قالت صحيفة The Independent إن التقلبات السياسية التي تعيشها دول الخليج -خاصة الإمارات والسعودية- أثرت بشكل كبير ومباشر في الاستثمار بتلك البلدان، وهو ما أسهم في عزوف أصحاب رؤوس الأموال عن العمل بها والبحث عن ملاذ آمن.
وأضافت الصحيفة البريطانية، إن الغضب العالمي المتصاعد بشأن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، واعتقال الإمارات عدداً من الأجانب، أغلق الطريق أمام الطموح الاقتصادي اللامع لدول الخليج، لتتحوَّل واحدةٌ من أكثر المناطق الاستثمارية الواعدة في العالم إلى منطقةٍ تعزف الشركات العالمية ورجال الأعمال عن الذهاب إليها.
الإمارات والسعودية تقلصان النمو في الخليج
وبحسب الصحيفة، قلَّصَت كلٌّ من الإمارات والسعودية، المُحركَّتين الرئيسَتين للنمو الاقتصادي في شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، خططهما الاقتصادية، وتنتهجان سياساتٍ تقشُّفية. ارتفع النمو الاقتصادي للمنطقة بنسبة 0.5% في 2017 وفقاً لبيانات البنك الدولي، ولا يُتوقَّع أن تُسجِّل المنطقة نمواً أفضل من هذا في 2018 عندما تظهر البيانات الاقتصادية لذلك العام.
ويقول الخبراء في اقتصاد الخليج إن رواتب الموظفين تنخفض، وأسعار العقارات صارت تتهاوى، وأرباح الشركات ومتاجر التجزئة انحدرت، وأعداد السائحين أصبحت ضئيلةً أو أسوأ من هذا. يصف أحد المُحلِّلين كيف يتمكَّن زميلٌ له في الإمارات كلَّ عام من الضغط على مالك العقار، لتخفيض الإيجار بدلاً من رفعه.
وقال مستشار سابق في الإمارات: "الناس يغادرون! أصبح العيش هنا مُكلِّفاً للغاية بالنسبة للعائلات".
في الوقت ذاته، ارتفع الدَّين الحكومي الإماراتي من 15% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 20%، في حين ارتفع الدَّين الحكومي في السعودية من 1.5% إلى 17% على مدار السنوات الخمس الماضية، وهو ما أجبر الحكومة هناك على رفع الضرائب، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقال مُحلِّل اقتصادي: "ترتفع الضرائب وضريبة القيمة المضافة. يتساءل الناس: لِمَ لم تَعُد معدلات الضرائب جيدة مثلما اعتدنا أن تكون؟".
وما زاد من تفاقم المشكلات أن أثرياء الخليج قد بدأوا نقل أصولهم إلى الخارج. ويبدو أن المشروعات البارزة مثل مشروع مدينة نيوم، التي أعلن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عن خطط إنشائها على البحر الأحمر بتكلفةٍ تبلغ 500 مليار دولار- قد أُرجِئت، وفقاً لما نشرته صحيفة The Financial Times البريطانية.
"رؤية 2030" صعبٌ تحقيقها
مزح دبلوماسي غربي بشأن برنامج "رؤية 2030" الطموح، الذي أعلنه الأمير محمد بن سلمان لتقليص اعتماد اقتصاد المملكة على المبيعات النفطية وتحديث الاقتصاد في غضون 12 عاماً، وقال إنه تجب تسمية البرنامج "رؤية 3020".
تتجاوز بعض المشكلات قدرة دول الخليج على حلها، إذ انخفضت أسعار النفط، وهو ما أضر بالدعامة الرئيسة لاقتصاد شبه الجزيرة العربية. وأدت القيود الأمريكية المفروضة على إيران إلى تعقيد النشاط التجاري الذي كان مزدهراً في السابق، بين الإمارات والولايات المتحدة.
تمكَّنت دول الخليج من تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008. ولا تزال دبي، بموانيها ومطاراتها المتقدمة، مركزاً محورياً بالنسبة لإفريقيا وآسيا. ولا تزال السعودية واحدةً من أكبر وأهم الاقتصادات في العالم، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقال أكسل دلمان، المُحلِّل المُتخصِّص في تقدير المخاطر المالية بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، لصحيفة The Independent البريطانية: "كان التقدُّم سيجري بوتيرةٍ أبطأ بكثير مما كان يتمناه كثير من المستثمرين والشركات".
وأضاف: "لا تمثل بيئة الاستثمارات غير النفطية الضعيفة حالياً تغييراً جذرياً عمَّا كانت عليه في الماضي، بل يتعلَّق الأمر أكثر بالفشل في تحقيق التوقُّعات المرتفعة للغاية بتحقيق مكاسب سريعة جداً". لكن الخبراء يقولون إن عثرات دول الخليج، التي تسبَّبَت فيها بنفسها على مدار السنوات القليلة الماضية، فاقمت هذه المشكلات دون داعٍ، وحطَّمت صورة المنطقة التي كانت لامعةً من قبل.
سمعة الخليج تتعرض لضربة
وقال كريستيان ألريتشين، الخبير في اقتصاد الخليج لدى جامعة رايس بتكساس والزميل الباحث بمعهد تشاتام هاوس: "خلال الشهور الـ18 الماضية تقريباً، شاهدت سمعة الخليج باعتبارها منطقةً آمنة وهي تتحطَّم. كان يُنظر إلى منطقة الخليج وقتاً طويلاً على أنها ملاذٌ آمن لممارسة النشاط الاقتصادي. لكن ذلك تعرَّض لضربة"، بحسب الصحيفة البريطانية.
تسبَّب تعامل السعودية مع قضية مقتل خاشقجي، وقرار السعودية والإمارات فرض حصار على قطر في يونيو/حزيران 2017، في هز الثقة بالمنطقة.
وفي وقتٍ مبكر من ذاك العام، صدم ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، العالم باحتجازه عدداً من الأمراء السعوديين في فندق ريتز كارلتون بالرياض، وإجبارهم على دفع الأموال لإطلاق سراحهم.
وقال ألريتشين: "صدمت طريقة الابتزاز كثيراً من الأشخاص. فلم يكن هناك حكمٌ للقانون".
صُدِمَ كثير من رجال الأعمال عندما رأوا العائلات السعودية الغنية وهي تنقل أموالها إلى استثماراتٍ خارجية، لا تمتلك فيها حصصاً مُسيطرة، في محاولةٍ يائسة لإبعاد أموالهم عن أيدي الملوك الجشعين.
وقال رجل أعمال خليجي: "دفعت أفعال ولي العهد الأخيرة، التي أدت إلى تجريد العائلات من ثرواتها، كثيراً من العائلات العربية في المنطقة إلى الشعور بالقلق من أن أيَّ دولةٍ أصبحت حالياً لديها شرعياً القوة لمصادرة أصولهم".
وتابع: "أصبح مستثمرو الخليج حالياً مستسلمين لفكرة عدم حصولهم على حصةٍ حاكمة (تمكّنهم من إدارة أصولهم) طالما أصبحوا قادرين على إخفاء أموالهم في أنشطةٍ مشروعة. هم يركزون على دول عربية مثل المغرب، وتونس، والجزائر، لأنها لا تزال أكثر أماناً من السعودية، في حين تواجه الاستثمارات بأوروبا كثيراً من علامات الاستفهام".
حوادث تسببت في الأزمة
وبحسب الصحيفة البريطانية، تسبَّبَت حادثة اختطاف، واحتجاز، وتقطيع أوصال خاشقجي، بالإضافة إلى احتجاز الباحث البريطاني ماثيو هيدجز في الإمارات على خلفية اتهامات بالتجسُّس مثيرة للشك، ونوبة الغضب السعودية بسبب تغريدة كندا بشأن ملف حقوق الإنسان بالمملكة، في إزعاج المستثمرين العالميين.
ومثَّلَت هذه الحوادث تحوُّلاً في سياسات السعودية والإمارات، شريكتها الصغيرة، وهو ما أفزع رجال الأعمال.
وقال دلمان: "تحوَّلَت صناعة السياسة السعودية من نموذج حوكمة قائم على إجماع الرأي ويمكن توقعه إلى حدٍّ كبير، إلى نموذج رأسي أكثر عرضة لتغييراتٍ مفاجِئة على ما يبدو".
وأضاف: "يولِّد هذا حالةً من الشك، إذ يشعر المستثمرون بالقلق حالياً من أن سياسة الرياض الحازمة أو حساباتها الخاطئة قد تؤدي إلى عدم استقرار المنطقة أو الإضرار بسمعتها".
تتسبَّب هذه المشكلات، ومن ضمنها تغيُّر طريقة التعامل مع الأجانب في المنطقة وسط حملات الدعاية القوية بالإعلام المدعوم من الدولة، في تثبيط رغبة المهنيين العالميين الموهوبين في القدوم إلى الخليج، بعد أن كانوا يتدفَّقون إليه بحثاً عن الفرص.
أدرك مستشارٌ رفيع المستوى في الصناعات الدفاعية الإماراتية مؤخراً، أن نصيحته بالتركيز على تدريب طواقم العمل وبناء أنظمة للمحاسبة بدلاً من شراء المعدات العسكرية باهظة الثمن لم تكن تلقى أيَّ اهتمامٍ من النظام، بل كانت تُثير الشك بشأن دوافعه.
استقالة ثم مغادرة الخليج
وقال هذا المستشار لصحيفة The Independent، بشرط عدم الكشف عن هويته: "هم يريدون أشخاصاً مطيعين لهم. لا يريدون أيَّ تحدٍّ لسلطتهم. إذا كنت تتبنى موقفاً محايداً، وجهة نظر معتدلة، أو رأياً معارضاً- فستتحرك العناصر الأكثر ولاءً للنظام ضدك".
وقال في حوارٍ عبر الهاتف من الولايات المتحدة، إنه انضم إلى الآخرين، وغادر الخليج في نهاية المطاف، بعد أن استقال من وظيفته، لأنه لم يتمكَّن من أداء وظيفته.
وعاد مئات المغتربين -خاصةً هؤلاء القادمين من جنوب آسيا ويعيشون في الإمارات- إلى بلادهم مرةً أخرى خلال العام الماضي (2018)، نتيجة لانخفاض الرواتب. وبينما لا تزال الصناعة النفطية، التي ظلَّت الدعامة الرئيسة لاقتصاد المنطقة عقوداً، تُدِر الربح، لا يتوافر على الساحة سوى فرص قليلة، رغم المساعي الأخيرة لجعل الخليج منطقةً صديقة للاستثمار.
وقال المستشار: "لاحظ المغتربون أن الرواتب تنخفض، والوظائف لم تعد آمنة، ولا توجد استثماراتٌ للحفاظ على نشاط الشركات. لا يوجد سوى القليل من الأموال الجديدة المتدفِّقة. هم يطلقون تصريحاتٍ كثيرة عن الاستثمار ولا يتحقَّق أيٌّ منها".