كانت مصافحة الأمير محمد بن سلمان الحارَّة لبوتين في قمة العشرين أكبر من مجرد تعبير عن المودة الشخصية، بل تبدو كرسالة من الأمير الذي نبذه الغرب بأنه قادر على إيجاد بدائل، إذاً هل تستطيع السعودية الاستغناء عن الولايات المتحدة فعلاً، وإيجاد حلفاء لها في الشرق؟
فقد باتت علاقات الرياض الاقتصادية مع الغرب منذ مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي موضع تدقيقٍ مكثف.
فمنذ ذلك الحين تنأى معظم الحكومات الغربية الكبرى بنفسها عن السعودية، ، الأمر الذي أثار تساؤلات بشأن، هل تستطيع السعودية الاستغناء عن الولايات المتحدة، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأميركية.
فبدءاً من خطوة الانسحابات من مبادرة مستقبل الاستثمار بالمملكة وحتى التجميد الألماني لصادرات السلاح، كانت الحكومات الغربية وبعض شركات القطاع الخاص حريصةً على النأي بنفسها عن المملكة.
هل تصبح السعودية معزولة على الساحة الاقتصادية العالمية؟
ونُوقِش في الأسابيع الأخيرة اتخاذ ردود فعل قوية تجاه الرياض من قبل الكونغرس الأميركي، وستكون ردود الفعل هذه قريباً في صدارة القضية، حسب المجلة الأميركية.
ومع ذلك، من المستبعد أن تصبح السعودية معزولةً على الساحة الاقتصادية العالمية.
ففي حين تراجع وزير الخزانة الأميركي ستيف منوشين عن حضور مبادرة مستقبل الاستثمار.
فإن السعودية تواصل علاقتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة.
فرغم الضغط الأميركي والتدقيق الدولي المتزايد، وقَّعت شركات طاقة أميركية بارزة، مثل Halliburton و Baker Hughes GE مذكرات تفاهم مع شركة أرامكو في المبادرة.
كما واصلت الاستثمارات السعودية في مجال الطاقة التدفُّق إلى الشركات الناشئة في وادي السيليكون، مثل شركتي View وZume.
ويُتوقَّع على المدى المتوسط أن يتعافى النمو السعودي من مستوياته المنخفضة في العام الماضي 2017، الأمر الذي على الأرجح سيتيح القدرة على إحداث مزيدٍ من التحولات الاقتصادية في البلاد.
ولكنْ هناك شريك جديد يستغل الفرصة لتوثيق علاقته معها؟.. فكلاها في الهمِّ شرق
غير أنه ظهر طرف ثالث يبدو أن يحاول أن يستغل الجفاء الغربي تجاه الرياض.
طرف يعاني بدوره من عقوبات غربية، وليس لديه مشكلة في انتهاكات حقوق الإنسان.
طرف اتهم بقتل معارضيه حتى قبل قيام رجال الأمير محمد بن سلمان بتقطيع خاشقجي بالمنشار.
إنهم الروس.
تقليدياً لا تمتلك روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي الشيوعي علاقة دافئة مع السعودية الوهابية.
فقد ورث بوتين نفور أسلافه البلاشفة والقياصرة للأصولية الإسلامية.
وتنافس البلدان دوماً على النفوذ في مناطق عدة منذ أفغانستان إلى سوريا، حيث كانت السعودية دوماً حليف الغرب المستعد لدفع الأموال لخصوم روسيا.
كما تنافسا على لقب المنتج الأول للنفط.
ولكنْ هناك شيء ما تغير، إذ يبدو أن السعوديين اقتنعوا بهزيمتهم في سوريا ولم تعد تمثل لهم أولوية.
كما أنهما اتفقا على التعاون بدلاً من التنابز في سوق النفط.
والآن هناك شيء جديد يجمع بين بوتين، فكلاهما سلوكه يخضع لتدقيق من قِبل الغرب، باعتبارهما زعيمين غير ديمقراطيين وطموحين لدرجة التدخل في شئون غيرهما الداخلية.
وليس هناك وقت أفضل من هذه اللحظة للتقارب بينهما.
ولذا لم يكن غريباً أن يقود الرئيس التنفيذي لصندوق الثروة السيادي الروسي كيريل دميتريف وفداً من أكثر من 30 رئيساً تنفيذياً خلال منتدى الاستثمار الأخير بالسعودية.
ولكن التوجه السعودي نحو الشرق لا يقتصر على روسيا.. إنه مدفوع بثورة النفط الصخري
منذ ثورة إنتاج النفط الصخري، تبنَّت السعودية تعاوناً أوثق في مجال الطاقة مع القوى غير الغربية، مثل الصين وروسيا والهند.
وفي صناعات المنبع في مجال الطاقة (التكرير والتسويق والنقل) تحديداً، تبنَّى السعوديون استثماراتٍ أكبر في قطاعي التكرير والبتروكيماويات.
وكان السعوديون قد اتخذوا أولى خطواتهم داخل هذا المجال في الثمانينيات من القرن الماضي عبر سلسلةٍ من المشروعات المشتركة في سوق أميركا الشمالية، واليوم يمتلكون مصفاة (بورت آرثر) التي تُعَد أكبر مصفاة في الولايات المتحدة.
وبالمثل، أرسلت أرامكو أوَّل موفديها إلى الصين في وقتٍ مبكر يعود إلى عام 1989، لكنَّها توصَّلت إلى أولى صفقاتها بعد ذلك بكثير في عام 2007.
ومنذ ذلك الحين، فتحت أرامكو العديد من المصافي في مقاطعتي لياونينغ وتشيجيانغ الصينيتين، وقد تعيد مستقبلاً النظر في مشروع مصفاة النفط المتوقف خاصتها في مقاطعة يونان.
ولهذا تتنافس السعودية وروسيا على رضا الصين
وتسارعت وتيرة هذه الصفقة بسبب انخفاض حصة السعودية في سوق الطاقة الصيني، مُتراجِعةً إلى 13.1% في مارس/آذار 2018 مقارنةً بـ20% في عام 2013.
ويتوق السعوديون، الذين تجاوزتهم روسيا لتصبح أكبر مُورِّد للصين في مجال الطاقة، إلى إبرام عقود توريد طويلة الأجل في البلاد وتحسين مكانة أرامكو الدولية.
ويُذكَر أنَّ أرامكو أطلقت مشروعات في أنحاء آسيا، منها مشروعات في ولاية ماهاراشترا الهندية، وولاية جوهور الماليزية، ومدينة غوادار الباكستانية.
إذ لم تعد أميركا لها أولوية لدى السعوديين كمستهلك للنفط، والروس باتوا شركاءهم
وتعكس كل هذه المشروعات ديناميات سوقٍ دولية جديدة للطاقة في ظل صعود الولايات المتحدة ضمن مراتب المنتجين العالميين أي لم تعد سوقاً استهلاكية لها أولوية بالنسبة للسعوديين.
ومنذ اتفاق مجموعة "أوبك+" لخفض الإنتاج في 2016، عمل السعوديون والروس على تضافر سياستهما النفطية للتحكُّم بصورة أفضل في توزيعات العرض والطلب.
ويُمثِّل الغاز الطبيعي مجالاً للتعاون المستقبلي الذي يتجلَّى في الاستثمار في مشروع "Arctic LNG-2" للغاز الطبيعي المسال التابع لشركة Novatek الروسية الذي يقام في الأراضي الروسية.
ويعتبر أكبر استثمار للطاقة في الدائرة القطبية.
كما أن الأمير محمد يتبع استراتيجية استثمارية أكثر هجومية يغازل خلالها بكين
ومع وضع أهداف "رؤية 2030" الطموحة في الاعتبار، بات صندوق الاستثمارات العامة لولي العهد محمد بن سلمان مستثمراً أكثر إقداماً بكثير في قطاع التكنولوجيا.
فحتى الآن، تضمَّنت هذه الاستثمارات مزيجاً من الاستثمارات البارزة في شركات ناشئة كبرى مثل Uber، وكذلك الاستثمار عبر التعاون المشترك مع مجموعة Softbank في "صندوق رؤية". وحتى عقب مقتل خاشقجي، قبلت كلٌّ من شركتي Zume وView بسعادةٍ استثماراً بقيمة 1.5 مليار دولار عبر صندوق رؤية المشتركة بين السعودية ومجموعة سوفت اليابانية.
وخارج الولايات المتحدة، غازل صندوق رؤية المدعوم سعودياً بعض الشركات الصينية أيضاً مثل شركة ZhongAn (مجال تكنولوجيا التأمين)، وشركة Bytedance (مجال الشبكات الاجتماعية)، وشركة Sensetime (مجال تكنولوجيا التعرُّف على الوجه/الذكاء الاصطناعي).
كان هذا الاستثمار بمثابة طريقٍ ذي اتجاهين للرياض لجلب الاستثمارات الحيوية وعمليات نقل التكنولوجيا في نفس الوقت الذي تجري فيه إصلاحاتٌ كبيرة.
ووقَّعت شركة Katerra الناشئة التي موَّلها مؤخراً صندوق رؤية اتفاقاً لبناء خمسين ألف منزل في المملكة، على أن تكون معظم مصادر عملية التصنيع محلية.
ولكن الطريق إلى الصين ليس مفروشاً أمامهم بالورود مثلما الحال في وادي السيليكون
ومع أنَّ السعوديين قد يفكرون في توثيق التعاون مع شركات التكنولوجيا الصينية مستقبلاً، إلا أنه قد تكون لديهم مشكلة .
إذ إن وجود صناديق عامة وخاصة كبيرة في الصين يخلق بدائل للأموال السعودية .
ولكن بالنظر إلى غياب وجود مثل هذه الصناديق في السوق الأميركية، يكون لدى السعوديين أوراق ضغط أكبر لإبرام صفقات تكنولوجية في وادي السيليكون الأميركي مقارنةً بمدينة شنغن الاقتصادية الصينية.
وهذه التوجهات السعودية الجديدة ترضي الأميركيين وتغضبهم أيضاً.. متفقان على إيران
ويحمل هذا التوجه السعودي نحو زيادة التنويع الاقتصادي آثاراً متباينة على كثير من الأزمات العالمية ومواقف الغرب منها.
فبالنسبة إلى إيران:
فإن زيادة الاستثمارات السعودية في صناعات تكرير الطاقة في الصين والهند يعزز فاعلية حملة الضغط الرامية التي تقودها الولايات المتحدة وتؤيدها الرياض لتوفير بديل واضح للنفط الخام الإيراني في الأسواق العالمية.
والرياض تتحسب للتصعيد الأميركي، وها هي تساعد روسيا على التملص من العقوبات
في المقابل، فإن هذا التوجه السعودي نحو الشرق يحمل جانباً يضر جهود الغرب لمعاقبة روسيا.
إذ يُقلِّص توثيق الاستثمار السعودي في قطاع الطاقة الروسي فاعلية العقوبات الغربية ضد موسكو على المدى المتوسط.
وجاء النقاش حول قانون ماغنيتسكي، الذي يمنح السلطة التنفيذية الأميركية سُلطة معاقبة المسؤولين الأجانب المتورّطين في انتهاكات لحقوق الإنسان؛ ليعزز قلق السعودية بشأن احتمال معاقبتها بسبب مقتل جمال خاشقجي
وقد يُمهِّد القانون الطريق ربما أمام مزيدٍ من التصعيد المستقبلي في الكونغرس.
وهذه الآثار ذات تأثير نفسي كبير، وستتكشَّف على مرِّ الأشهر العديدة المقبلة، لكن من المهم لصانعي السياسة في واشنطن أن يحافظوا على نظرة شاملة واسعة للأمور.
ومخاوف المستثمرين قد تطيح برؤية 2030
أما بالنسبة للجانب السعودي فالوضع قد يكون أكثر دقة وحساسية.
فمع وجود الاستثمار الأجنبي السعودي عند أدنى مستوى له في أربع سنوات قبل الأزمة، سيتعين على الرياض أن تتوخَّى الحذر في ردها.
وقد يُهدِّد العجز عن تهدئة مخاوف المستثمرين الدوليين الإمكانات المستقبلية لمشروع رؤية 2030، الذي استثمر فيه ولي العهد محمد بن سلمان قدراً كبيراً من رأس المال السياسي.
كما أن التوجه شرقاً يبدو حافلاً بالمتناقضات والمشكلات.. هذا ما أغضبهم من الصين
وهناك أيضاً عددٌ من القيود على تلك الشراكات الآخذة في التطور مع الصين وروسيا والهند.
فمن المرجح أن يكون الاستثمار المستقبلي الثنائي بين الرياض وبكين مثيراً للجدل في سياق مبادرة الحزام والطريق.
إذ بات لدى السعوديين، الذين تعهَّدوا بـ6 مليارات دولار من المساعدات لباكستان، نظرةٌ مباشرة على الجوانب السلبية لاستثمارات البنية التحتية غير المستدامة من جانب بكين.
والتنسيق مع الروس قد يتفكك بسبب الأميركيين
وفي الوقت نفسه، قد يتفكَّك التعاون بين الروس والسعوديين إذا أغرقت المزيد من الإمدادات الأميركية سوق الطاقة في المستقبل القريب.
إذ قد تدفع زيادة الإنتاج من قِبل الولايات المتحدة موسكو والرياض لإيقاف تعاونهما والعودة إلى التنافس للحفاظ على حصتها من سوق النفط.
وربما يكون الفارق بين سعر برميل النفط المُرضي لكل من روسيا والسعودية هو العامل المحفز لعودة الخلافات بينهما ودخول أسواق النفط في فوضى.
هل تستطيع السعودية الاستغناء عن الولايات المتحدة فعلاً؟ الإجابة في إيران
وفضلاً عن ذلك، يعد اهتمام السعودية الرئيسي هو المنافسة الجيوسياسية المتصاعدة مع إيران. وفي هذا السياق، يحتاج السعوديون إلى واشنطن بصفتها شريكاً يمكن الاعتماد عليه لمواجهة صعود طهران في المنطقة.
في المقابل، تعمَّق التعاون العسكري الصيني مع إيران فمنذ عام 2014.
وتضمَّن هذا التعاون تدريبات بحرية مشتركة في مضيق هرمز في يونيو/حزيران من العام الماضي 2017.
كما يُمثِّل مشروع الهند الطموح في ميناء تشابهار الإيراني استثماراً مهماً في مستقبل إيران، وهو يشبه الاستثمار الصيني الكبير في باكستان جارة الهند ومنافستها التقليدية.
وبالإضافة إلى ذلك، قدَّم الروس دعماً أمنياً كبيراً لإيران عن طريق وجودهم البري في سوريا وبيع منظومات دفاع جوي من طراز S-300 لإيران في عام 2016.
ومن ثَمَّ، فمع أخذ هذه الحالات في الاعتبار، تظل واشنطن شريكاً حاسماً على المدى الطويل للسعوديين، بغضّ النظر عن أي تحولاتٍ اقتصادية.