ما إن يهدأ الحديث عمَّا يُعرف بـ "صفقة القرن" حتى يعود للتصدّر من جديد، فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في سبتمبر/أيلول 2017، عنها لأول مرة، وشروع صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر في وضع الخطة، لم تتوقف التسريبات عن مضامينها الضبابية.
سيل التسريبات حول بنود الخطة خرج للعلن منذ ذلك الحين، وفضَّل فيها البيت الأبيض إصدار سلسلة من البيانات المقتضبة، التي نفى من خلالها أن يكون قد استكمل وضع الخطة الهادفة لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
آخر هذه التسريبات ما كشفته قناة التلفزة الإسرائيلية "13"، الأربعاء 16 يناير/كانون الثاني 2019، عمَّا قالته إنها بنود رئيسية لخطة التسوية الأمريكية، المعروفة بـ "صفقة القرن".
تفاصيل جديدة تحدثت فيها القناة الإسرائيلية، التي نقلت عن مصادر في الإدارة الأمريكية، ومنها منح إسرائيل الحق في ضمّ التجمعات الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، إلى جانب فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى.
لكن كالعادة، سارع البيت الأبيض للتشكيك في هذه التسريبات، ففي تغريدة على تويتر قال جيسون غرينبلات، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط وأحد مهندسي الخطة الرئيسيين، بالإضافة إلى صهر الرئيس غاريد كوشنر، إن التقرير الإسرائيلي "غير دقيق".
لكن غرينبلات لم يحدد الجزء غير الصحيح في التقرير، إذ كتب قائلاً: "التكهنات بشأن محتوى الخطة لا تفيد، قلة على الكوكب تعرف ما تنطوي عليه.. في الوقت الحالي". وأضاف: "نشر أخبار كاذبة أو مشوهة أو منحازة في وسائل الإعلام غير مسؤول ويضر بالعملية".
While I respect @BarakRavid, his report on Israel's Ch. 13 is not accurate. Speculation about the content of the plan is not helpful. Very few people on the planet know what is in it… for now…
— Jason D. Greenblatt (@jdgreenblatt45) January 16, 2019
الغموض يلف مستقبل الصفقة.. هل أزمات رعاتها وراء ذلك؟
الحالة الضبابية التي تلف "صفقة القرن" زادت بشكل كبير، بعد خفوت الحديث عنها خلال الأشهر الأخيرة، وذلك في ظل الأزمات الكبيرة التي يواجهها الرئيس الأمريكي ومعاركه مع خصومه في الداخل، خصيصاً بعد أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحماية ترامب لولي العهد السعودي الذي تشير إليه أصابع الاتهام، من أي إدانة أمريكية رسمية.
أزمة خاشقجي التي وضعت ترامب في موقف حرج هي ذاتها أيضاً التي وضعت ولي العهد السعودي في شهور عصيبة جداً، فبالنسبة لإسرائيل يعد محمد بن سلمان الرجل الوحيد القادر على فرض صفقة القرن على الفلسطينيين.
حيث وصفت صحيفة نيويورك تايمز صعود الأمير الشاب بأنه كان هدية لإسرائيل، فهو لا يبالي كثيراً بالقضية الفلسطينية. وكان يُنظَر إليه على أنه شخص قادر على فرض خطة ترمب للسلام على الفلسطينيين بأي شكل من الأشكال.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2017، حين أعلن ترمب أنَّ واشنطن ستعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، دعا محمد بن سلمان الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الرياض، لإبلاغه أنَّ الخطة الأمريكية غير المُعلنة هي "الخيار الوحيد".
ولاحقاً، انتقد عباس الصفقة التي أُشيع أنَّها تشمل تنازل الفلسطينيين عن السيادة على القدس الشرقية المحتلة وحق عودة اللاجئين، ووصفها بأنَّها "صفعة القرن".
وخلال حديثٍ لمحمد بن سلمان في ولاية نيويورك الأمريكية، في أبريل/نيسان الماضي، ردَّ الأمير قائلاً إنّه يتعيَّن على الفلسطينيين الجلوس إلى مائدة المفاوضات، أو "فليخرسوا ويتوقفوا عن الشكوى".
الرياض وواشنطن مشغولتان.. إذاً لماذا التسريبات الآن؟
وفيما تكافح السعودية الآن لتجميل صورتها عالمياً بعد حادثة خاشقجي، ويحاول ترامب مقاومة خصومه والانتصار في معاركه الداخلية التي ربما تطيح به، تحاول إسرائيل رمي الحجر في المياه الراكدة مجدداً، أملاً في تسريع الخطة الأكبر لتسوية القضية الفلسطينية.
الأزمات الأخيرة التي تمر بها السعودية واضطراب العلاقات الإسرائيلية مع حلفائها، ربما تضطرهم إلى تجميد خطط التسوية في المنطقة، فقد أصبح حلفاء الأمير محمد في مأزق بعد أن كان الرجل يلعب دوراً قيادياً في أغلب خططهم.
هناك فرضية أخرى يشير لها المحلل السياسي الفلسطيني عدنان أبو عامر، الذي يرى أن التسريبات الإسرائيلية الأخيرة حول صفقة القرن، مرتبطة بشكل كبير بقرب إجراء الانتخابات الإسرائيلية، التي ستحسم مصير حكومة نتنياهو.
وهذا يتسق مع ما قاله داني دانون، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، في تصريحات للصحفيين، بأنه لم يتم الكشف عن خطة ترامب قبل الانتخابات الإسرائيلية المقررة في التاسع من أبريل/نيسان.
ويضيف أبو عامر في اتصال هاتفي مع "عربي بوست"، نعم يمكن القول إن توقيت التسريبات "غير بريء" لقرب الانتخابات، لكن لا يوجد تأكيد رسمي لها، سواء إسرائيلياً أو أمريكياً.
وفي ردٍّ على سؤال حول ارتباط توقيت هذه التسريبات بالأزمات التي يتعرض لها ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أشار أبو عامر أنه ربما لا يوجد بالضرورة ارتباط ظاهر في ذلك، فواشنطن سارعت لرفضها، والمبعوث غرينبلات شكك مباشرة.
لكن يرى أبو عامر أن صفقة القرن التي يتم الحديث حولها منذ عامين، تدور في فلك ضبابي، فاختلاف بعض السيناريوهات حول حدود الدولة الفلسطينية ومصير غزة واللاجئين يتضح بشكل كبير في التسريبات الأخيرة التي تختلف عن سابقاتها.
ما هو شكل الدولة الفلسطينية التي تحدثت عنها التسريبات؟
التسريبات الإسرائيلية الأخيرة، ذكرت أن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط ستقترح إقامة دولة فلسطينية على ما يصل إلى 90% من الضفة الغربية المحتلة، على أن تكون عاصمتها في القدس الشرقية، ولا تشمل الأماكن المقدسة.
وفي تفاصيل ذلك، قالت القناة، إن ترامب "يرغب في استكمال الإجراءات الإسرائيلية المقترحة بتبادل للأراضي مع الفلسطينيين"، وأن تكون المدينة القديمة التي تحيط بها الأسوار في القدس الشرقية، ويوجد بداخلها المقدسات الإسلامية واليهودية والمسيحية، تحت السيادة الإسرائيلية، لكن بإدارة مشتركة من الفلسطينيين والأردن".
بدورها، رفضت السلطة الفلسطينية على لسان المتحدث الرسمي باسمها، نبيل أبو ردينة أن "أي خطة سلام لا تتضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بحدود عام 1967 وعاصمتها كامل القدس الشرقية"، مؤكداً أن أي خطة لا تشمل ذلك "ستفشل".
وأضاف أن "استمرار بث الاشاعات والتسريبات حول ما يسمى بملامح صفقة العصر التي تتحدث عنها الإدارة الأميركية، إضافة إلى الاستمرار في محاولة ايجاد أطراف إقليمية ودولية تتعاون مع بنود هذه الخطة هي محاولات فاشلة ستصل إلى طريق مسدود."
ماذا عن اللاجئين وغزة؟
لم يُشر تقرير القناة الإسرائيلية إلى مصير اللاجئين الفلسطينيين، وهي القضية الأصعب، التي تعد إحدى نقاط الخلاف الكبرى في الصراع الممتد منذ احتلال فلسطين عام 1948.
وفي ذلك، يرى أبو عامر أنه كان من اللافت عدم ذكر غزة في تقرير القناة الإسرائيلية حول صفقة القرن، مما يزيد المشهد حول مصير القطاع ضبابية، إذ إن السيناريوهات تضاربت في السابق أكثر من مرة.
فقد تحدثت تقارير إعلامية سابقاً عن مساعٍ أمريكية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في دول عربية، على رأسها الأردن ومصر، بعد قرار واشنطن وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ولم تُخف دول عربية كلبنان والأردن انزعاجهما من مثل هذه الخطوة.
التقرير أيضاً لم يتناول وضع قطاع غزة في هذه الخطة، ففي وقت سابق من العام الماضي، قالت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية، إن خطة ترامب هي أن تكون هناك هدنة طويلة الأمد في قطاع غزة، بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
وبحسب ما نُشر سابقاً سيتضمن هذا الاتفاق، الذي ستتوسط فيه الدول العربية "المعتدلة"، تنفيذ سلسلة من المشاريع الاقتصادية وخطط الطوارئ لإعادة إعمار قطاع غزة، بدعم وتمويل من المنظمات الدولية والمجتمع الدولي.