رغم أنهم لا يعرفون قادته، إلا أن تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات في البلاد يحظى بثقة النشطاء والمتظاهرين، للدرجة التي تجعلهم يقررون التظاهر بناء على توجيهاته.
ورغم وجود نحو 100 حزب سياسي في السودان بين معارض وموالٍ للحكومة، لم يكن أي منها المحرك الرئيسي للشارع.
إذ استطاع الرئيس السوداني عمر البشير طوال ثلاثة عقود إخماد أصوات المعارضة أو تشتيت رموزها، لكن تجمع المهنيين السودانيين تمكن من كسر الطوق، ليقود احتجاجات ضد نظامه.
وتشكك الحكومة السودانية في تجمع المهنيين وتتهمه بالعمالة للخارج، لكن ذلك لم يمنع عدداً كبيراً من السودانيين من الالتفاف حوله، وتأييد مطالبه بالتغيير.
فما هي قصة تجمع المهنيين السودانيين الغامض الذي يقود الاحتجاجات في السودان، وما الذي جعل المتظاهرين فيه لهذه الدرجة، ومن هم مؤسسوه، وما أهدافهم؟.
ما هو تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات؟
يلتف السودانيون حول تجمع سوداني سري أطلق على نفسه "تجمع المهنيين السودانيين" الذي تأسس عام 2013 بعد الاحتجاجات التي عمت البلاد، في سبتمبر/أيلول من ذلك العام.
إلا أن الإعلان الرسمي عنه كان في أغسطس/آب 2018، في ظل تعتيم على أعضائه وهيئاته لأسباب أمنية، حسبما ورد في تقرير لموقع "بي بي سي عربي"
وحسب موقع قناة الجزيرة نت، فإن تجمع المهنيين أنشئ في يوليو/تموز 2018، لكن يبدو أن عرّابيه قد اختاروا ساعة الصفر المناسبة للإعلان عن اللافتة بعيد انطلاق احتجاجات الخبز في عطبرة وبورتسودان، يوم 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
واستطاع الرئيس السوداني عمر البشير طوال ثلاثة عقود إخماد أصوات المعارضة أو تشتيت رموزها، لكن "تجمع المهنيين السودانيين" تمكَّن من كسر الطوق، ليقود احتجاجات ضد نظامه.
لقد حوّل احتجاجات عنيفة إلى مظاهرات سلمية
ويحسب للتجمع أنه حوّل احتجاجات عنيفة غذتها طوابير أزمة الخبز والوقود والنقود، وصاحبها حرق لمقار حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلى تظاهرات سلمية ذات بعد سياسي، هدفها تنحي الرئيس عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ ثلاثة عقود.
وقال محمد يوسف المصطفى المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات لفرانس برس، إن "المشهد السوداني كان يفتقد سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً إلى قائد".
وتابع أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة الخرطوم، البالغ من العمر 68 عاماً، أن "القوى السياسية المفترض بها أن تقود الحراك منقسمة على نفسها بين معسكرين: قوى الإجماع، ونداء السودان، وبالتالي كانت الغالبية في السودان تبحث عن قائد".
وتابع أن تجمع المهنيين قرَّر أن يكون "مركز العمل وأن ينظم ما يقوله الناس ويضفي عليه معنى معيناً، لكن القائد هو الشعب".
كيف نشأ التجمع في هذه الأجواء القمعية؟
ليس تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات هيكلاً تنظيمياً مثل الأحزاب.
إذ يستلهم قوته من "العمل الجماعي"، وفقاً للمتحدث باسمه، كما لا توجد إحصاءات مسجلة بعدد المنضوين في صفوفه.
ونظراً لحظر القانون تشكيل نقابات مهنية مستقلة، قال المصطفى إن 200 أستاذ بجامعة الخرطوم شكلوا تجمعاً مهنياً غير رسمي.
وكانت تلك البداية التي شجعت المهنيين في كافة أنحاء العاصمة على تشكيل تجمعات مشابهة.
وفي عام 2016، قرَّرت ثمانية من التجمعات المهنية المنفصلة ضمنها البيطريون والإعلاميون والصيادلة والمعلمون والمحامون، تأسيس "تجمع المهنيين السودانيين".
وأضاف المصطفى أن ذلك كان مخالفاً للقانون "ولا تعترف الحكومة به، لكنه يتماشى مع الدستور في مادته الـ40″، حسب قوله.
وتنص المادة 40 من الدستور على أنه "يُكفل الحق في التجمع السلمي، ولكل فرد الحق في حرية التنظيم مع آخرين، بما في ذلك الحق في تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية أو الانضمام إليها حماية لمصالحه".
وكان تجمع أساتذة جامعة الخرطوم، الذي يضم 200 أستاذ، وفق المصطفى، هو البداية في عام 2012، وأكد أن كل مدينة من مدن السودان أصبح لها تجمع للمهنيين حالياً.
والهدف الرئيسي للتجمع محدد.. تنحي البشير
أبرز مطالب تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاحات هي كالتالي:
التنحي الفوري للبشير دون شروط.
تشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية لأربع سنوات.
وقف الانتهاكات وإلغاء القوانين المقيدة للحريات.
وتم الاتفاق عليها وصدرت كوثيقة موقعة في مستهل عام 2019 في الخرطوم.
واقترح التجمع أنه في حال وافق البشير على التنحّي "فستتشكّل حكومة انتقالية ذات كفاءات وبمهام محدّدة ذات صبغة توافقية بين أطياف المجتمع السوداني".
اختفاء سكرتارية التجمع لم تُضعف نشاطه
وبعد استهداف السلطات الأمنية لسكرتارية تجمع المهنيين بالاعتقال لدى ظهور قادته في وسائل الإعلام، آثرت السكرتارية العمل في الخفاء.
وهو ما دفع أنصار الحكومة لوصف التجمع بأنه مجرد "شبح" يهدد البلد الهش بشعار "تسقط بس".
لكن الصحفي السوداني فيصل محمد صالح، الحائز جائزة "بيتر ماكلر" والمنخرط في الاحتجاجات، يرى أن التجمع ليس شبحاً أو منظمة سرية.
ويعتبر أنه من الطبيعي أن تظل سكرتارية التجمع سرية بعد حملة اعتقالات شملت قادته، على رأسهم الطبيب محمد ناجي الأصم.
ولماذا يثقون فيه رغم أن قياداته مجهولة؟
ولا يبدو صالح في حديثه مع موقع الجزيرة مكترثاً بمعرفة السكرتارية التي تدير التجمع حالياً، باعتبار ذلك تأميناً مطلوباً.
ويقول: "يكفي أن كل أصحاب مهنة يعرفون قياداتهم في اللجان المكونة للتجمع".
وتعد مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وسائل الإعلام الرئيسية التي يعوّل عليها شباب التجمع في التواصل والتعبئة.
وقال محمد الأسباط، أحد متحدثي التجمع المقيم في باريس إن "حفاظ التجمع على السلمية والتواصل الناعم هو سبب الالتفاف الجماهيري حوله".
وكيف يحرك التجمع كل هذه المظاهرات؟
يقول الكاتب الصحفي السوداني فيصل محمد صالح، إن "الطريقة التي يتبع بها المتظاهرون هذه المجموعة (التجمع) غريبة"، مشيراً إلى التزام المتظاهرين بالساعة التي يحددها التجمع للتظاهر، وعادة ما تكون الواحدة ظهراً.
وأضاف: "إنه إنجاز لهذه المجموعة، آخذين في الاعتبار أن المتظاهرين لا يعرفون حتى مَن هم القادة الرئيسيون لها، إنهم فقط يثقون بها".
وفي 25 ديسمبر/كانون الأول، كانت الدعوة الأولى من تجمع المهنيين لتظاهرة نحو القصر الجمهوري "لتسليم مذكرة لرئاسة الجمهورية تطالب بتنحّي الرئيس فورا عن السلطة استجابة لرغبة الشعب السوداني وحقنا للدماء".
ومع اختفاء سكرتارية تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات في البلاد، أصبح المحتجون يتلقون التوجيهات والمعلومات الخاصة بزمان ومكان المواكب، عبر حساب التجمع على تويتر، الذي يتابعه 31 ألف متابع، وصفحة التجمع على فيسبوك التي يتابعها 157 ألفاً و300 "شخص".
وآثر الناشطون في تجمع المهنيين التواري عن الأنظار خشية الاعتقال، كما أغلقوا هواتفهم بعد أن راج أن الهواتف الذكية كانت سبباً في اعتقال الأمن لقادتهم.
وهل هو تجمع يساري حقاً؟
ويعمد مسؤولو الحكومة إلى إلباس تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات عباءة حمراء، بالقول إن الشيوعيين واليساريين يسيطرون عليه.
إلا أن الاتهام يبدو بلا أساس مع تزايد التأكيدات بأن أبناء وبنات التيار الإسلامي هم ضمن حراك الشارع، حسب موقع الجزيرة.
حتى إن القيادي بحزب المؤتمر الشعبي عمار السجاد فنَّد ما ذهب إليه مدير جهاز الأمن صلاح قوش، بأن قلة من الشيوعيين يحركون الاحتجاجات، مؤكداً أن نحو 260 من بين أكثر من 800 معتقل كانوا أبناء وبنات رموز في المؤتمر الوطني.
إنه مجرد واجهة سياسية
ولا يرى أنصار الحكومة في تجمع المهنيين أكثر من واجهة ذات أجندة سياسية، بحسب ما يقول رئيس القطاع السياسي بأمانة الشباب في حزب المؤتمر الوطني فضل الله رابح.
ويرى رابح "أن الدعوات الصادرة عن تجمع المهنيين غير شرعية، لأنه كيان غير مستقل ومنحاز لأطراف سياسية".
ويحذر رابح من أن نهج التجمع لا يتسق مع البيئة التي تخدم الاستقرار والمحافظة على الكيانات المهنية، بعيداً عن زجها في صراعات سياسية تجعلها في مواجهة مع الأجهزة المختصة، وتضعها تحت طائلة إجراءات استثنائية.
هل سيشكلون حزباً؟
نفى المصطفى، وهو عضو الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة، وجود نية لتحويل التجمع إلى كيان سياسي، حسبما نقل عنه موقع قناة الحرة الأمريكية.
وقال: "ليس هناك تفكير في تحويل الكيان المهني لحزب سياسي أو كيان سياسي، خصوصاً أن لدينا العديد من المهنيين هم بالفعل أعضاء في أحزاب سياسية".
بدوره، يقول الأسباط، إن التجمع "نجح في جذب قوى المعارضة الرئيسية في البلاد، الإجماع، ونداء السودان، لتلتف حوله وتوقع معه ميثاق الحرية والتغيير، مطلع شهر يناير/كانون الثاني 2019".
وأضاف: "اليوم انضم إلى الميثاق 19 تنظيماً وحركة ومؤسسة من سياسية إلى شبابية إلى فئوية، ويهدف إلى إسقاط النظام وإقامة الديمقراطية".
وقد أعلن الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة المعارض، في خطبة الجمعة، بحضور مئات من مناصريه "نؤيد هذا الحراك الشعبي، وندعمه".
وأضاف المهدي أن أهم مطالب هذا الحراك الشعبي هو "أن هذا النظام يجب أن يرحل وتحل محله حكومة انتقالية".
وقال الأسباط إن "حفاظ تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات على السلمية والتواصل الناعم هو سبب الالتفاف الجماهيري حوله".