بشكل مفاجئ ودون مقدمات، حطت طائرة تقل الرئيس السوداني، عمر البشير، في مطار دمشق مساء الأحد 16 ديسمبر/كانون الأول 2018، لتكون أول زيارة من زعيم عربي منذ اندلاع الثورة السورية قبل 8 سنوات.
زيارة البشير، التي لم تستمر إلا ساعات قليلة، فتحت سيلاً من التساؤلات عن مغزاها، وأيضاً دلالة توقيتها، لا سيما أن هناك تقلبات كثيرة يموج بها الإقليم، أيضاً من يقف وراء هذه الزيارة، أم أنها أمر سوداني- سوري ولا يوجد طرف ثالث؟
لكن المراقب لتحركات الرئيس السوداني، عمر البشير، قد يلمح بسهولةٍ أن هذه الزيارة لا يقف -فيما يبدو- وراءها، إنما هناك طرف أو أطراف في الإقليم تربطها علاقات وثيقة بالبشير، تريد فتح الحوار مرة أخرى مع الأسد، وعودة العلاقات على ما كانت عليه قبل اندلاع شرارة الربيع العربي في 2011.
هذه الزيارة لمصلحة من كانت؟ ولماذا لم يتم الإعلان عنها من قبلُ؟ وما العائد من ورائها سواء للبشير نفسه المحاصَر دولياً، أو لبشار الأسد الذي لا يزوره إلا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو وفد عسكري إيراني، أو في أحسن الأحوال زيارة لمؤسسة إعلامية تريد تلميعه؟
كل هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذا التقرير.
أولاً: لمصلحة من كانت هذه الزيارة؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة، ولكن الأمر الذي لا تستطيع أن تتغاضى عنه، أن البشير لم يقم من تلقاء نفسه بهذه الزيارة، ودعنا نرصد الأطراف التي قد تكون وراء هذه الزيارة "المهمة"، كما وصفها وزير الدولة بوزارة الخارجية السودانية، أسامة فيصل، الذي رافق البشير في الزيارة.
- الرياض والبحث عن وساطة لعودة الماضي القريب!
لا يخفى على أحدٍ العلاقة الوثيقة بين السعودية والبشير، الذي بات يؤدي أدواراً سعودية في الخفاء، ولعل من أبرزها محاولة الوساطة بين الرياض وأنقرة عقب أزمة قتل وتقطيع الصحافي السعودي جمال خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في تركيا، ما أثار موجة عارمة من الغضب تجاه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ولكن مهمة البشير باءت بالفشل عندما رفض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، هذا الأمر.
وبالعودة إلى احتمالية وقوف السعودية وراء هذه الزيارة، فإنها جزء من رغبة الرياض في طي صفحة الماضي التي عكرتها الأموال والدعم الذي قدمته السعودية لفصائل المعارضة السورية المسلحة والتي فشلت في النهاية وبقي الأسد بمنصبه، رغم رهنه سوريا ومقدراتها لمصلحة روسيا وإيران والميليشيات الشيعية.
فعلى مدار السنوات الماضية، كانت التصريحات السعودية شديدة اللهجة لا تضع خيارات أمام الأسد إلا الرحيل عن السلطة طوعاً أو كرهاً، ولكنه نجح في التشبث بمقعده على أشلاء آلاف السوريين الذين طالبوا برحيله، بفضل الدعم الروسي والإيراني اللا محدود، حتى لم يبقَ أمام المعارضة إلا التمترس في إدلب آخر معقل لهم، والبقاء في هدوء بعيداً عن براميل الأسد المتفجرة، لحين ترتيب الصفوف مرة أخرى، أو على الأقل الحفاظ على ما تبقى من أثر لثورة مرت من هنا.
ففي هذا التوقيت، باتت السعودية أمام عاصفة قوية دولياً بعد تورط قيادات أمنية واستخباراتية، وأيضاً "ملكية"، في اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في تركيا مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018، وترتبت على تلك العملية حملة دولية تنادي بمقاطعة وعزل الرياض بعد هذه الجريمة الكبيرة التي طال صداها وليَّ العهد، الأمير محمد بن سلمان.
آخر ما تعرضت له الرياض من تداعيات هذه الجريمة، مشروع القرار الذي صدر ضدها في مجلس الشيوخ الأميركي قبل أيام، والذي ينص على مسؤولية محمد بن سلمان عن عملية الاغتيال؛ ومن ثم فإن السعودية تحاول البحث عن إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية، للتصدي لأي خطوة أميركية قد يترتب عليها فرض حصار أو عقوبات على الرياض، بسبب جريمة خاشقجي.
ولهذا قد يكون البشير قام بهذه الزيارة لتهيئة الأجواء للقاء بين الأسد ومحمد بن سلمان مثلاً، لضمان التنسيق الروسي أو وقوف موسكو بصف الرياض حتى تمر أزمة اغتيال جمال خاشقجي بأقل الخسائر، ولعل الصورة التي التُقطت للرئيس فلاديمير بويتن والتي كشفت السلام الحار بينه وبين محمد بن سلمان، الذي ظهر"منبوذاً" في قمة العشرين الأخيرة في الأرجنتين- تأتي في هذا السيناريو.
- روسيا وراء هذه الزيارة
ثمة احتمال آخر وراء هذه الزيارة، وهو رغبة روسيا في تطبيع عربي مع حليفها "المحاصَر" بشار الأسد، إذ قد تفتح هذه الزيارة الأبواب خلفها لعدد من القادة، من أجل كسر الحصار المفروض على الأسد، وإعادة إنتاجه بصورة جديدةٍ، بعد الحرب الأهلية التي خلّفت آلاف القتلى وملايين المهجَّرين.
فروسيا التي أصبحت المتحكم الأول والفعلي في كل ما يدور بسوريا، بالتأكيد ترغب في كسر الطوق الرسمي المضروب برقبة بشار الأسد منذ بداية الأزمة، وقد تكون وجدت ضالتها في الرئيس السوداني عمر البشير، الذي يعاني هو الآخر شبه عزلة دولية لا تمكنه من القيام بأي زيارة خارج الخرطوم إلا بعد التأكد أولاً من عدم اعتقاله أو القبض عليه في البلد المضيف، بسبب قرارات المحكمة الجنائية الدولية بسبب "جرائم الحرب" التي ارتُكبت في دارفور وغيرها قبل 10 سنوات.
ولعل ما يعزز هذا الاحتمال الطائرة العسكرية الروسية التي أقلّت البشير إلى دمشق، والتي تسببت في إحراج مسؤول روسي عندما سُئل عن هذه الطائرة، ما دفعه لمحاولة التخفيف من وطأة السؤال، بإحالة الأمر إلى وزارة الدفاع الروسية، لمعرفة سبب وجود هذه الطائرة بمطار دمشق وأمامها الرئيس السوداني عمر البشير.
فقد يكون القيصر الروسي دعوة الرئيس السوداني، الذي أصبح يجيد في الفترة الأخيرة أداء هذه الأدوار، في ضوء تحسُّن العلاقات في الفترة الأخيرة بين الخرطوم وموسكو بعد زيارة البشير الأخيرة لروسيا، بعدما فقد الأمل في دور أميركي لرفع اسمه من "الجنائية الدولية"، ورفع اسم بلاده من قائمة العقوبات الأميركية، رغم الوعود الإماراتية بهذا الأمر عقب مشاركة قوات البشير في حرب اليمن.
- الرئيس التونسي ورغبة الإمارات في ذلك
قد يستغرب البعض من احتمالية وجود دور تونسي في هذه الزيارة، لكن الأمر قد يكون بيد حكومة أبوظبي التي تربطها علاقات وثيقة بالرئيس التونسي الباجي قايد السبسي -وتحاول إعادة فتح سفارتها مرة أخرى في سوريا- رغم معارضة حركة النهضة، شريكه في الحكم، أي خطوة مثل هذه.
لكن التطورات الأخيرة التي أشعلت الساحة التونسية والخلاف على حكومة رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد، قد تسببا في توتر كبير بين السبسي و"النهضة"، اتهم على أثرها الرئيس التونسي الحزبَ الإسلامي بتدبير محاولة لاغتياله دون أن يكشف تفاصيلها.
فقد تكون هذه الزيارة جاءت بناء على رغبة من الرئيس التونسي، وأيضاً يقابلها رضا إماراتي، لا سيما بعد حالة التوافق بين أبوظبي والرئيس التونسي، نكايةً في حركة النهضة، حتى قال البعض إن حركة "السترات الحمراء"، التي أعلنت عن نفسها الأسبوع الماضي في تونس، على غرار حركة تمرد المصرية، التي دعمتها وموّلتها الإمارات وكانت سبباً في إطاحة الجيش بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي عام 2013.
ومما يدعم هذا الاحتمال، التصريح السريع لوزارة الخارجية الروسية عقب هذه الزيارة، والتي عبرت فيه عن أملها بأن تساعد هذه الزيارة في عودة سوريا الشاملة إلى جامعة الدول العربية، خاصةً أن القمة المقبلة تستضيفها تونس في مارس/آذار 2019.
ثانياً: ماذا استفاد البشير والأسد؟
هذه الزيارة رغم أنها لم تتجاوز الساعات، فإنها مثَّلت أهمية كبيرة لكل من الأسد والبشير على السواء، فالبشير قدَّم نفسه الآن بأنه عرّاب عودة العلاقات بين الدول العربية، التي تقف معظمها على استحياء من تطبيع العلاقات من نظام الأسد، خوفاً من غضبة شعوبهم، وفي الوقت نفسه، قدَّم هدية كبيرة لبشار الأسد ومِن ورائه سوريا وإيران.
أيضاً، المحيطون ببشار الأسد وصفوا هذه الزيارة بأنها مهمة للغاية، وهي كذلك بالفعل، لأنها الأولى من زعيم عربي لدمشق منذ الثورة؛ ومن ثم سيكون خلفها تفكير العديد من القادة العرب في عودة العلاقات مع النظام السوري وإعادة الشرعية له مرة أخرى بعدما فقدها مع أول قذيفة أُطلقت على النساء والأطفال السوريين.