورها الإقليمي لا تعود فقط للهدوء الذي فرضه الجيش على البلاد قسراً.

ولكن أيضاً بفضل تغيُّر الوضع الاقتصادي.

فقد تحسن الاقتصاد المصري الهش، وإن كان الاقتصاد ما يزال نقطة ضعف البلاد، حسب التقرير.

وتشمل نقاط ضعفه المستمرة مستويات مرتفعة من الديون، وفاتورة ضخمة من الرواتب العامة، ودعماً عالياً تناضل الحكومة من أجل تخفيضه، وبطالة مرتفعة، واعتمادية على قطاع زراعي آخذ في الضعف، ونظاماً تعليمياً ضعيفاً لتدريب قوة عمل تلبي الاحتياجات المستقبلية للبلاد.

وعلاوة على ذلك، فالعملة المصرية ضعيفة ومن المرجح أن تستمر في الضعف، وهو ما يقلل من القوة الشرائية الضئيلة بالفعل في البلاد.

فالاقتصاد ليس ممتازاً ولكن أفضل من الماضي.. والفضل للجهة التي يشتمها المصريون عادة

لكن على مستوى الاقتصاد الكلي، فإنَّ اقتصاد مصر بدأ يظهر بشكل أقوى مما كان عليه لسنوات، والفضل في ذلك يعود جزئياً لالتزام القاهرة ببرنامج صندوق النقد الدولي، الذي عادة ما ينتقده المثقفون المصريون بشدة.

إذ حققت البلاد أعلى مستويات النمو منذ عقد من الزمان، وأكبر استثمار أجنبي مباشر من أي بلد آخر في إفريقيا لعام 2018، جنباً إلى جنب مع ارتفاع أعداد السياح.

لافتات السيسي في شوارع مصر / رويترز
لافتات السيسي في شوارع مصر / رويترز

والإثنين 11 فبراير/شباط 2019، أبقت مؤسسة موديز العالمية على نظرتها الإيجابية تجاه النظام المصرفي المصري مدفوعة بتحسن البيئة التشغيلية.

ونقلت وكالة رويترز عن المؤسسة قولها إن من المتوقع أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر 5.5 % في 2019 و5.8 % في 2020، وإن معدل انتشار الخدمات المصرفية سيزيد مما يدعم نمو الودائع والقروض.

ويؤدي هذا التقدم الذي تحرزه القاهرة إلى استقرار اقتصادها، ويعني نظامها السياسي الداخلي أنها الآن مرتاحة بما يكفي لاستئناف دور أكثر فاعلية بوصفها وسيطاً وقائداً في بعض الصراعات الإقليمية.

ولكن الثمن كان باهظاً

غير أن الإصلاحات التي اقترحها صندوق النقد الدولي والتي أنقذت البلاد، بما في ذلك تقليل دعم المحروقات وتعويم الجنيه المصري، لم يكن من الممكن تمريرها لولا خوف المواطنين من اليد القمعية التي اشتهر السيسي منذ توليه الحكم.

ففي حين كان يخشى مبارك تقليل الدعم دوماً خوفاً من تكرار انتفاضة الخبز الشهيرة التي قامت ضد الرئيس السابق أنور السادات، فإن السيسي رفض الاستجابة لنصائح الأجهزة الأمنية أحياناً بتأجيل الزيادات، حسبما قالت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست".

ولكن هذه الإصلاحات رغم ضروريتها طبقت بطريقة شديدة القسوة، ودون تقديم بدائل واسعة النطاق لمساعدة المواطنين على التغلب على التضخم الهائل الذي ابتلع أجورهم.

كما أن انتقادات صندوق النقد للإنفاق على المشروعات القومية الكبرى لم توقف ولع الرئيس السيسي بها، وهو ما يزيد من إحساس المواطنين بالضائقة الاقتصادية بسبب سحب السيولة لصالح هذه المشروعات.

حتى أن أحد الكتاب المصريين وصف هذه المشروعات بأنها بالوعة للموارد.

سمات سياسة السيسي الخارجية.. الابتعاد عن إغراءات الشام

خرجت مصر من خطر الإنهيار الاقتصادي بفضل الدعم الخليجي ثم السياسة النقدية المرنة التي اتبعها محافظ البنك المركزي المصري بإشراف صندوق النقد وتحت حماية عصا السيسي المرفوعة في وجه الجياع.

والآن يتوقع أن تصبح مصر أكثر فاعلية في الملف الخارجي، مقارنة بالفترة الماضية.

مع ملاحظة أن القاهرة في عهد السيسي تتميز بتركيز أولوياتها على محيطها الأقرب، وعدم الوقوع في فخ الإغراء الذي كان يمثله المشرق العربي لمصر دوماً، وخاصة سوريا التاريخية أو منطقة الشام  التي كانت تجتذب دوماً التدخل المصري.

وهو الإغراء الذي وصفه الجغرافي المصري الشهير جمال حمدان بقوله إن مصر تقع في إفريقيا وتنظر إلى آسيا، في إشارة لتورطها الدائم تاريخياً في أحداث المشرق العربي، لاسيما منطقة الشام التاريخية.

وفي البدء كانت إثيوبيا والسودان

وفي حين بدأت مصر في الاضطلاع بدور أكثر حزماً في المنطقة، فإنَّ تركيزها لا يزال منصباً على حماية قلبها في النيل والدلتا.

فقد سعت مصر، خلال العام الماضي، لتقليل التوترات مع جيرانها الجنوبيين، السودان وإثيوبيا، فيما يخص سد النهضة الإثيوبي الكبير الواقع على نهر النيل.

وقد دفعت الحاجة إلى إيجاد حلول لضمان الإبقاء على وصول المياه الكافية للري والشرب، إلى هذا النهج الأكثر براغماتية.

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعمر البشير الرئيس السوداني/ رويترز
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعمر البشير الرئيس السوداني/ رويترز

تاريخياً، كانت مصر اللاعب المهيمن على النهر على الرغم من كونها دولة مصب.

لكن في الآونة الأخيرة، أثبت جيرانها من دول المنبع أنهم مستعدون لاستخدام نفوذهم على نهر النيل ضد مصر.

ويشهد دعم مصر للزعيم المحاصر عمر البشير، خلال الاضطرابات الأخيرة في السودان، على رغبة القاهرة في تحقيق السلام مع جيرانها في البحر الأحمر، على الرغم من أنَّ التوترات حول تقسيم مياه النيل سوف تستمر من دون شك.

ليبيا لها الأولوية ولكنها قد تفتح الباب لخلاف مع أقرب الحلفاء للسيسي

وتتمثل الأولوية التالية لمصر في صد التمرد المسلح، الذي ينبع معظمه من المساحات الشاسعة من الصحراء على جانبي النيل.

وقد كانت جارتها الغربية، ليبيا، في الآونة الأخيرة إحدى النقاط الساخنة للتمرد المسلح.

ولسنوات عديدة، وفرت مصر الدعم العسكري والدبلوماسي لقائد ما يعرف بالجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر.

كما قصفت القوات الجوية المصرية، التي تتعاون بهدوء مع الإمارات العربية المتحدة، الميليشيات الإسلامية شرقي ليبيا، في سعيها لإيقاف التمرد المسلح من التسرب إلى الحدود الليبية المصرية المليئة بالثغرات.

وفي نهاية المطاف، سوف تؤدي الخلافات حول التعامل مع فصائل إسلامية بعينها إلى توتر التحالف المصري – الإماراتي، حسب المركز الأمريكي.

كما تخاطر المشاركة المصرية الأعمق في ليبيا بإثارة اعتراض قوى الصحراء الكبرى مثل الجزائر والمغرب.

وفي فلسطين قرر التنسيق مع أشد خصومه

وكان الزعماء المصريون قد بدأوا في إعادة التعامل بشكل براغماتي، مع حركة حماس المسلحة في قطاع غزة بغرض تعزيز الأمن في شبه جزيرة سيناء بعد سنوات من العمل الضعيف مع الفلسطينيين.

ومنذ سقوط الرئيس المنتخب محمد مرسي اتخذت مصر وإعلامها نهجاً شديد العداء لحركة حماس باعتبارها الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين، رغم حرص الحركة تقليدياً على فصل علاقتها مع مصر مع جذورها الإخوانية.

ولكن القاهرة أبت في البداية الاستجابة لرغبة حماس في التفاهم، إلا بعد أن بدا واضحاً أنها لا تستطيع ضمان أمن خاصرتها الضعيفة في سيناء دون تعاون الحركة المسلحة.

القيادي الفلسطيني السابق محمد دحلان/ رويترز
القيادي الفلسطيني السابق محمد دحلان/ رويترز

واللافت أن تحسن علاقة مصر مع حماس، تزامن مع جفاء لفترة في علاقتها مع حليفة القاهرة التقليدية في الساحة الفلسطينية حركة فتح.

والسبب الرئيسي لهذا الجفاء، هو رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس إفراط القاهرة في التدخل في شئون الحركة لتعزيز موقع حليفها المفصول من فتح محمد دحلان.

كما أعادت مصر تأسيس نفسها بوصفها فاعلاً أساسياً بمساعدتها لإسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية على التفاوض بين الأطراف الفلسطينية المتناحرة.

وعلى الرغم من أنَّ محدودية هذه الجهود واضحة، وبما أنَّ اتفاقية المصالحة الأخيرة بين فتح وحماس تبدو في طريقها للفشل، فإنَّ مصر تأمل على الأقل في تقليل التهديد الأمني الذي يشكله قطاع غزة.

في البحر المتوسط.. مصر تعزز دورها كقوة متوسطية وتتحدى تركيا بشكل غير مسبوق

وفي سعي مصر لإعادة تأكيد نفسها بوصفها قوة متوسطية، فقد أصبحت أيضاً لاعباً أساسياً في نشاط النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث أعطت اكتشافات حديثة ضخمة القاهرة آمالاً في اكتشاف المزيد من الهيدروكربونات.

ولما كانت مصر حريصة على توفير أكبر قدر ممكن من أمن الطاقة وأن تكون قادرة على تزويد قطاعها الصناعي بالطاقة بشكل أفضل، فقد سعت بحرص على الاصطفاف عن قرب مع اليونان وقبرص، فاجتمعت بهاتين الجارتين المتوسطتين في قمم عديدة على مدار العام.

ويجعل هذا الاصطفاف مع اليونان وقبرص، فضلاً عن إسرائيل وإيطاليا، مصر في موقف أفضل لتحدي منافسها الأساسي، تركيا، في أي خلافات مستقبلية حول اكتشافات النفط والغاز المستقبلية في شرق البحر المتوسط (حيث غالباً ما يجري طمس وتداخل الخطوط الإقليمية).

ومع ذلك، فكلما زادت مصر في ضغطها، زادت احتمالات نشوب توتر مع تركيا.

ويتداخل في الخلاف المصري مع تركيا، الإيديولوجي بالسياسي والجغرافي.

فرغم المنافسة التقليدية بين البلدين لقرون، فإنه نادرا ما وصل الخلاف إلى عداء سافر.

فعندما هزم والي مصر محمد علي الجيش العثماني وطلب قائد الأسطول العثماني الانضمام له، فإنه أبى الزحف إلى الأستانة عاصمة الخلافة العثمانية رغم أنه طريقه كان مفتوحاً.

وقبل سقوط حكم مبارك ورغم الخلافات السياسية، كان هناك تعاون في المجال العسكري تحديداً شمل استيراد مصر لمعدات عسكرية مصنوعة في تركيا.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/ رويترز
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/ رويترز

ولكن انقلب الحال بعد عزل مرسي وتولي السيسي السلطة في ضوء غضب القاهرة من تعاطف أنقرة مع الرئيس السابق، وتوصيف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لما حدث في مصر بالانقلاب.

فوصل الأمر إلى أن القاهرة تحالفت مع عدوتها وعدوة العرب التاريخية إسرائيل لمواجهة تركيا في البحر المتوسط.

وازدادت حدة التنافس بين البلدين في شرق المتوسط، مدفوعاً بلهيب الغاز والخلافات الإيديولوجية على السواء.

وإن كان لافتاً، تجنب البلدين نقل النزاع إلى المجال الاقتصادي قدر الإمكان.

ولكن حتى الحلفاء قلقون من استعادة مصر لدورها.. ولكن تتحرك بتؤدة في هذه الملفات

ولكن استعادة مصر لدورها الإقليمي بهذا الشكل، يحمل مخاطرة بخلق شقاق مع القوى الإقليمية الكبرى مثل السعودية وتركيا وإيران والإمارات، التي كانت فاعلة في المنطقة خلال الوقت الذي كان فيه تركيز مصر منصباً بشكل كبير إلى الداخل.

وتعتقد مصر أن لا مبالاتها بشؤون الدول الأبعد في المنطقة، مثل سوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية، سوف يخفف من هذه التوترات.

وتهتم القاهرة، في المناطق التي لا تقع على حدود مصر، بالمساعدة في العمل نحو تحقيق الاستقرار، لكن ليس من دون تأمل دقيق.

ففي الأزمة القطرية كانت الأقل حدة في مواقفها

تعد مشاركة مصر في الحصار الجزئي على قطر أمراً ذا دلالة في هذا الصدد. ذلك أنَّ القاهرة تتوافق بشكل كبير مع أولويات أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي وتعتمد على مساعدتهم الاقتصادية.

بالإضافة إلى ذلك، فإنها مستاءة من الدوحة لإيوائها للحركات الإسلامية التي تعارضها. ولكن حتى مع ذلك، فقد كانت مصر الأهدأ من بين الدول الأربع التي بدأت الحصار.

ويعيش في قطر نحو 300 ألف مصري، حسب التقديرات المصرية الرسمية، ولم تتأثر أوضاعهم بالأزمة.

السياسة المصرية في سوريا.. لغز يعرف طلاسمه الجميع

وبالمثل، فقد تجنبت مصر الانخراط الكبير في الحرب الأهلية السورية، خوفاً من انجرارها إلى مستنقع قد تنتج عنه ضربة عكسية كبيرة.

ومع ذلك، فقد سارعت أيضاً في قبول احتمالية سوريا يقودها بشار الأسد، وهو انعكاس لحماس القاهرة لحكومات عربية مستقرة ذات مساحة ضئيلة للإسلامويين.

ولا تفضل مصر  الإفصاح عن مدى علاقتها مع الأسد لعدم إغضاب دول الخليج خاصة السعودية، وكذلك لعدم جلب مزيد من الانتقادات من الغرب.

وها هو السيسي يرقص على الحبال مع القوى العظمى

وفي حين قد يبدو أنَّ مصر تبرز بوصفها قوة وسطى أكثر صلابة في الشرق الأوسط ، فإنها لا تزال تواجه صعوبات سياسية واقتصادية.

وكلما زادت مشاركة مصر خارج حدودها، زاد ما تلاقيه من تعقيدات مع القوى الإقليمية والعالمية التي لا تشاركها أولوياتها.

فالولايات المتحدة تعترض بالفعل على العلاقة الوثيقة لمصر مع روسيا، ويعارض الكونغرس بشكل خاص شراء القاهرة لأسلحة روسية.

سوف تصبح زيادة التعاون الاقتصادي مع الصين هي الأخرى مشكلة مع واشنطن، لا سيما لو زادت مصر من شراء التكنولوجيا الصينية.

مصر تستعيد دورها الإقليمي في عهد السيسي/ رويترز
مصر تستعيد دورها الإقليمي في عهد السيسي/ رويترز

لكن في حين لا تزال المعارضة السياسية والهشاشة الاقتصادية تحديات مستمرة، فطالما تشعر القاهرة بالمزيد من الثقة في الداخل، فسوف تظل تمارس دوراً أكثر نشاطاً في الشرق الأوسط، حسب المركز الأمريكي.

ولكن الأقربون هم الذي سيدفعون ثمن هذا الدور الإقليمي المُستعاد 

غير أن الأمر الذي لم يتطرق إليه تقرير المركز الأمريكي، أن هناك شيئاً مكرراً في معادلة الاستبداد مقابل النفوذ الإقليمي، التي ميزت سياسة مصر خلال القرنين الماضيين، 

ألا وهو إن النفوذ الإقليمي الذي تحقق في عهد الحكام الأكثر استبداداً، قابله تراجع كبير في الحريات الداخلية، وأحياناً في مستوى معيشة المصريين.

وحتى على مستوى السياسية الخارجية، فإن النفوذ الخارجي الذي تحقق في هذه العهود انتهى في الأغلب بكارثة تبدد أغلب مكاسب هذا  النفوذ.

أما أكثر المتضررين من معادلة القمع مقابل النفوذ الإقليمي الاستقرار، فهم الأقربون، أي المواطنين المصريين الذين فقدوا حرياتهم وابتلاع الغلاء نحو نصف دخولهم.

تحميل المزيد