تراجع الرئيس نيكولاس مادورو يوم السبت، 26 يناير/كانون الثاني 2019، عن مهلة نهائية كان قد منحها لموظفي السفارة الأمريكية قبل طردهم من البلاد بحلول السبت الماضي، وهو الأمر الذي نزع فتيل المواجهة الدبلوماسية مؤقتاً في ظل اتفاق يسمح لكلا البلدين بإبقاء الدبلوماسيين في عواصم كل منهما لمدة 30 يوماً أثناء التفاوض على إنشاء "مكاتب محدودة أكثر للمصالح". وإذا لم يتمكنوا من التوصل إلى اتفاق في نهاية تلك الفترة، فإنَّ الدبلوماسيين من كلا البلدين سيتوجب عليهم العودة إلى الوطن في غضون 72 ساعة، وذلك وفقاً لمسؤولين أمريكيين وفنزويليين.
وجاء القرار اللحظي بعد يوم من الخلافات القوية التي شهدتها الأمم المتحدة بين الولايات المتحدة وروسيا -وهي حليف قديم لفنزويلا- بشأن دعوة إدارة الرئيس الأمريكي ترامب إلى استقالة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. وهددت الدول الأوروبية بالانضمام إلى واشنطن والتخلي عن الزعيم الاشتراكي ما يجعله معزولاً أكثر، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وأعطت ألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وهولندا، وبريطانيا مادورو مهلة مدتها 8 أيام لإجراء انتخابات جديدة، مُتعهدين بتأييد خوان غوايدو، وهو زعيم المعارضة الذي نصّب نفسه رئيساً مؤقتاً لفنزويلا وتدعمه الولايات المتحدة ومجموعة من دول أمريكا اللاتينية، إذا حدث خلاف ذلك. وجاءت هذه التحركات عندما بدا أنَّ إدارة ترامب تتحدى قرار مادورو بإغلاق سفارتها بحلول الساعة الرابعة بعد الظهر بالتوقيت المحلي يوم السبت. وجرى إجلاء بعض أفراد البعثة الدبلوماسية غير الأساسيين، على الرغم من أنَّ وزارة الخارجية الأمريكية قالت إنَّ بعض الأفراد سيظلون.
ضربة للحكومة
وفي ضربة وُجهت للحكومة وعلامة على عدم الارتياح العسكري، أعلن الملحق العسكري الفنزويلي بواشنطن، الكولونيل خوسيه لويس سيلفا، السبت الماضي، انشقاقه عن مادورو واعترافه بغوايدورئيساً للبلاد. وفي مقابلة هاتفية من واشنطن، قال إنَّه رفض أمراً للدبلوماسيين الفنزويليين بالعودة إلى كاراكاس وأصدر نداءً لآخرين في الجيش للانقلاب على حكومة مادورو.
وأضاف: "إنَّ القوات المسلحة الفنزويلية في حالة تخبط. هناك استياء تام. لا يملك الجنود المال الكافي لإطعام عائلاتهم. هناك فرصة أكبر من أي وقتٍ مضى أنَّ يشارك بعضهم في الانقلاب".
وقال خوسيه: "إنَّ مصيري يعتمد على الرئيس غوايدو"، مضيفاً أنَّه قطع علاقته مع الحكومة الآن فقط لأنَّها "أساءت معاملة الناس. لا يوجد مخرج آخر. هذه النهاية".
وتميزت محاولة إسقاط مادورو بسرعتها وقوتها. ولكن في فنزويلا، يواجه الخصوم والغرب تحدياً معقداً في مواجهة ليس مجرد رجل واحد، بل ما يطلق عليه النُقاد إمبراطورية إجرامية.
على عكس زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون أو رئيس النظام السوري بشار الأسد، فإنَّ مادورو ليس رجلاً بمفرده أو قائد عشيرة. ولكنه يحكم البلاد بصفته الرجل الذي يُمثل طبقة سياسية مطلقة السلطة والنفوذ ومُتهمة بالفساد الهائل والاتجار بالمخدرات. وبينما كانوا يُقدمون أنفسهم على أنهم ثُوَّار يرتدون ثياباً حمراء اللون، فقد استولوا على شقق بملايين الدولارات في مدينة ميامي الأمريكية وأرسلوا أطفالهم إلى المدارس الدولية الخاصة بالنخبة، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
وكان التركيز العالمي على مادورو كرجل قوي، ويُزعم أنَّه استولى على السلطة ويقول عنه المعارضون أنَّه نسق الأمر ليُعاد انتخابه. ومع ذلك، تواجه المعارضة التي أعيد تنشيطها تحت قيادة غوايدو وداعميه الدوليين، بقيادة ترامب، شبكة واسعة من الشخصيات التي تسيطر على توزيع الغذاء، وأسعار الصرف، والأسلحة، والرشاوى. إنَّ سقوط مادورو وحده، وفقاً لما يقوله العديد من المراقبين، من الممكن ألا يُحدث تغييراً جوهرياً.
هل انتهى حُكم مادورو
وبحسب الصحيفة الأمريكية، بعد قطع العلاقات بين الولايات المتحدة وفنزويلا والدفع الجريء للإطاحة بمادورو، قد ينتج عن الفشل في هذه المرحلة عواقب وخيمة منها: تحويل دولة أمريكا الجنوبية الغنية بالنفط إلى دولة منبوذة بالكامل. إذا نجا النظام، فستظهر فنزويلا كدولة معزولة عالمياً وسيكون ولاؤها بالكامل لموسكو وبكين، وحيث يمكن للقمع والأزمة الإنسانية أن تأخذ منعطفاً حاداً نحو الأسوأ.
وقال أنطونيو ليديزما، زعيم معارضة فنزويلي في المنفى قضى عامين تحت الإقامة الجبرية: "لا يمكن مقارنة وضع فنزويلا بأي ديكتاتورية لا يكون مادورو فيها ديكتاتوراً تقليدياً. نحن نحارب مافيا في السلطة. نحن لا نتحدث عن الحوار لهذا السبب. نحن نفهم أنَّ الحوار قد نجح مع آخرين، مثل مانديلا. في فنزويلا، أجرينا حوارات عدة مرات، ولكن المافيا لا يمكن التعامل معها بهذه الطريقة".
ومع ذلك، فقد وجدت المعارضة حاملاً جديداً للعلم متمثلاً في غوايدو، رئيس الجمعية الوطنية المنتخبة ديمقراطياً، التي استمرت في التجمع حتى بعد تجريدها من السلطة في عام 2017. منسجماً مع إدارة ترامب، استشهد غوايدو بسلطات دستورية لإعلان أنَّ مادورو لم يعد رئيساً شرعياً، وذلك بعد انتخابات رئاسية أُجريت العام الماضي والتي يُنظر إليها على نطاقٍ واسع على أنَّها شابتها اتهامات بالتزوير، مُعلناً نفسه رئيساً مؤقتاً.
وهو يحاول الآن إسقاط بنية السلطة التي بنيت على أساس الإيديولوجية التشافيزية "Chavismo" على مدار 20 عاماً، أو السياسات الاشتراكية لهوغو تشافيز، اليساري الذي توفي عام 2013. كان مادورو، وهو سائق حافلة سابق وقائد نقابي، خليفة تشافيز المُعين وتولى منصب الرئيس في نفس ذلك العام.
المعارضة أوشكت على الاندثار
على الرغم من أنَّ العديد من المشاكل الحالية في البلاد تعود إلى سياسات تشافيز، في ظل حكم مادورو، فقد انهارت التجربة الاشتراكية في فنزويلا بالكامل. إنَّ التضخم المُفرط يدفع الجماهير نحو انتهاج العنف، وزيادة الجوع والمرض، كما يدفع الملايين من الناس إلى الفرار من البلاد في السنوات الأخيرة، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
وفي عهد تشافيز، كانت تتمتع المعارضة بسلطة كبيرة. والآن، يُزعم أنَّ السلطة التشريعية، والمحكمة العليا، والمجلس الانتخابي، ومكتب المدعي العام، و80% من رؤساء البلديات، والمحافظين يُطيعون الحزب الحاكم فعلياً عن طريق الفساد والإكراه.
وقال إيريك فارنسورث، نائب رئيس مجلس الأمريكتين وجمعية الأمريكتين: "إنَّ حركة التشافيزية بأكملها مليئة بالفساد ومراكز متعددة القوى. لقد قوضت واستولت على كل مؤسسة باستثناء الجمعية الوطنية. لذا فإنَّ قطع رأس النظام عن طريق إزالة مادورو سيكون بطريقة أو بأخرى مثل الأفعى متعددة الرؤوس من الأساطير الإغريقية"، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
لقد جعلته المعارضة رمزاً استراتيجياً، ورأت احتمال سقوطه كفرصة لاستعادة الديمقراطية. وليقوموا بذلك، فإنَّهم يعدون بشيء لم يفعلوها من قبل وهو: عفو عام عن مؤيدي مادورو الذين يتنحون جانباً، وربما حتى يعفون عن مادورو نفسه، إذا ذهب طواعيةً.
وصُمم هذا العرض لإرسال رسالة إلى رجال الجيش بأنكم إذا توقفتم عن القتال والتمرد ضد رؤسائكم، فلن تُحاكموا. ولكنها أيضاً مناورة لجعل القوى التي تدير البلاد تُعادي بعضها البعض.
وقالت ليليان تينتوري، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان وزوجة زعيم المعارضة الفنزويلية المسجون ليوبولدو لوبيز، الذي يُعد بمثابة مُعلم لغوايدو: "يُقدم غوايدو عفواً لكل من يقف بجانبه، وإلى أفراد الجيش والشرطة الذين لا يستطيعون إطعام عائلاتهم". وعندما سُئل عما إذا كان هذا العرض يمتد إلى كبار مسؤولي مادورو، أو حتى مادورو نفسه، قالت: "نعم. إلى أي فنزويلي. أي فنزويلي يأخذ هذه الخطوة".
في محاولة مُنسقة مع إدارة ترامب، تسعى المعارضة لفرض تلك اللحظة ليس فقط من خلال دعوة الناس إلى الشارع. كما تسعى إلى قطع تدفق الأموال التي سمحت لمادورو ودائرته الداخلية بشراء الولاء بفعالية.
اتهامات أمريكا لحكومة مادورو
وبحسب الصحيفة الأمريكية، يُزعم أنَّ الحكومة غارقة في الأموال غير المشروعة، كما اتهمت الولايات المتحدة مسؤولين كبار يعملون لدى مادورو بالاتجار بالمخدرات. ولكن بشكلٍ عام، انخفضت السيولة النقدية مع تراجع إنتاج النفط في فنزويلا، وذلك في ظل نهب الباحثين عن أشياء لسرقتها لمواقع الحفر وهرب مئات العمال.
وتظل الولايات المتحدة أكبر مشترٍ للنفط في فنزويلا. ولكن يبدو أنَّ واشنطن، التي فرضت عقوبات على أكثر من 60 مؤسسة فنزويلية، وشركات، ومسؤولين فنزويليين، بما في ذلك مادورو وزوجته، تضع حجر الأساس الآن لإعادة توجيه عائدات النفط والأصول المجمدة إلى حكومة غوايدو الانتقالية، غير المعترف بها دولياً.
ولكن يجب على مادورو أن يتعامل ليس فقط مع إدارة ترامب. تدعم أجزاء كثيرة من أمريكا اللاتينية غوايدو، بالإضافة إلى كندا. يوم السبت، اقتربت الدول الأوروبية من تقديم كل الدعم لغوايدو.
ومع ذلك، يجب على المعارضة التغلب على العقبات الهائلة. وحتى يضمن الحزب الحاكم الولاء خلال العقدين الماضيين، سيطر الحزب على جميع فروع السلطة بالكامل ووضع مسؤولين موالين للحكومة في المناصب العسكرية العليا، حتى إنَّه عهد لرجال الجيش بالمسؤولية عن أغلى ما يمتلكه الشعب، وهو شركة النفط الحكومية (PDVSA).
في هذه الأثناء، في الأحياء الفقيرة في كاراكاس وبعض المدن الداخلية، مُنحت جماعات مسلحة مدنية، تُسمى "colectivos" أو "كولكليفوس"، حرية السيطرة على الأراضي، وتوزيع الطعام وترويع السكان من أجل حضور المناسبات الحكومية، والتصويت لصالح المسؤولين المؤيدين لمادورو. ومن أجل إحداث تغيير حقيقي في المستقبل، يجب حل كل هذه الأمور، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وقال خافيير مايوركا، وهو صحفي محقق متخصص في تغطية الجريمة المنظمة: "إنَّ الجيش لا يسيطر على توزيع الغذاء فحسب، بل أيضاً على عملية استيراد الغذاء. إنَّهم يشترون الطعام من الخارج ويضعونه في الميزانية بأكثر من ثمنه بكثير، ما يُكسبهم الكثير من المال. لقد صنعت الحكومة هيكلاً تسمح فيه الظروف بأن يكون الفساد سهلاً على الموالين".
فرصة عودة المعارضة
وتمكنت المعارضة من جعل الآلاف من الناس ينزلون إلى الشوارع في عام 2017 لأكثر من ثلاثة أشهر. وتسبب القمع في مقتل أكثر من 100 شخص وانتهى بتولية الجمعية التأسيسية الموالية للحكومة.
وبعد محاولات فاشلة للحوار، تُركت المعارضة مُنقسمة وضعيفة. وفي أعقاب فوز مادورو بالانتخابات في مايو/أيار الماضي، إلا أنَّ قادة المعارضة سعوا إلى إعادة تنظيم صفوفهم.
لقد بدأوا يرون أداء مادورو اليمين في 10 يناير/كانون الثاني -عقب الانتخابات التي جرى إدانتها على نطاقٍ واسع بأنَّها مزورة- كفرصة للحصول على الدعم الدولي. كما اتجه مُشرعو القانون الذين ينتمون إلى المعارضة والسياسيون المنفيون إلى توسيع نطاق حوارهم مع الحكومات الأجنبية، خاصةً الولايات المتحدة. وأصبحت المحادثات ملحة مع تفاقم الأزمة الإنسانية. وتمكنت المعارضة من وضع الكثير من مشاحناتها السابقة ومعاركها الداخلية وراءها.
وقال خوان بابلو غوانيبا، وهو زعيم معارض من ولاية زوليا الفنزويلية: "لقد أرغمتنا الظروف القاسية على التوحد"، بحسب الصحيفة الأمريكية.
في 5 يناير/كانون الثاني، انتُخب غوايدو رئيساً للجمعية الوطنية، والتي لا يزال يُعترف بها خارج فنزويلا، إنَّ لم يكن داخلها. وفي غضون أيام.
وقال فيليكس سيجاس، المحلل السياسي ومدير معهد "Delphos" لاستطلاعات الرأي، إنَّ الاستطلاعات أظهرت أنَّ عدداً قليلاً من الفنزويليين كانوا يعرفون اسم غوايدو منذ بضعة أسابيع. لكن منذ أنَّ استند إلى السلطات الدستورية ليعلن نفسه رئيساً مؤقتاً، ومع اجتماع الكثير من المجتمع الدولي لدعمه، تمكن من حشد دعم العامة بسرعة.
قال سيجاس: "إنَّه زعيم شاب يستقبله شعب يائس".