جبان، إنه استسلامٌ للإرهاب، كانت هاتان هما الكلمتان اللتان استخدمهما أفيغدور ليبرمان لوصف سلوك الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وتبرير استقالته من منصبه وزيراً للدفاع، احتجاجاً على نتيجة المواجهة الأخيرة بين نتنياهو وحماس.
استقالة ليبرمان مُتعلِّقة في الأساس باعتباراتٍ سياسية. فمع اقتراب الانتخابات يريد الرجل أن يُنظَر إليه باعتباره شخصاً لم يستسلم لحماس.
ويدرك ليبرمان، وهو سياسي مخضرم، أنَّ تصوير نتنياهو باعتباره جباناً يمكن استغلاله لأهدافه الخاصة.
ولكن هذا لايمنع أن هناك حيرة في إسرائيل وخارجها أحياناً، إزاء العلاقة بين نتنياهو وحماس، ولماذا يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي دوماً ضعيفاً أمام الحركة الإسلامية، الأمر الذي منحها انتصاراً سهلاً في الجولة الأخيرة للصراع.
الكاتب الإسرائيلي ميرون رابوبورت حاول في مقال نشره في موقع Middle East Eye البريطاني، رصد طبيعة موازين القوى بين نتنياهو وحماس، وأهداف كل منهما من التهدئة، كما أجاب عن السؤال الذي يثيره البعض هل حماس صنيعة إسرائيل؟
يبدو أن هناك قطاعاً من الإسرائيليين يعتقدون أن نتنياهو جبان
وليبرمان ليس الوحيد الذي اعترض.
إذ تجمَّع مئات المتظاهرين في بلدة سديروت، أول من أمس الثلاثاء 13 نوفمبر/تشرين الثاني، عند مدخل البلدة، فأحرقوا الإطارات وهتفوا: "ارحل بيبي".
وبدا أنَّهم قبلوا تصوير نتنياهو على أنَّه قائد جبان.
وبالمثل، أكَّد وزير التعليم نفتالي بينيت أنَّه لا يستحسن قرار الحكومة قبول وقفٍ لإطلاق النار في غزة.
وهذا ليس بالأمر الجديد. فمنذ الهجوم الإسرائيلي على غزة في عام 2014، يحاول بينيت تصوير نتنياهو باعتباره رئيس وزراء متردداً يفتقر إلى الشجاعة لـ"فعل الشيء الصحيح"، أي تدمير حماس.
فعندما كان في المعارضة تعهَّد بتدمير حماس
لكن ليس اليمين السياسي الإسرائيلي فقط هو مَن صوَّر نتنياهو قائداً ضعيفاً.
فحتى هذا الاتهام يوجه له من قبل الأحزاب التي تصنف أنها أقل تطرفاً.
إذ تنافس يائير لبيد رئيس حزب هناك مستقبل، وآفي غاباي رئيس حزب العمل، وآخرون لانتقاد "جُبن" نتنياهو في مواجهة حماس. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك رداً على قرار وقف إطلاق النار: "نتنياهو مُفلِس واستسلم لحماس تحت تهديد نيرانها".
وينتشر في إسرائيل مقطع الفيديو الذي يظهر فيه نتنياهو عندما كان زعيماً للمعارضة في عام 2009 وهو يتعهَّد بـ"تدمير نظام حماس"، مُحتجَّين بهذا المقطع كدليلٍ إضافي على الفجوة بين تصريحاته المُولَعة بالحرب وشخصيته المترددة الجبانة.
وآخرون يرونه أنه رجل سلام
سلَّط الكاتب جدعون ليفي الضوء على الجانب الإيجابي لنتنياهو، واصفاً إيَّاه بأنَّه "رجل سلام" في مقالٍ نُشِر مؤخراً بصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
كُتِب هذا المقال قبل بضعة أيام من بدء الجولة الحالية من العنف، لكنَّني سأفترض أنَّ وقف إطلاق النار الذي جرى تبنِّيه سريعاً مع حماس لم يسهم إلا في تعزيز حجج ليفي الرئيسية بشأن رئيس الوزراء الإسرائيلي رجل سلام.
إذ يُذكِّرنا ليفي، ولهذا ما يُبرِّره، بأنَّ نتنياهو خلال سنوات حكمه الاثنتي عشرة –بما في ذلك فترته السابقة رئيساً للوزراء بين عامي 1996 و1999- لم يشن إلا حرباً واحدة، مقارنةً بالحربين اللتين شنهما إيهود أولمرت في سنواته الثلاث التي قضاها رئيساً للوزراء.
وأشار ليفي إلى أنَّ نتنياهو "واحدٌ من أكثر رؤساء الوزراء الإسرائيلييين الذين شهدناهم سلميةً على الإطلاق".
غير أن من الأرجح أن نتنياهو ليس جباناً ولا هو رجل سلام، بل له مآرب أخرى
لكنَّ انتقاد جُبن نتنياهو من ناحية، والثناء عليه بسبب اعتداله من الناحية الأخرى، يُغفلان النقطة الرئيسية التي تُفسِّر سلوكه.
فنتنياهو شخصٌ مُؤدلَج مؤمن بـ"أرض إسرائيل"، حسب الكاتب الإسرائيلي.
فمنذ اللحظة التي تولى فيها نتنياهو الحكم عام 1996، وبالتحديد منذ عودته إلى السلطة في عام 2009، كان عازماً على منع تأسيس دولة فلسطينية مستقلة بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
فهو يتطلع إلى القيام بما يعتبره مهمة تاريخية
يعتبر نتنياهو هذا الأمر مهمةً تاريخية، تسلَّمها من والده، الذي بدوره تلقاها من الزعيم الصهيوني الراحل زئيف جابوتنسكي.
ففي "أرض إسرائيل"، تكون السيادة اليهودية هي السيادة الوحيدة الممكنة، وتُقصي أي سيادة أخرى. ومنع حكم أي سيادة أجنبية في "أرض إسرائيل" أمر ضروري لوجود الشعب اليهودي، ولكل الحضارة الغربية بصورةٍ غير مباشرة، حسبما يؤمن نتنياهو.
وقانون الدولة القومية هو أحد مظاهر هذه العملية الأيديولوجية.
ولكنه شخص واقعي ويعلم أن تحقيق هذه الأحلام يتطلب وقتاً
غير أنَّ نتنياهو ليس مُتعصِّباً. إنَّه يُقِرُّ بالواقع، فهو يعي أنَّ المجتمع الدولي لن يقبل إلغاء إسرائيل اتفاق أوسلو إلى جانب تفكيك السلطة الفلسطينية وضم الضفة الغربية إليها.
وحتى تحت حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي فعل الكثير لتشجيع هذا المشروع أكثر من أي رئيس أميركي سابق، يُعَد اعتراف المجتمع الدولي بعملية تقود إلى تدمير السيادة الفلسطينية أمراً أقرب إلى المستحيل.
ومن ثَمَّ، فما يتعين على نتنياهو فعله هو كسب الوقت.
من ناحيةٍ كي يدلف إلى عملية سياسية تخلق حالة جمود عميقة.
ومن الناحية الأخرى لمواصلة مشروع الاستيطان وخلق حقائق واقعية على الأرض في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
حتى يتسنى له ابتلاع الأراضي الفلسطينية بهدوء
ومن خلال عمليات ابتلاع الأراضي الفلسطينية هذه يأمل نتنياهو ألا يكون هناك بعد 10 أو 20 أو 30 عاماً خيارٌ آخر بخلاف دولة إسرائيلية ذات حكم وحيد وحصري على يعتبره نتنياهو "أرض إسرائيل" التاريخية.
وللاستمرار في عملية الضم البطيئة الآمنة هذه، يحتاج نتنياهو إلى الهدوء.
فالضم الصريح يُحدِث جَلَبَة، ولذا يعارضه نتنياهو، حتى لو كان الثمن هو الهجمات السامة من جانب بينيت والقيادات داخل حزب الليكود نفسه الذي يتزعمه.
في حين أن الحرب تُحدِث جَلَبَة، لذا يعمل نتنياهو على التقليل من الحروب، حتى لو كان ذلك يعني أنَّ رقيباً في قوات الاحتياط مثل ليبرمان يعتبره جباناً.
ولهذا السبب يبدو أحياناً جباناً أمام حماس
لا بد من النظر إلى موقف نتنياهو تجاه حماس في هذا السياق.
فدائماً تقريباً ما يتراجع نتنياهو عن حرب تدمير شاملة ضد حكم حماس في غزة، لكن ليس لأنَّه يجفل من احتمالات العنف أو استعراض القوة. بل على العكس، ففي نظره، استعراض القوة أهم من المبادئ.
إذ قال نتنياهو قبل بضعة أيام فقط أثناء اجتماع لحزب الليكود: "الدول الأخرى تحترم المبادئ إلى حدٍّ معين، لكنَّها تحترم القوة أكثر بكثير".
لكنَّ نتنياهو لا يرغب في جَلَبَة. فموت الجنود في غزة جَلَبة، وموت آلاف المدنيين الفلسطينيين جَلَبَة، واحتلال قطاع غزة زلزالٌ من شأنه لَفت أنظار العالم إلى الوضع الفلسطيني وإلى الاحتلال وإلى حقيقة أنَّ المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين متجمدة.
وهذا آخر ما يرغب فيه نتنياهو.
وهو على استعداد لعمل أي شيء لكي يستمر الخلاف بين الفلسطينيين
لكنْ هناك أمرٌ آخر هنا، أمرٌ أعمق.
فنتنياهو "ورث" الخلاف بين حركتي حماس وفتح، بين الضفة الغربية وغزة، حين تولَّى منصب رئيس الوزراء مرةً أخرى في عام 2009.
وفي نظره، يُمثِّل هذا الخلاف مورداً سياسياً كبيراً.
فمنذ مطلع التسعينيات، تتطلع إسرائيل إلى فصل غزة عن الضفة الغربية عن طريق حجب تصريحات الخروج وفرض عمليات الإغلاق، ثُمَّ عن طريق حصارها على قطاع غزة.
كانت الفكرة هي أنَّه ما دام الجزآن المُكوِّنان للجسد السياسي الفلسطيني منفصلين عن بعضهما البعض، ستتقلَّص قدرة منظمة التحرير الفلسطينية، والفلسطينيين في العموم، على المطالبة بإقامة دولة فلسطينية.
وحقيقة أنَّه يوجد اليوم حكومتان منفصلتان تعملان في غزة والضفة الغربية هي منجم ذهب سياسي لأي شخص يرغب في إحباط أي عملية من شأنها أن تقود إلى دولة فلسطينية مستقلة.
ونتنياهو، كما رأينا، هو بالضبط ذلك الشخص.
ولهذا السبب فهو يسمح بالحفاظ على حكم حماس بغزة بل يسعى لتأهيل القطاع
من ثَمَّ، فإنَّ الحفاظ على حكم حماس في غزة، من وجهة نظر نتنياهو، هو مورد استراتيجي من الدرجة الأولى.
وفي رأيه، فأي عملية يُرجَّح أن تقود إلى إقامة دولة مستقلة في غزة، منفصلة عن الضفة الغربية، هي نعمة.
فإذا أصبحت غزة هي "إمارة" نفسها، كما يحب المنتمون إلى اليمين أن يقولوا، فستكون تلك ضربة قاضية لشرعية الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أو أي وريث آخر للحكم، بأنَّه يُمثِّل الشعب الفلسطيني في المفاوضات الرامية إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
حتى أنه سمح بدخول ملايين الدولارات للحركة
ويُفسِّر هذا التفكير اهتمام نتنياهو المفاجئ بـ"إعادة تأهيل" غزة، ويشير كذلك إلى سبب موافقته على دخول حقائب مليئة بـ15 مليون دولار أرسلتها قطر، مُخصَّصة حصراً لدفع رواتب موظفي حماس في غزة، أمام الكاميرات.
ويُفسِّر كذلك السبب الذي دفع نتنياهو مجدداً إلى التراجع عن احتلال غزة.
فخطوة احتلال غزة عسكرية ستُكلِّف مئات الإسرائيليين أرواحهم، وكذلك آلاف، وربما عشرات آلاف، الفلسطينيين وستصبح كارثة إعلامية عالمية.
ولكن بالإضافة لهذه الخسائر الفادحة. فبعد إسقاط حماس ستجد إسرائيل نفسها في نهاية المطاف تُسلِّم غزة لعباس والسلطة الفلسطينية، ومن ثَمَّ، تُعزِّز وضعهما السياسي في العالم. وهذا بالضبط ما يحاول نتنياهو تجنُّبه.
حقيقة العلاقة بين نتنياهو وحماس.. هل الحركة صنيعة إسرائيل حقاً؟
لكن هذا لا يعني أنَّ حماس صنيعة نتنياهو أو إسرائيل مثلما اعتاد أعضاء فتح القول في كل محادثة خاصة وأحياناً عامة.
فحماس شوكةٌ في حلق إسرائيل، حسب الكاتب الإسرائيلي.
وبرهنت حماس مجدداً في آخر جولة من جولات العنف أنَّ بإمكانها شلَّ الحياة اليومية في مناطق واسعة من إسرائيل بسهولةٍ كبيرة.
والنتيجة.. قدرات الحركة عسكرياً تتزايد ومستواها لم يعد بعيداً عن حزب الله
والانطباع الذي يتركه ذلك هو أنَّ القدرات العسكرية للحركة لا تشهد شيئاً سوى التحسُّن، وأنَّها ستكون أخطر في المستقبل، ربما ليس بخطورة حزب الله، لكن ليس بمستوى بعيد كثيراً عن هذا المستوى.
بيد أنَّ نتنياهو في مأزق. فما دامت حماس تحكم غزة، فلن يكون نتنياهو قادراً على تحقيق إحساس بالأمن لدى مئات الآلاف من الإسرائيليين خاصة في المناطق الجنوبية.
ومع ذلك، ولأنَّه يلقى معارضةً من حيث المبدأ لأي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، فلا يوجد سبيل أمام نتنياهو لعقد اتفاقٍ طويل الأمد من شأنه تهدئة الوضع مع السلطة الفلسطينية.
ومن ثَمَّ، لا خيار لديه إلا القبول بتفاهم مع حماس.
إذ يبدو أن حماس تستغل معضلة نتنياهو جيداً
تعي حماس معضلة نتنياهو جيداً.
إذ تعرف الحركة الفلسطينية أنَّ نتنياهو يعلم أنَّه لن يحاول محوها (حتى لا يجد نفسه يحكم غزة).
وهذا نقطة أساسية لفهم العلاقة بين نتنياهو وحماس.
ولذا، فبإمكان حماس أن تطلق مئات الصواريخ على إسرائيل في ظل الظروف الحالية، وهي تعرف أنَّ نتنياهو في النهاية سيوافق على وقفٍ لإطلاق النار فور أن تطرح عليه الحركة ذلك عبر الوسيط المصري.
استغلت حماس هذه المعضلة لتحقيق نصرٍ سياسي واضح في الجولة الأخيرة من العنف، وقد كشفت ضعف نتنياهو في أثناء قيامها بذلك.
قد يكون نتنياهو واعياً بهذه المعضلة، لكن بالنظر إلى ما يعتبره مهمة تاريخية لمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فإنَّه مستعدٌ لدفع الثمن السياسي مقابل ما قد يراه الجمهور خوفاً أو جُبناً. لكنَّ الثمن السياسي هذه المرة كان باهظاً جداً.
ومن المنطقي افتراض أنَّ استقالة ليبرمان ستؤدي إلى انتخاباتٍ جديدة وتضع نهايةً لولاية نتنياهو الرابعة، التي كانت تبدو مستقرة حتى وقتٍ قريب.