دوماً ما كان يكتب الصحافي السعودي الراحل جمال خاشقجي بشغف عن إنهاء الحرب الوحشية في اليمن. وفي أحد مقالاته في صحيفة The Washington Post الأميركية، دعا المملكة العربية السعودية إلى "استخدام نفوذها وتأثيرها داخل الدوائر الغربية" لإنهاء هذا الصراع، لكنه لم يكن ليتخيل قط أنه هو نفسه سيصبح الدافع لمحاولات إنهاء الحرب.
وقالت شبكة CNN الأميركية، الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني، إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبدو أنه متردد في ربط ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بالضلوع في مقتل خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، وبدا أنه لم يهتم كثيراً بما تقول المصادر إنه استنتاج لوكالة المخابرات المركزية الأميركية بأن ولي العهد السعودي القوي أمر بقتل خاشقجي.
وبحسب الشبكة الأميركية فقد نأى ترامب بنفسه عن القضية بقدر ما يستطيع، رافضاً الاستماع إلى أدلة صوتية تسلط الضوء على كيفية قتل خاشقجي، فيما يعترف المسؤولون السعوديون الآن بوقوع جريمة قتل مخطط لها مسبقاً في مقر السعودية الدبلوماسي، مطلع الشهر الماضي، على الرغم من إنكارهم تورط ولي العهد.
ورغم ما استنتجته وكالة المخابرات المركزية في تقييمها، فقد أوضح ترامب مراراً وتكراراً أن العلاقة السعودية- الأميركية ببساطة أهم من أن يُجازَف بها.
لكن ترامب ليس الزعيم العالمي الوحيد الذي يريد تفادي صدام مباشر مع ولي العهد السعودي، وزعزعة علاقة استراتيجية من مميزاتها تبادل المعلومات الاستخبارية وصفقات أسلحة مربحة ومصدر مستقر للنفط. ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي يتغاضى فيها العالم عن انتهاكات المملكة لحقوق الإنسان، للحفاظ على تلك المميزات في منطقة مضطربة، بحسب الشبكة الأميركية.
وبدلاً من ذلك، ترد الدول الغربية على "الجريمة" بالحديث عن الحرب في اليمن، مما يزيد الضغط على ولي العهد، للدخول في اتفاق وقف إطلاق النار الذي سيضع حداً للصراع الذي بدأ منذ ثلاث سنوات.
أسوأ كارثة إنسانية
أدت الحرب في اليمن، بين التحالف الذي تقوده السعودية، المدعوم من الولايات المتحدة والحوثيين المدعومين من إيران، إلى أسوأ كارثة إنسانية من صنع الإنسان في العالم، وفقاً للأمم المتحدة. وقد تسبَّبت القوات الجوية للتحالف السعودي في معظم الأضرار، ويقول خبراء الأمم المتحدة إن قصفها للمدنيين قد يرقى إلى مستوى جرائم الحرب. ولدى السعوديين، الذين أنكروا مزاعم بارتكاب جرائم حرب، السلطة الأكبر لإنهاء الصراع، أكثر من أي مُشارك آخر في الحرب.
هناك الكثير من أعضاء الكونغرس الأميركي، الذين لا يتفقون مع رد ترامب المتهاون على مقتل خاشقجي. وطرحت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي مشروع قانون لفرض عقوبات صارمة على السعودية، تستهدف مبيعات الأسلحة إلى المملكة، وتحظر على الولايات المتحدة إعادة تزويد طائرات الرياض العاملة في حرب اليمن بالوقود.
وقال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الأسبوع الماضي: "هذا التشريع وسيلة مهمة لمحاسبة السعودية على مختلف أفعالها في اليمن ومقتل جمال خاشقجي".
"تلكؤ إدارة ترامب"
والأحد الماضي 18 نوفمبر/تشرين الثاني، اتهم السيناتور الجمهوري جيف فليك، إدارة ترامب بالتلكؤ في قضية خاشقجي في مقابلة في برنامج "State of the Union" الذي تبثه شبكة CNN، وتحدَّث في المقابلة نفسها عن الدور السعودي في اليمن كمثال آخر على عدم توافق قيم المملكة مع قيم الولايات المتحدة.
وقال فليك عن مقتل خاشقجي: "يتضح أكثر فأكثر أن الحقيقة هي أن ولي العهد متورط، وأنه هو من أمر بالقتل على الأرجح".
وأضاف: "لذلك، لا يمكن أن تكتفي بتجاهل الأمر والقول بأنها حليف مذهل، في حين أنها في الواقع فقدت بعض قوتها لفترة من الوقت، ولا سيما في ضوء الحرب في اليمن. لذلك هناك بعض الأشياء التي علينا مواجهتها هنا قريباً، وآمل أن نفعل ذلك من منطلق الحقيقة، وليس من منطلق شيء نريد ببساطة أن نراه لأننا استثمرنا كثيراً في العلاقة مع ولي العهد حتى الآن".
وقال جوست هيلترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، إن مقتل خاشقجي يتزامن مع استعداد متزايد لمواجهة الحرب في اليمن، خاصة مع تفاقم المجاعة في البلاد، وقبل صدور الإعلان المحتمل في نهاية الشهر الجاري بأن اليمن رسمياً يمر بمجاعة.
وقال هيلترمان: "كان هناك قلق متزايد وضغط من الحكومات ومنظمات المجتمع المدني وغيرهم لاتخاذ المزيد من الإجراءات لإنهاء هذا الصراع. لقد أدرك الجميع أن مسؤولية المجاعة ستُلقى على عاتقهم أيضاً"، بحسب الشبكة الأميركية.
وأضاف: "لكن الناس يبحثون دوماً عن الفرص، فهناك دائماً فرصة في الأزمة. وحتى عندما يُقتل شخص ما بطريقة مرعبة، فلا بد من تحقيق بعض المكاسب السياسية".
عملية اتخاذ قرار بشأن اليمن تمضي كما خطط لها
واستغلت الدول الغربية حالة الضعف النادرة التي تمر بها الرياض للدفع باتجاه تحقيق تقدم في اليمن، ومن الأسهل الترويج لهذه القضية سياسياً في الداخل، بدلاً من التناحر مع ولي العهد القوي.
وكان من المتوقع أن تقدم المملكة المتحدة مشروع قرار طال انتظاره بشأن اليمن في الأمم المتحدة، خلال اجتماع لمجلس الأمن في نيويورك، يوم الإثنين 19 نوفمبر/تشرين الثاني.
وقبل أسبوع، زار وزير خارجية المملكة المتحدة جيريمي هانت الرياض، حيث التقى محمد بن سلمان، وقدم له نصّ المشروع الذي قالت مصادر إنه أثار غضبه.
وقال مصدران لشبكة CNN إن ولي العهد كان "ثائراً" بشأن القرار. ووصف مصدران آخران رد فعله وصفاً أقل حدة، لكنهما لم يُنكرا أنه كان منزعجاً على أقل تقدير.
وقال مصدر آخر لشبكة CNN إن هانت ذهب إلى السعودية وقال لولي العهد في اقتضاب: "هذا ما تفكر فيه القوى الغربية، وهذا ما يجب عليك فعله. ما خطتك لمنع هذا؟"
وجاءت رحلة هانت بعد محادثات مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، مما يشير إلى أن الحلفاء الغربيين يدعمون القرار.
ويبدو أن الخطة قد حقَّقت بالفعل بعض النجاح؛ إذ وافق السعوديون الآن على تسهيل سفر المفاوضين الحوثيين إلى السويد لإجراء محادثات.
أميركا توقف تزويد طائرات السعودية فوق اليمن
وبحسب الشبكة الأميركية، ففي بادرة أولى بسيطة، توقفت الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا الشهر عن إعادة تزويد طائرات التحالف السعودي العاملة في اليمن بالوقود. وفي نفس الوقت تقريباً، دعا بومبيو ووزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس المشاركين في الصراع إلى الاتفاق على وقف إطلاق النار.
لكن ما يقلق هو أن الحماس المتجدد للعمل على قضية اليمن -مهما بلغت درجة الترحيب به- قد جاء على حساب الكشف عن الحقيقة الكاملة عن مقتل خاشقجي.
إذ كان الرد على مقتل خاشقجي ضعيفاً، أو أنه على الأقل تجنَّب توجيه اتهام مباشر لولي العهد، لا سيما في وقت أصبح فيه الوضع مؤلماً وخطيراً للصحافيين في أجزاء كثيرة من العالم.
وأعلنت إدارة ترمب فرض عقوبات على 17 مسؤولاً حكومياً سعودياً، يوم الخميس الماضي 15 نوفمبر/تشرين الثاني -ومن الواضح أن ولي العهد ليس بينهم- في نفس اليوم الذي وجهت فيه النيابة العامة السعودية الاتهام رسمياً لأحد عشر شخصاً بشأن مقتل خاشقجي، وسيواجه خمسة منهم عقوبة الإعدام. ويبدو أن كلا الجانبين كانا يأملان أن تضع ردودهما نهايةً لقضية خاشقجي.
وتقول ألمانيا إنها تعتزم حظر دخول 18 سعودياً إلى البلاد، بينما تفكر كندا في فرض عقوبات أيضاً.
لقد كانت تركيا الطرف الأكثر تشدداً ضد السعوديين، إذ كانت تُسرِّب قدراً ضئيلاً من معلوماتها الاستخبارية مرة تلو الأخرى، وهي طريقة أجبرت الرياض على معالجة بعض جوانب مقتل خاشقجي على الأقل، لكن حتى أنقرة كانت حذرة بشأن الإشارة إلى الأسماء بوضوح.
وعندما سُئل في مقابلة في برنامج "Fox News Sunday" عمّا إذا كان يعتقد أن محمد بن سلمان أمر بقتل خاشقجي، قال ترمب: "حسناً، هل سيعرف أي شخص حقاً؟"
قد يكون على حق، وإذا لم تُكشف حقيقة ما حدث لخاشقجي بشكل كامل، فالعزاء الوحيد هو أن موته قد فعل شيئاً لشعب اليمن الذي مزقته الحرب.