على مدار 3 أيام، يجري الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارته الأولى للقاهرة منذ أن أصبح رئيساً قبل أكثر من عام، لكن هذه الرحلة شهدت تصعيداً كبيراً من قبل باريس ضد القاهرة بشأن الملف الحقوقي.
ومن المثير ما قاله الرئيس الفرنسي قبل وصوله للقاهرة بساعات، حيث أكد أن حقوق الإنسان بمصر يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها في وضع أسوأ مما كانت عليه بعهد الرئيس السابق حسني مبارك، الذي أطاحت به احتجاجات شعبية في 2011.
وأبلغ ماكرون الصحفيين على هامش زيارة لمصر: "أعتقد أن المثقفين والمجتمع المدني في مصر يعتبرون السياسات الحالية أشد صرامة منها في عهد مبارك".
وأضاف: "لا يمكنني أن أفهم كيف يمكنك التظاهر بضمان الاستقرار على المدى الطويل في هذا البلد، الذي كان في لب انتفاضات الربيع العربي وتذوق طعم الحرية، وتتصور أن بإمكانك الاستمرار في التشديد بما يتجاوز المقبول أو المبرر لأسباب أمنية!".
وأضاف: "أعتقد أن ذلك أمر متناقض ويضر مصر نفسها".
ومثّلت تصريحات ماكرون تشديداً في موقفه، بعدما قال في 2017 إنه لن يقوم بـ "إلقاء محاضرة" على الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بخصوص الحريات المدنية، التي تقول جماعات حقوقية إنها تتآكل.
وأكد ماكرون على ذلك في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع السيسي، الإثنين 28 يناير/كانون الثاني 2019.
وقال ماكرون في معرض حديثه عن انتهاكات الحكومة المصرية: "هناك مدونون ومفكرون وُضعوا في السجون، وصورة مصر سوف تتضرر وتتأذى".
وأضاف ماكرون أنه يجب إيجاد حل لاعتقال المدونين والمفكرين في مصر.
وأشار إلى أنه يقدِّر الرئيس عبد الفتاح السيسي ومساعيه لنهضة البلاد، لكنه استطرد بالقول: "العقول الجيدة في حاجة إلى الحرية والجدل بين بعضها وبعض، وفي حاجة إلى نقاشات لمساعدة مصر المستنيرة".
وقال ماكرون إن هناك حالات فردية في المعتقلات لا تمثل تهديداً لاستقرار مصر، وأضاف: "ربما لا يوافقني السيسي على بعض هذه الحالات، لكني لن أكون صديقاً صادقاً إن لم أتكلم عما يجول في بالي".
ماذا تغير هذه المرة؟
-
منظمات حقوقية تضغط عليه لتغيير كلامه
التصريحات التي قالها ماكرون قبل عام، في أثناء زيارة السيسي باريس بشأن ملف حقوق الإنسان، أثارت موجة كبيرة من الغضب ضد الرئيس الفرنسي في الداخل، واعتبر البعض أن فرنسا باعت مبادئها بالصفقات التي كان من المتوقع أن تتم مناقشتها بين الجانبين في أثناء الزيارة.
إذ قال ماكرون إنه لن يعطي الرئيس المصري محاضرات بشأن حقوق الإنسان، وإن القاهرة أعلم بشؤونها في هذا الملف.
لكن في هذه الزيارة حاول ماكرون أن يكسب ود هذه المنظمات، خاصة أن العلاقة مع القاهرة فيها الكثير من الفتور منذ تولي الرئيس الفرنسي منصبه، فلا طائل من سكوته عن الملف الحساس لدى السيسي، والذي دوماً ما ترى فرنسا أنها فيه قلعة الحريات وضمانة حقوق الإنسان بأوروبا.
أيضاً ماكرون كان لديه رغبة حقيقية في استمالة هذه المنظمات، في ظل تصاعد المد اليميني بأوروبا المناهض للاجئين وملفات حقوق الإنسان.
كما أنه حين كان أقل صراحة في حديثه عن الحقوق منذ اجتماعه الأول مع السيسي، لم تفِ مصر باتفاقات دفاعية ومدنية مع باريس، في حين تزايد انتقاد جماعات حقوق الإنسان قمع الحريات الذي ازداد سوءاً، بحسب ما ذكره مسؤولون فرنسيون لوكالة رويترز.
-
قائمة الأسماء التي رفض السيسي الإفراج عنها:
ثمة أمر آخر تسبب في تصعيد لهجة الرئيس الفرنسي ضد نظيره المصري بهذه الزيارة، ففي أثناء زيارة الأخير باريس، قدّم ماكرون للسيسي عندما استضافه بباريس في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، قائمة بأسماء نشطاء كان يعتقد أن السيسي يمكن أن يطلق سراحهم من السجون.
وقالت ثلاثة مصادر اطلعت على الحوار لـ "رويترز"، إن السيسي نظر إلى ماكرون، ولمح له بأنه ساذج، ومضى يعدد بالتفصيل الأسباب التي تدعو إلى عدم الإفراج عن كل شخص، مشدداً على صلاتهم بالإسلاميين أو الإخوان المسلمين.
لكن ماكرون في هذه الزيارة، بدلاً من تقديم قائمة محدودة بأسماء الأشخاص الذين يجب الإفراج عنهم من السجن، أوعز إلى السلطات الفرنسية بالقاهرة بإرسال دراسة أوسع نطاقاً لأوجه القصور في حقوق الإنسان، وقائمة بنشطاء غير إسلاميين مسجونين تعتقد أن السيسي سيجد صعوبة في رفضها.
وقال ماكرون للصحفيين: "سأجري في الوقت نفسه حواراً سرياً بشأن حالات فردية وأتكلم بشكل أكثر وضوحاً، بالإضافة إلى مناقشات رمزية، لأنني أعتقد أن ذلك في مصلحة الرئيس السيسي واستقرار مصر.
في مصر لا نتحدث فقط عن معارضين سياسيين يجري سجنهم ولكن عن معارضين يشكلون جزءاً من الوسط الديمقراطي التقليدي ولا يشكلون تهديداً للنظام. بينهم صحفيون ورجال ونساء من أصحاب الرأي".
-
العاصمة الإدارية:
أيضاً هناك خلاف كبير بين السيسي وماكرون بشأن نقل السفارة الفرنسية من وسط القاهرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي تبعد أكثر من 60 كيلومتراً عن القاهرة.
إذ طلبت الحكومة المصرية من نظريتها الفرنسية أن يبدأ جدول أعمال ماكرون في زيارته القاهرة مقر العاصمة الإدارية الجديدة، وهو ما يعطي اعترافاً ضمنياً بها من قبل الرئيس الفرنسي، لكن ماكرون رفض ذلك تماماً، مؤكداً أنه سيزور أثراً سياحياً (معبد أبو سمبل)، ويلتقي المثقفين ورجال الأعمال وشيخ الأزهر في المشيخة، وبابا الكنيسة بالعباسية، مؤكداً رفضه الذهاب إلى العاصمة الجديدة.
وقررت باريس أن أول ما يقوم به الرئيس الفرنسي عند وصوله إلى مصر الأحد 27 يناير/كانون الثاني 2019، هو الهبوط في مطار أبو سمبل، لزيارة معبد رمسيس الثاني هناك، في إطار الاحتفالية العالمية بمرور 50 عاماً على الحملة الدولية بقيادة منظمة اليونيسكو لإنقاذ آثار النوبة من الغرق، وأهمها معبد أبوسمبل ومعبد فيلة بمدينة أسوان، وذلك في أثناء بناء السد العالي بمصر على نهر النيل، وحفر بحيرة ناصر لتخزين مياه الفيضان السنوي في أعوام الستينيات من القرن المنصرم.
ومما زاد من غضب الرئاسة المصرية أن فرنسا من الدول التي أخطرت أجهزة الأمن المصرية بأنها لن تقبل نقل مقرها إلى الصحراء (يقصدون العاصمة الجديدة).
إذ قال الفرنسيون للمسؤولين المصريين إن السفارة موجودة في مصر، ليس فقط للتعامل مع الحكومة المصرية، لكنها بالأساس لخدمة رعاياها، وأنها لن تنعزل عنهم في عاصمة الصحراء تلك، بحسب مصدر خاص لـ "عربي بوست".
-
الضغط الداخلي:
منذ أكثر من شهر، يتعرض الرئيس الفرنسي لضغط داخلي كبير، بسبب التظاهرات التي لم تتوقف لما يعرف بـ "السترات الصفراء"، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وزيادة البطالة، وهو ما تسبب في توتر كبير بالشارع الفرنسي، خلفه اقتحام محلات تجارية في باريس وسرقة ما بها، في الوقت نفسه تتصاعد لهجة المدافعين عن حقوق الإنسان في الداخل تجاه تعامل الشرطة الفرنسية مع هذه الأحداث، فكأنما أراد ماكرون أن يعيد تقديم نفسه من جديد للداخل من القاهرة، بسبب الملف الحقوقي وأيضاً لممارسة مزيد من الضغط على الحكومة المصرية من أجل عقد صفقات جديدة مع القاهرة ترضي الذين ينظرون إلى ماكرون على أنه وراء تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
-
تأجيل القاهرة للصفقات:
عند وصول السيسي إلى السلطة في عام 2014، توطدت العلاقات الفرنسية-المصرية، وتعامل الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا أولاند، بطريقة هادئة مع ملف الحقوق، وتم التوقيع على صفقات دفاع، وضمن ذلك بيع 24 طائرة مقاتلة رافال، وفرقاطة متعددة المهام وسفينتين حربيتين من طراز "ميسترال"، وهي صفقات بلغت قيمتها نحو 6 مليارات يورو، لكن منذ هذا التاريخ لم تقدم القاهرة أي جديد في الجانب الاقتصادي مع فرنسا.
فمنذ أن وصل ماكرون إلى السلطة، فتر النشاط التجاري، ولم يتحسن الفائض التجاري لفرنسا مع مصر في ثلاث سنوات، مستقراً عند نحو مليار يورو، وتمكنت ألمانيا ودول أخرى من الحصول على عقود مدنية كبيرة.
أيضاً القاهرة علقت تعهداتها بشراء 12 مقاتلة رافال أخرى مدة عامين تقريباً، بسبب الديون التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي، لكن الفرنسيين يحاولون أن تكون هذه التصريحات الشديدة من ماكرون قد تدفع القيادة المصرية إلى الإقدام على عودة هذه التعهدات لسابق عهدها حتى لو بتمويل خليجي، كما حدث من قبل في عدد من الصفقات التي وقعتها القاهرة.