قبل 10 أعوام وفي جامعة القاهرة المصرية، تحدث الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، عن استراتيجية بلاده المهمة حيال الشرق الأوسط، بشكل واضح. كان العامل المشترك فيما قاله أوباما في خطابه كاملاً، محاولة نشر الديمقراطية والتسامح، لكن بعد هذا العقد باتت رؤية واشنطن تجاه المنطقة أكثر ضبابية وباتت تخاطب الداخل الأمريكي لا الخارج.
مطلع يناير /كانون الثاني 2019، كان وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، يتحدث من القاهرة أيضاً وعن نفس نظرة واشنطن إلى الشرق الأوسط. لكن هذا الخطاب المهم، الذي يأتي في وقت باتت الأجواء فيه أكثر سخونة من ذي قبل، في ظل تراجع الحالة الحقوقية والسياسية ببلدان الحلفاء، خلا من أي تفاصيل، كما يقول موقع Lobe Log الأمريكي.
ترامب يتجاهل الشرق الأوسط
وكان من المنتظر أن يُحدِّد بومبيو تفاصيل استراتيجية إدارة ترامب الكبرى المتعلقة بالشرق الأوسط خلال هذا الخطاب، لكنه لم يُقدِّم أي سياسةٍ مُتماسكةٍ حتى. ولم يُبِدِ الرئيس ترامب اهتماماً كبيراً بذلك الجزء من العالم، ليبدأ في وضع رؤيةٍ سياسيةٍ أوسع، رغم أن بومبيو وصف أمريكا بـ "المنتعشة" و "القوة التي تعمل لصالح الخير". وركز نهج ترامب عملياً على عكس مسار السياسات التي وضعها أوباما ومواجهة إيران، وهي الموضوعات التي تُلائم أكبر مخاوفه: اجتذاب قاعدته السياسية المحلية.
وهذا يعني تقديم الدعم الأمريكي المُطلق، مع بعض الاستثناءات، للأطراف الإقليمية -مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل- التي وضعت نفسها في مواجهة مع إيران. وواصلت الإدارة دعمها للتحالف الذي تقوده السعودية في حرب اليمن، وضمن ذلك التصديقُ الماكر على محاولات التحالف للحد من استهداف المدنيين. ودعمت محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، في "ابتزازه" الذي أسفر عن جمع 100 مليار دولار أمريكي داخل فندق الريتز-كارلتون، وفي حصار قطر، وفي قطع العلاقات الدبلوماسية مع كندا، فضلاً عن حماية ولي العهد من المساءلة على جريمة القتل الصريحة للصحفي البارز جمال خاشقجي. وغضَّت الولايات المتحدة الطرف أيضاً عن تعذيب الحكومة الإماراتية السُّجناء واغتيالها خصومها في اليمن. وتسبَّبت تصرفات حلفاء الولايات المتحدة الطائشة في إعاقة التقدُّم الاقتصادي، وترهيب الاستثمارات الأجنبية، وإضعاف الأمن الإقليمي، والإضرار بمكانة الولايات المتحدة الأخلاقية بين دول العالم، بحسب الموقع الأمريكي.
خطوات غير محسوبة
ويتحدَّث المسؤولون الأمريكيون كثيراً عن النجاح الكبير الذي حقَّقته خطوات ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، لكنهم لا يُفسِّرون كيف ستُساعد تلك الخطوات على تعزيز المصالح الأمريكية بجانب وفائها ببعض الوعود الانتخابية. وعوضاً عن ذلك،
قاطع الفلسطينيون طاولة المفاوضات غضباً على "خروج القدس من المعادلة"، ليضربوا "صفقة القرن" التي أعلن عنها ترامب في مقتلٍ قبل الإفصاح عن تفاصيلها. ورداً على ذلك، عاقبت الإدارة الشعب الفلسطيني بقطع المساعدات الاقتصادية الثنائية وتمويل الولايات المتحدة عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ورغم استيفاء إيران شروط الاتفاق النووي المعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة"، منحت الولايات المتحدة النظام الإيراني مساحةً لخرق المعاهدة وتجديد برنامجه النووي بأقل تكلفة.
وما زاد الطين بلةً هو أن مشاركة الولايات المتحدة "المنتعشة" في المنطقة كانت مُتقلِّبةً، وهو ما أربك الحلفاء والخصوم على حد سواء. وعلى سبيل المثال، عارض الإسرائيليون وأجهزة الأمن القومي كافة داخل واشنطن -ومن ضمنهم كبار المسؤولين بالإدارة- قرار الرئيس ترامب سحب الجنود الأمريكيين من سوريا، إذ إنه يمنح إيران نفوذاً أكبر داخل سوريا، رغم أن بومبيو انتقد أوباما على التصرُّف نفسه، بحسب الموقع الأمريكي.
وأعاد عددٌ من كبار المسؤولين، مثل جون بولتون -مستشار الأمن القومي الذي طالب الولايات المتحدة بدعم تغيير النظام القائم في إيران، خلق عقلية الحرب الباردة العتيقة التي ينظر إليها بوصفها "إمبراطورية الشر"، والحلفاء الأوتوقراطيين من العرب السُّنة بوصفهم السبيل الوحيد لاحتواء إيران. ولكن مسؤولي الحكومة الأمريكية وشركاء التحالف يُتركون لمواجهة مصيرهم بمفردهم حين تتعارض تلك السياسة مع الوعود الانتخابية، مثل دعوة الرئيس إلى سحب الجنود من المنطقة. ولا يُشكِّل سحب الجنود من سوريا سياسةً سيئةً في حد ذاتها، ولكن الأمر أشبه بوصف بريت ماكغورك -الذي استقال من منصبه بصفته مبعوثاً رئاسياً خاصاً للتحالف الدولي لمكافحة داعش في أعقاب قرار ترامب المفاجئ- الذي قال: "اتُّخِذَ قرار الرئيس مغادرة سوريا، دون تداولٍ أو مشاورةٍ مع الحلفاء أو الكونغرس، ودون تقييمٍ للمخاطر أو تقديرٍ للحقائق… وهو ما يمنح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وغيره من خصوم الولايات المتحدة ترياق الحياة من جديد".
بومبيو يتجاهل مخاطر دعم ترامب الأنظمة السلطوية
وبحسب الموقع الأمريكي، تجاهل بومبيو في خطابه، وعلى مدار جولته بالمنطقة، الحديث عن مخاطر السلطوية المتزايدة. واتَّخذ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بدايةً من المغرب والبحرين ووصولاً إلى المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات، إجراءاتٍ صارمة لقمع حريات التعبير والتنظيم والصحافة، ليُخمِدوا أشكال المعارضة كافة، ويقتلوا سُبل التعبير السلمي عن الرأي. وبرَّر بومبيو دعم الولايات المتحدة المنتعشة تلك الأنظمة، بحجة أن تخلِّي أوباما عن شركاء الولايات المتحدة أدَّى إلى تعزيز نفوذ إيران والزج بالمنطقة في الصراع. وألقى بومبيو موعظته على أسماع الحاضرين، قائلاً: "تعلَّمنا أن الفوضى تَحِلُّ حين تنسحب الولايات المتحدة، وأن السخط يتزايد حين نتجاهل أصدقاءنا. ويتقدَّم أعداؤنا حين نتعاون معهم"، بحسب الموقع الأمريكي.
وفي الوقت ذاته، أوضح بومبيو أن "الشرق الأوسط القوي والآمن والنشط من الناحية الاقتصادية يُمثِّل واحدةً من المصالح القومية للولايات المتحدة". لكن إنجاز ذلك أمرٌ مُستبعدٌ، في ظل احتضان وتشجيع الزعماء الدكتاتوريين. و"الاستقرار" في ظل الحكم الاستبدادي أمرٌ هشٌّ كما أثبت الربيع العربي. لم تَكُن الولايات المتحدة مثاليةً، وربما كانت متناقضةً أحياناً، في دعايتها للحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان، لكن إلزام الدول تحمُّل مسؤولية أخطائها مع الاستمرار في مساعدة الشركاء على التطوُّر عبر المساعدات أمرٌ ضروريٌ لدحر المد السلطوي. ويجب أن تستغل الولايات المتحدة نفوذها باعتبارها أكبر قوةٍ اقتصاديةٍ في العالم، ومنبرها المُرعِب باعتبارها حامية للحريات الفردية. وفي النهاية، تكمُن المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة في المجتمعات الأكثر حريةً، حيث يُمكن بناء الشراكات على أسُسٍ تتخطى المصالح التجارية.
نقطة ايجابية واحدة في سياسة ترامب
وبحسب الموقع الأمريكي، ربما كانت النتيجة الإيجابية الوحيدة لسياسة إدارة ترامب في المنطقة هي أنها دفعت الكونغرس لاتِّخاذ دورٍ أكثر نشاطاً في السياسة الخارجية. وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، مرَّر مجلس الشيوخ قانون سلطات الحرب للمرة الأولى، من أجل المطالبة بإنهاء الدعم العسكري الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية وحربه الكارثية في اليمن. وبدا أن مجلس النواب، الذي يضُم أكثر من 100 مؤيِّدٍ للقرار من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يميل أيضاً إلى تمرير تشريعٍ مماثلٍ قبل أن تستخدم القيادة الجمهورية للمجلس تغييراً ماكراً في القواعد، لمنع عملية التصويت. وأعرب مجلس الشيوخ الأمريكي عن إدانته الجماعية ولي العهد السعودي، وحمَّله المسؤولية عن قتل جمال خاشقجي، وقدَّم تشريعاً من الحزبين لفرض عقوباتٍ على النظام السعودي بسبب جريمة القتل. فضلاً عن ذلك، عزز الكونغرس من دوره الرقابيو وهو ما أدَّى إلى اكتشاف وزارة الدفاع أنها لم تتلق أي دفعةٍ ماليةٍ من التحالف على عمليات التزوُّد بالوقود جواً والتكاليف المرتبطة بها والتي تخطَّت قيمتها 300 مليون دولار. وبعثت هذه الجهود من الحزبين برسالةٍ قويةٍ إلى الشركاء الإقليميين، ودفعت الإدارة -على الأرجح- إلى إنهاء عمليات التزوُّد بالوقود جواً للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
وبإمكان الكونغرس أن يفعل أكثر من ذلك، وهذا واجبٌ عليه، إذ ربما تُعيق الولاءات الحزبية تشريعاتٍ أكثر أهمية، لكن أعضاء الكونغرس ملزمون إيجاد وسائلٍ جديدةٍ لكبح اندفاعات الرئيس الأسوأ. وفي حال فشلوا في تحقيق ذلك، فستبعث جهودهم برسالةٍ إلى المنطقة، فحواها أن سياسات الإدارة تلقى معارضةً داخل الكونغرس. ويجب أن يعقد أعضاء الكونغرس جلسات استماعٍ عامةٍ حول المغامرات الخطيرة التي يقودها شركاء الولايات المتحدة في المنطقة وقمعهم المجتمع المدني. وعلى الكونغرس أن يتأكَّد من إنفاق الأموال التي يُخصِّصها على الجهات المقصودة. وفي حال توافق المشرِّعون على تقديم المساعدة الإنسانية والمساعدة على استقرار الفلسطينيين والسوريين هذا العام (2019)، فيجب أن تُوفِّر الإدارة هذه الأموال.
وفي الحالات الاستثنائية، مثل مقتل جمال خاشقجي، يجب أن يتكاتف الكونغرس ويُمرِّر تشريعاتٍ هادفة، إذ حمَّل قرابة 100 عضوٍ في مجلس الشيوخ ولي العهد السعودي المسؤولية. وسيُعَدُّ عدم اضطلاعهم بما تقتضيه دعواتهم الشخصية للمساءلة تهرُّباً من المسؤولية. ورغم عدم قدرته على إدارة السياسة الخارجية بالدقة المُتاحة للسلطة التنفيذية، ما يزال بإمكان المُشرِّع أن يُرسِيَ حدوداً وقواعد تُحدِّدِ كيفية تنفيذ الرئيس السياسة الخارجية، وتضمن توافقها مع القيم والمصالح الأمريكية.