كان شادي شحادة، الذي يعمل ميكانيكي دراجات نارية بورشته في مدينة محردة ، عندما تردَّد إليه خبر أنَّ صاروخاً ضرب منطقته على طول ضفاف نهر العاصي.
هرع شادي إلى منزله فوجد والدته التي تبلغ من العمر 83 عاماً قد ماتت وجثتها مُلقاة في مدخل المنزل. وكذلك طفلته البالغة 8 أعوام، التي وجد أحشاءها خارج بطنها الذي مزقته الشظايا.
وعلى بُعد بضع ياردات من الشارع، وجد بقايا جثث مشوهة تخص باقي أفراد عائلته: زوجته ذات الـ33 عاماً، وابنه البالغ 6 أعوام، وابنته ذات العامين.
قال شحادة (42 عاماً): "لقد نال الصاروخ منهم جميعاً وتمزقت جثثهم إرباً".
Jihadist rebels launch deadly attack on large Christian city in northern #Hama killing 9 Christian including 4 children https://t.co/8cN4fmzGX2 #Mhardeh #Syria #Mhardeh pic.twitter.com/iA6Bwx40tF
— Shah Ghahramani (@SGaramani) September 8, 2018
وقع الهجوم على المدينة، التي دعمت الرئيس السوري بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية، في اليوم نفسه الذي وافق فيه النظام السوري وروسيا حليفته على تأجيل هجوم لسحق بقايا الجماعات المعارضة المختلفة، التي كانت تقاتل لإطاحة الأسد منذ سبعة أعوام.
كانت قوات المعارضة متقوقعة في محافظة إدلب المجاورة، التي تعد آخر معاقلها. وكان ذلك الهجوم، الذي خلَّف 13 قتيلاً بمثابة هجوم توديعي.
دفعوا ثمن انحيازهم للنظام
بعد مرور أسابيع، أي في منتصف أكتوبر/تشرين الأول، كانت بوابات المنازل ما زالت مُزيَّنة بصور الموتى والجدران ملطخة بالدماء.
انحازت مدينة محردة ، وأغلب سكانها البالغ عددهم 23 ألفاً من المسيحيين، إلى صفِّ النظام في الحرب كرهاً، ولكنَّ ذلك الخيار أفضى إلى إقحام الضاحية -التي كانت هادئة يوماً ما- إلى الخطوط الأمامية في المعركة وعزلها عن جيرانها، التي يشكل المسلمون السُّنَّة غالبيتها وغالبية سوريا.
والآن، مع احتمال انتهاء الحرب، يحاول المواطنون في محردة بصعوبةٍ إيجاد طريقة لمشاركة المستقبل مرة أخرى مع جيرانهم، الذين تحوَّلوا إلى أعداء في ساحة المعركة.
فقبل أن تبدأ الحرب، كان الكثير من سكان محردة يعملون في العاصمة الإقليمية حماة، وكانوا يحظون بعلاقات صداقة وعمل سلسلة مع السُّنَّة.
ومع انتشار الثورات التي تُطالب بإطاحة الأسد في أنحاء سوريا عام 2011، باتت هذه العلاقات في موضع تساؤل.
إذ تواصل متظاهرون مع الأقليات، بما فيها الطوائف الدينية، على أمل بناء تحالف واسع النطاق ضد النظام، بحسب ما قاله معن بيطار، قس الكنيسة المشيخية في محردة.
وتذكَّر بيطار قائلاً: "لقد أرادوا إغواء المجتمع المسيحي لينضموا إلى احتجاجاتهم، ثم ذهبوا إلى الإسماعيليين، وحاولوا ضم العلويين".
وذهب بيطار مع سيمون وكيل، وهو مقاول وزميل مسيحي كان غالباً ما يوظف عمالاً مسلمين، لمقابلة بعض قادة المظاهرات.
وقال بيطار: "لقد حاولنا تحذيرهم وقلنا لهم: "توخوا الحذر ولا تتسرعوا" لا يمكنكم محاربة الجيش"، وقد رفض الانضمام إلى المظاهرات، لأنَّ النشطاء رفضوا الإفصاح عن الإصلاحات التي كانوا يتبنّونها.
دخلها المعارضون لكن بشرط السلمية
في تلك الأثناء، احتاج المتظاهرون، الذين كانوا قد اشتبكوا بالفعل مع أفراد الأمن وتعرَّضوا للقمع إلى دخول محردة؛ إذ كانت المدينة حلقة وصل بين طريقين رئيسيين، يربطان حماة بمناطق ساحلية سورية. وتضم المدينة كذلك مستشفيات ومتاجر جيدة، ومحطة كهرباء فرعية.
لم يرفض بيطار دخول الناشطين، لكنَّه أصرَّ على أن يظلوا في إطار السلمية.
وتذكر أنَّه قال لهم: "أنا معكم، ولكن لا تحملوا الأسلحة. وأكَّدوا بدورهم عدم وجود أي نية لحمل السلاح".
لكنَّ الوضع ما لبث أن تغيَّر.
دار نقاش مرير حول هوية المسؤول عن ذلك التحول العنيف؛ إذ يصرُّ النظام ومؤيدوه على أن الثورة كانت مسلحة منذ البداية، ضمن مكيدةٍ تآمرية دبَّرها أعداء سوريا.
بينما تقول قوات المعارضة إنها لم تسلِّح نفسها إلَّا لصدِّ حملة قمعية وحشية، شنَّها نظامٌ لم يتردد في قتل مواطنيه.
لكنَّ الوضع ما لبث أن تغيَّر
ومع تسلل المزيد من الأسلحة إلى صفوف الثوار، تحولت الاحتجاجات السلمية إلى معارك في الشوارع.
رجال مُدجَّجون برشاشات الكلاشنيكوف سطوا على مصرف في المدينة، وهاجموا رجال الشرطة، وخربوا المتاجر، ونفَّذوا عدة عمليات اختطاف طلباً للفدية. ومن ثَمَّ، سلَّم أفراد الأمن أسلحتهم إلى السكان، خشية أن يشنَّ المتظاهرون المسلحون هجوماً كبيراً، وفرُّوا إلى ثكناتهم.
ورداً على ذلك، كوَّن وكيل وآخرون جماعات رصد مسلحة من المتطوعين في الأحياء المجاورة، المعروفة باسم اللجان الشعبية لإدارة نقاط تفتيش عند مداخل المدينة، ومنع قوات المعارضة الوليدة من الدخول.
لم يوافق جميع سكان محردة على قرار اتخاذ موقف مضاد للمتظاهرين والمجتمعات السنية المحيطة التي دعمتها.
وقال بيطار: "قال بعض الأشخاص إنَّه يجب علينا ألَّا نقف ضد جيراننا. بينما رأى البعض الآخر أنَّ الدولة ستسقط ولا نريد معاداة الطرف الآخر".
لكن مع تصاعد أعمال العنف وسيطرة الجماعات الإسلامية مثل جبهة النصرة (فتح الشام)، التابعة لتنظيم القاعدة، تخوّف المسيحيون من أن الثورة لم تعد حركة لتحرير سوريا من حكم الأسد الوحشي، بل خطة إسلامية عنيفة ترمي إلى تدمير البلاد وإخضاع أقليّاتها المختلفة.
ومن ثَمَّ، انحاز السكان إلى صفوف النظام لاعتقادهم أن البديل كان أسوأ.
رجال محردة يجب أن يغتسلوا بالدماء
وفي عام 2012، عندما لجأ الجيش إلى اللجان الشعبية لتعزيز قواته المنهكة، واستخدام محردة قاعدةً للعمليات، سرعان ما وافق وكيل والآخرون. وأصبح وكيل قائد قوات الدفاع الوطني في محردة، وهي مجموعة مساعدة احتياطية تتألف من 200 مقاتل.
وقال بيطار إن الناس باتوا يكِنون مشاعر العداء تجاه قوات المعارضة، وفي النهاية شاركه معظمهم الرأي، بأنَّ "رجال محردة يجب أن يغتسلوا بالدماء".
وقد كان بالفعل. فعلى مرِّ السنوات السبع الأخيرة، قُتل 19 فرداً من قواته، بالإضافة إلى 96 مدنياً، بينما أمطرت قوات المعارضة المدينة بآلاف من قذائف الهاون. وأصيب وكيل 9 مرات، ونجا من محاولة اغتيال بسيارة مفخخة.
وفي تلك الأثناء، تحوَّلت محردة لتشكل جزءاً من خطٍّ دفاعي يقاتل ضد المعارضين، الذين أصبحوا متطرفين تطرُّفاً متزايداً، وتعهَّدوا بتحطيم الصُّلبان في الكنائس الأربع بالمدينة، وطرد مسيحييها، وإنشاء حكومة إسلامية في سوريا.
وما زالت آثار القتال موجودة في المدينة إلى اليوم
إذ كان وكيل يجوب الشوارع في شاحنته الصغيرة، مشيراً إلى الحفر التي أحدثتها الصواريخ وقذائف الهاون، لكنَّ محردة، على عكس حلب والغوطة ودرعا وغيرها من مناطق المعارضة، لم تقع قط تحت سيطرة القوى المعارضة.
ممَّا يعني أنَّه عندما تدخلت روسيا في الحرب في عام 2015، وبدأت في مساعدة النظام السوري في استرداد تلك المدن، كانت محردة بالفعل مع الطرف الرابح.
وفي جميع أنحاء سوريا، مُنح المقاتلون الذين رفضوا الاستسلام طريقاً آمناً إلى إدلب، وفي ظل الاستعدادات لفرض النظام سيطرته على المدينة، تحرَّكت الأمم المتحدة وقوى عالمية لتجنب ما وصفوه بـ "حمَّام دم"، وتوسطوا في اتفاق إدلب الذي أفضى إلى تعليق النظام هجومه، وتجريد قوات المعارضة من أسلحتها، وتراجعها خلف ما يُطلق عليه خط عدم التصعيد.
يكمن الأمل في أنَّ تلك الاتفاقية يمكن أن تكون تمهيداً لخطة سلام شاملة.
اتفاق إدلب والهدوء الذي يسبق الثأر
أصبحت أجواء محردة هادئة الآن، ويتجلى ذلك في خروج العائلات مرتدين أرقى الملابس يوم الأحد، للذهاب إلى الكنيسة. وكذلك تكتظ المقاهي وغيرها من أماكن الترفيه بالأشخاص ليلاً.
صحيحٌ أنَّ هناك انفجارات عرضية من وقتٍ لآخر، لكن لا أحد يوليها الكثير من الاهتمام.
كانت اتفاقية سبتمبر/أيلول -التي أُبرِمَت بين روسيا وإيران وتركيا– تعني من الناحية النظرية أنَّ مهمة قوات الدفاع الوطني في محردة قد انتهت.
لكنَّ رفاق وكيل ما زالوا ينصبون المدافع بالقرب من قلعة شيزر، وهي قلعة حصينة قديمة بُنِيَت على قمة جبل في الطرف الشمالي من محردة. ويعتزمون البقاء متأهبين حتى تستسلم قوات المعارضة في إدلب.
لكن ماذا بعد ذلك؟ هل سيسحب وكيل زملاءه المقاتلين ويعود إلى عمله مقاولاً مرة أخرى؟ وهل يمكنه إعادة العلاقات مع سكان المدن المجاورة الذين قاتلهم في المعركة؟
تحدَّث عن ذلك قائلاً: "عاد الجنود إلى منازلهم، ولكننا ما زلنا مرابطين، لا يمكنني العودة إلى الحياة المدنية".
وأعرب وكيل عن استعداده للمسامحة، لكنَّه يخشي أن ينظر إليه الطرف الآخر دائماً باعتباره قاتلاً: "لقد أُسيلت دماء، حتماً سيكون هناك ثأر".