قالت صحيفة The New York Times الأميركية، إن بيان الرئيس دونالد ترامب الذي أصدره الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بخصوص جريمة قتل جمال خاشقجي ، قد يصبح بمثابة رسالة تمثل نوعاً من إرشادات العمل للزعماء الأجانب، والتي من شأنها أن ترشدهم إلى كيفية زيادة مكانتهم في نظر الرئيس الأميركي، إلى جانب تمكينهم من سحق معارضيهم في الداخل دون إثارة غضب الأميركيين.
وأوضحت الصحيفة الأميركية أن الرئيس دونالد ترامب ينظر منذ وقتٍ طويل، إلى السياسة الخارجية على أنَّها سلسلةٌ من الصفقات التجارية، مجردة من القيم والمثالية.
إلا أنَّ بيان الرئيس دونالد ترامب المؤلف من 633 كلمة، الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، عن القتل الوحشي الذي نال الصحافي السعودي جمال خاشقجي أظهر إلى أي مدى يؤمن ترامب بأنَّ الحسابات الساذجة التجارية يجب أن تكون هي بوصلة قرارات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم.
أوضح ترامب جلياً أنَّه يرى التحالفات كمعاملاتٍ تجارية، تعتمد على أي الشركاء الأجانب يشترون معظم الأسلحة.
وتفوق أهمية الوظائف الأميركية القيم الأميركية. وكل الدول تتصرف على نحوٍ مثير للاشمئزاز، لذا لا يجب على الولايات المتحدة أبداً أن تُخضِع أصدقاءها لمعايير مختلفة مقارنةً بالأعداء.
كيف تجاهل الرئيس دونالد ترامب البحث عن حقيقة جريمة قتل جمال خاشقجي ؟
وحسب تقرير الصحيفة الأميركية، فقد كانت الرسالة أيضاً بمثابة تأمل كاشف لمكانة الحقائق في صنع القرار السياسي من وجهة نظر الرئيس دونالد ترامب.
خلصت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى أنَّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أمر بقتل خاشقجي، حسبما أفاد مسؤولون أميركيون الأسبوع الماضي.
لكنَّ الرئيس الأميركي لم يضرب بهذه الاستناجات عرض الحائط فقط الثلاثاء، بل تجاهل أيضاً عملية البحث عن الحقيقة ذاتها، ما يعني ضمناً أنَّ الأمر لا يهمه على أي حال.
وأشار بيان الرئيس دونالد ترامب إلى ولي العهد محمد بن سلمان، قائلاً: "ربما فعل ذلك، وربما لم يفعل!". وبدلاً من ذلك، قال إنَّ قرارات الرئيس يجب أن تسترشد بما هو أفضل للاقتصاد ولأمن الولايات المتحدة.
كانت كلماته بمثابة صفعة لتركيا، وهي حليف أميركي وزميل عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
طالبت تركيا بمعاقبة السعودية على قتلها خاشقجي الشهر الماضي (أكتوبر/تشرين الأول 2018) داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.
إلا أنَّ بيان الرئيس دونالد ترامب لاق ترحيباً حاراً من حلفاء آخرين لأميركا في الشرق الأوسط الذين يُقَدِّرون العلاقات الوثيقة مع واشنطن، ولكنهَّم يريدون أن يحكموا كما يرغبون دون تدخل.
وقال عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة: "سيُنظر إلى ترامب على أنَّه رئيس جريء للغاية، ظلَّ متمسكاً بقناعاته، وسار عكس إرادة واشنطن. أُرسل لك بالغ الشكر، السيد الرئيس، من هذا الجزء من العالم.
لن تنسى الرياض وعواصم دول الخليج الأخرى هذا الموقف الراسخ، وسوف ترد هذا الجميل بشكلٍ رائع في العديد من القضايا".
تبرئة السعودية من دم خاشقجي وكارثة اليمن وحماية إسرائيل وإدانة إيران
وكرَّر بيان الثلاثاء أيضاً، محاولات ترامب السابقة المساواة بين الدول التي تستخدم القتل باعتباره إحدى أدوات القوة.
ففي مقابلةٍ مع المذيع الأميركي بيل أوريلي، على قناة Fox News، بعد أسابيع من توليه منصبه، قلَّل ترامب من أهمية تاريخ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في إصدار أوامر بقتل أشخاصٍ خارج نطاق القضاء، وشبَّهه بالتاريخ الأميركي، وقال إنَّ من الأفضل للولايات المتحدة على المدى البعيد أن تكون صديقةً لروسيا من أن تكون عدوتها.
وبالمثل، أعفى ترامب، الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، المملكة العربية السعودية من المسؤولية عن دماء الضحايا المدنيين والكارثة الإنسانية في اليمن، بإلقائه اللوم في الحرب الدائرة هناك على إيران. وقد استهلَّ بيانه بعبارة: "العالم مكان خطر جداً".
كان بيان الرئيس دونالد ترامب إيجازاً مقتضباً لرؤية ترامب تجاه الشرق الأوسط، حيثُ تبقى أولوياته الرئيسية هي حماية إسرائيل، ومحاربة الإرهاب، والضغط على إيران، التي يعتبرها المُحرِّك وراء عدم الاستقرار في لبنان والحربين الجاريتين في اليمن وسوريا.
ومنذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، نجحت المملكة العربية السعودية في تقديم نفسها لترامب وغاريد كوشنر، صهره ومستشاره البارز، على أنَّها حليفٌ شرق أوسطي يحظى بالمكانة والأموال اللازمتين للمساعدة في كل هذه القضايا.
وقال ترامب: "تعتزم الولايات المتحدة أن تظل شريكاً ثابتاً للمملكة العربية السعودية، لضمان مصالح بلدنا وإسرائيل وكل الشركاء الآخرين في المنطقة".
لدرجة أن ترامب كان أشد مبالغة من السعوديين في وصف علاقاتهم
وفي بعض أجزاء البيان، كان ترامب أشدَّ مبالغةً من المسؤولين السعوديين أنفسهم في وصف العلاقات الثنائية والقتل، إذ أشاد بيان الرئيس دونالد ترامب بالمملكة العربية السعودية، واصفاً إيَّاها بأنَّها تخدم مصالح إسرائيل، مع أنَّ السعودية ما زالت لا تقيم علاقاتٍ رسمية مع إسرائيل.
وقال إنَّ ممثلين سعوديين وصفوا خاشقجي بأنَّه "عدو الدولة وعضو في جماعة الإخوان المسلمين"، وهو اتهامٌ لم يذكره أي مسؤول سعودي علناً.
فحتى الأمير خالد بن سلمان، الأخ الأصغر للأمير محمد والسفير السعودي لدى الولايات المتحدة، وصف خاشقجي بأنَّه "صديق" بعد اختفائه، لكن قبل تأكيد وفاته.
وبعد ساعاتٍ من إصدار البيت الأبيض بيان ترامب، أضاف الرئيس الأميركي، في مؤتمرٍ صحافي مطوَّل عُقِد بحديقة البيت الأبيض الجنوبية، أنَّ سيطرة المملكة العربية السعودية على أسعار النفط العالمية أعطت المملكة تأثيراً هائلاً في قراراته.
إذ قال إنَّ مواصلة الضغط الهائل على محمد بن سلمان قد تدفع السعودية إلى خفض إنتاج النفط، ما سيسفر عن إمكانية ارتفاع سعر برميل النفط إلى 150 دولاراً.
ما جعل بيان الرئيس دونالد ترامب يُغضب الكثيرين
وردَّ منتقدو ترامب في الكونغرس على تصريحاته بغضبٍ، قائلين إنَّه تنازل عن السلطة الأميركية في قضايا حقوق الإنسان، للحصول على مزيدٍ من صفقات الأسلحة لشركات صناعة الدفاع.
وكتب راند بول، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كنتاكي الأميركية، تغريدةً على تويتر، قال فيها: "أنا متيقنٌ تماماً من أنَّ هذا البيان يهتم بمصلحة السعودية أولاً وليس أميركا".
وعلى جانبٍ آخر، قد يزيد بيان الرئيس دونالد ترامب بشأن جريمة قتل جمال خاشقجي تعقيد العلاقات الأميركية مع تركيا، حليفتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي توتَّرت بالفعل بسبب قضايا تجارية، واحتجاز تركيا قِسَّاً أميركياً، ودعم الولايات المتحدة جماعة كردية مُسلَّحة في سوريا تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً.
إذ يعتبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نفسه منافساً لمحمد بن سلمان على مكانة القائد الشرعي للعالم الإسلامي، وتُسرِّب أجهزة أمنية تركية تفاصيل مدوية باستمرار من تحقيقاتها في مقتل خاشقجي، لتُورِّط السعودية وتضرَّ بسمعة ولي العهد.
وقد لمح أردوغان نفسه بشدةٍ إلى أنَّه يُحمِّل محمد بن سلمان المسؤولية، لكنَّه لم يذكر اسمه مباشرة.
وقد انحاز ترامب بوضوحٍ، في بيانه، إلى محمد بن سلمان في هذا التنافس، ما يُعرِّض أردوغان لمزيدٍ من العُزلة.
فهل نعيش فعلاً في عصر حُكم الرجال الأقوياء وأفراد المافيا؟
وفي أنحاء العالم، انقسمت ردود الفعل انقساماً كبيراً بين من يرغب في ألَّا تتدخَّل الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بالطريقة التي يديرون بها بلادهم، ومن يعتقد أنَّ الولايات المتحدة ينبغي لها أن تُظهِر قيادةً أخلاقية وتدافع عن المعايير الدولية.
إذ قال رامي خوري، أستاذ الصحافة في الجامعة الأميركية بالعاصمة اللبنانية بيروت والزميل البارز في كلية كينيدي بجامعة هارفارد: "إنَّ بيان الرئيس دونالد ترامب تذكيرٌ مُريع بمدى تزعزع وضع القيادة في الولايات المتحدة والسعودية من ناحية الالتزام بسيادة القانون والآداب والأخلاق الشائعة".
وأضاف: "الرسالة مفادها أننا الآن في عصر حُكم الرجال الأقوياء أو أفراد المافيا الذين يهيمنون تدريجياً على المنطقة".
وقد استخدم بعض المُتابِعين في الشرق الأوسط تصريحات ترمب التي قال فيها إنَّ العالم مكان خطر، لتأكيد تورُّط الرئيس الأميركي في هذه الأخطار.
فوائل غنيم، الناشط المصري الذي ظهر على الساحة في أثناء الثورة المصرية عام 2011، كتب تغريدةً على تويتر، قال فيها: "العالم مكانٌ خطِر حين يقوده زعماء ديماغوجيون يتلاعبون بالحقيقة… فهُم يكذبون ويعرفون أنَّهم يكذبون، ويعرفون أننا نعلم أنَّهم يكذبون".
وأضاف: "ارقد في سلام يا صديقي العزيز خاشقجي، أتمنَّى أن يُبيِّن موتك للجميع حقيقة أنفسهم، وما يُمثِّلونه".