تواجه أغلب الدول الخليجية "البترولية" الراغبة في التخلي عن الاعتماد على النفط باعتباره مصدراً وحيداً للدخل تحدياتٍ، التخلص منها ليس بالأمر السهل، لكن تبقى الحقيقة الجلية في تلك الاستراتيجية الجديدة التي تسابق الزمن هي التضحية بالوافدين.
يظهر هذا النموذج بوضوح في حالتي السعودية والكويت، إذ بدأت الأخيرة السير على نهج الرياض في فرض ضرائب، ورسومٍ جديدةٍ، يتحمل تبعتها الوافدون بشكل أساسي، فضلاً عن إزاحة الآلاف منهم من وظائفهم تحت شعار "السعودة" و"التكويت"، في محاولة للقضاء على البطالة وإنعاش القطاع الخاص.
ما هي التحديات التي تواجه الكويت؟
وبحسب تقرير لموقع Stratfor الأمريكي، يعاني الاقتصاد الكويتي عجزاً شديداً، وقوى عاملة غير مؤهلة، واعتماداً زائداً على الإنفاق العام، بدلاً من الخاص، لأجل التنمية. وإحدى كبرى المشكلات التي تواجه الدولة هي المبالغ التي تنفقها على الكويتيين، وهي أحد آثار الفترة التي سعت فيها العائلة الملكية إلى كسب وُدّ مواطنيها، بالأخص التجار والجهات المعنيَّة السياسية ذات النفوذ في المنطقة، إبان الانتقال إلى اقتصادٍ قائمٍ على البترول.
ومن الآثار الأخرى لتلك الفترة الانتقالية البرلمان الكويتي المعبِّر وحده عن آراء الجماهير، وهو السلطة التشريعية الوحيدة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والذي يملك القدرة على عزل الوزراء. إلا أن هذه الدرجة النسبية من الديمقراطية تُبطِئ من محاولات الإصلاح، إذ رفض المشرِّعون الأكثر ظهوراً أمام أعين الجماهير سياسات التقشف بطريقةٍ ليست ممكنةً في الدول المجاورة، التي تملك برلماناتٍ ضعيفةً أو غير موجودةٍ من الأساس. نتيجةً لهذا، ليس أمام الحكومة الكويتية خيارٌ سوى إلقاء عبء الإصلاح الاقتصادي على القطاع الكبير من عامليها الأجانب.
السعي نحو "التكويت"
في سعيِها وراء هذا الهدف، شمَّرت الحكومة عن ساعدَيها في واحدٍ من أهم إصلاحاتها: تأميم العمالة. يُعرَف هذا البرنامج محلياً باسم "التكويت"، ويهدف إلى زيادة نسبة العاملين الكويتيين في القطاعَين الخاص والعام على مدار مرحلةٍ أوليةٍ مدتها 5 سنواتٍ.
وقد أحرزت الحكومة بعض التقدم خلال العام الأول (2017-2018) من البرنامج، من خلال تسريح 3000 موظَّفٍ أجنبيٍّ بالقطاع العام، لأجل إفساح المجال في النهاية للمواطنين الكويتيين. وهناك إجراءاتٌ أخرى في الأفق، إذ تخطط وزارة التعليم لتسريح ما يصل إلى 1000 موظفٍ أجنبيٍّ خلال العام المقبل، في حين أصدرت الحكومة مؤخراً كذلك مرسوماً يشترط ألا يقود سيارات الأجرة في المطارات سوى مواطنين كويتيين.
الهدف إزالة العاملين الأجانب والاتجاه نحو "التكويت"
وقد ناقش البرلمان كذلك مقترحاتٍ أخرى، مثل إقرار ضريبةٍ جديدةٍ على رواتب المغتربين قبل إرسالهم الحوالات المالية إلى أوطانهم، بجانب منح الهيئة العامة للقوى العاملة مزيداً من التدقيق في مستويات مهارات العاملين الأجانب، بغية فَصل مَن تعتبرهم الهيئةُ غير مؤهلين مِن وظائفهم. علاوة على هذا، حدَّدت الحكومة الكويتية هذا العام (2019) الأعمار المسموح بها لأساتذة الجامعات، باعتبار ذلك جزءاً من هدفها لتحقيق التوازن في الحاجة إلى أساتذةٍ على أعلى مستوى بالتعليم العالي، راغبةً في إتاحة المناصب الأدنى درجةً للمواطنين الكويتيين.
وكما بالسعودية، أخطأت الحكومة في معاقبة القطاع الخاص وإرغامه على منح مزيدٍ من الفرص للكويتيين بدلاً من خلق فرص العمل ذاتها. بهذا، تُلقي الكويت عبء إصلاحات سوق العمل على المغتربين، بدلاً من الكويتيين، الذين بإمكانهم مطالبة الحكومة بالمزيد.
في ظل وجود 13.523 مواطناً عاطلاً فقط بالوقت الراهن، تملك الحكومة الكويتية في النهاية بعض الوقت لرسم خارطة "التكويت". مع ذلك، سيستمر الضغط لأجل تنويع الاقتصاد في الازدياد. حالياً، تسلُك الحكومة الكويتية المسار الأقل مقاومةً، إذ تقدِّم للكويتيين شيئاً يرغبون فيه، عن طريق إزالة العاملين الأجانب الواقفين ظاهرياً في طريقهم.
السعودية الأكثر نزوحاً
تجربة الكويت في التضحية بالعمالة الوافدة من أجل إفساح المجال أمام المواطنين ليست الحالة الأكثر تفرداً، فالنموذج السعودي هو الأكثر بروزاً، فلديها الجاليات الأكبر بين دول مجلس التعاون الخليجي.
وكجزء من جهود "السعودة" التي ينتهجها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وجّه بفرض رسوم شهرية على العمال الوافدين، على أساس عدد أفراد أُسرهم، وعلى السعوديين الذين يُوظِّفونهم. ومَنَع أيضاً الأجانب من العمل في 12 قطاعاً من الاقتصاد، من ضمنها الخبز وفحص النظر، حيث يعتبر أحمد القطان، نائب وزير العمل، أن مخطط "السعودة" سيُقلِّص اعتماد المملكة على نحو 8 ملايين من العمال الأجانب غير المهرة بالدرجة الأولى، الذين يتجاوز عددهم بكثيرٍ عدد العمال السعوديين، ويسهم في تقليص معدل البطالة السعودي إلى 10% بحلول عام 2022 (من 13% حالياً)، وسيُدخِل مزيداً من النساء إلى سوق العمل.
ويعتقد السعوديون أن مخطط "السعودة" أسهم -بلا شك- في توظيف عدد كبير من السعوديين، إلا أن معظم الوظائف لم تكن في مناصب عليا ولا ترقى لطموحاتهم، كما أن السعودة الوهمية كانت بمثابة "الفيروس الذي أساء إلى سياسة توطين الوظائف، فكثير من الشبان يسجلون بياناتهم بالشركات الراغبة في السعودة، حتى من دون أن يزوروا الشركة المنتسبين إليها، ويكتفون بتلقّي رواتبهم من بيوتهم"
محال تغلق أبوابها، وشقق للإيجار
في كثير من المدن السعودية، بات مشهد المحلات التجارية التي أغلقت أبوابها، وحاويات القمامة التي امتلأت بأثاث فشل أصحابه في بيعه، والنزوح الجماعي لأُسر الوافدين- الأبرز عام 2018 .
اضطرت آلاف العائلات المقيمة بالسعودية إلى مغادرة البلاد نهائياً؛ تفادياً لضريبة التابعين -أي الزوجة والأولاد- التي تبلغ 200 ريال شهرياً عن كل فرد بالعائلة، وستتضاعف في العام الذي يليه والذي بعده. وبحسب إحصاءات المديرية العامة للجوازات السعودية، فإن 811 ألفاً غادروا نهائياً حتى منتصف 2018 فقط، بمعدل 1500 مقيم يومياً، وتتوقع أن الأرقام مرشَّحة للزيادة خلال هذا الشهر (مايو/أيار 2018).
وهناك الكثير من المقيمين عالقون غير قادرين على البقاء، لعجزهم عن تجديد إقاماتهم، وكذلك غير قادرين على المغادرة وسحب ملفات أولادهم من المدارس الأهلية والعالمية، التي تصر على تسديد آخر ريال قبل تسليم الملف، ولا على المغادرة النهائية، لكونها تحتاج مبالغ ضخمة هم عاجزون عنها.
يتزامن مع تلك النزعة نحو فرض مزيد من الضرائب والسعودة والتكويت شعور وطني متصاعد لدى البعض في تلك الدول الغنية، بعدم الحاجة إلى العمالة الوافدة، التي ينظر إليها بعض المغالين على أنها عبء على ميزانية الدولة، وتحدٍّ يزيد من بطالة إبناء الوطن، لكن سيظل التحدي الكبير أمام السياسة الجديدة هو إقناع السعوديين والكويتيين بالتخلي عن أحلامهم بالوظائف الراقية في القطاع العام.