قالت صحيفة The Wall Street Journal الأميركية إن دبي تكافح كساداً مالياً كبيراً، يستهدف الطبقة التي تعمل في المهن الإدارية أو ما يُعرف بـ"كساد ذوي الياقات البيضاء"، ما يقوض ذوق الرفاهية والترف في المدينة، ويشكل اختباراً أمام نموذج اقتصادي ترغب بلاد الشرق الأوسط الأخرى في تكراره.
وسجلت دبي أكبر خسارة لها في الوظائف منذ الأزمة المالية العالمية التي وقعت قبل عقد من الزمان، لا سيما بين الوظائف مرتفعة الأجر، التي ساعدت في تحويل بقعة صحراوية إلى مدينة تضم ناطحات السحاب اللامعة و3 ملايين نسمة خلال عقود قليلة وحسب. يعكس ذلك الانكماشُ الضغوطَ التي تتعرض لها الأركان التي يتأسس عليها اقتصاد دبي: العقارات، والخدمات المالية، والسياحة، وميناؤها الهائل.
وبحسب الصحيفة الأميركية، يهدد هذا التحول قدرة دبي على البقاء، وهي التي طالما نُظر إليها على أنها أكثر مناطق الخليج استيعاباً لمجموعة عالمية من المصرفيين، والمحامين، ورواد الأعمال، كي يعيشوا ويعملوا فيها.
عوامل تسببت في الأزمة
ويلقي خبراء الاقتصاد باللوم على مجموعة من العوامل التي تقف وراء انتكاسة دبي. بادئ ذي بدء، تواجه المدينة منافسة متصاعدة من العاصمة السعودية الرياض، التي تسمح تدريجياً بمزيد من الحرية على النمط الغربي؛ إضافة إلى العاصمة القطرية الدوحة، التي بذلت هي الأخرى محاولات جديدة لجذب المستثمرين الأجانب منذ أن فرض عليها جيرانها الحصار. ونتيجةً للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، وزيادة حدة التوتر بين السعودية والدول المجاورة، وضمنها قطر وإيران؛ فقد تسببت هذه العوامل في جعل هؤلاء الشركاء التجاريين الرئيسيين لدبي خارج نطاق الاستفادة المشتركة بينها وبينهم.
وقال جيم كراين، وهو باحث بمعهد بيكر التابع لجامعة رايس الأميركية ويدرس الأعمال في الشرق الأوسط، وكتب كتاباً عن دبي: "يعتمد نموذج الأعمال في دبي على التسامح والحياد السياسي. ولسوء الحظ، هذان الأمران ينقصان في الوقت الحالي".
وشرعت حكومة دبي في اتخاذ تدابير من أجل إعادة الموظفين الأجانب ذوي الأجور العالية إلى دبي، وضمن ذلك تسهيل قواعد منح التأشيرات، ما يسمح للأشخاص بالتقاعد هنا، وتخفيف القيود على الملكيات والشركات الأجنبية، وتخفيف القيود المفروضة على احتساء الكحوليات في شهر رمضان.
يعتبر أغلب السكان الجدد والعمال في المدينة من عمال البناء ذوي الأجور المنخفضة نسبياً، القادمين من جنوبي آسيا، والذين جذبتهم الطفرة التي شهدها مجال البناء والمدفوعة بالإنفاق الحكومي، وذلك قبل معرض إكسبو الدولي 2020، وهو معرض دولي للتجارة والابتكار والمنتجات، من المقرر إقامته عام 2020 ويستمر 6 أشهر.
وظائف لكن دون جدوى!
وبحسب الصحيفة الأميركية في العام الماضي (2017)، حصلت الإمارات العربية المتحدة على أكثر من 63 ألف وظيفة بأعمال البناء، وفي الوقت ذاته خسرت أكثر من 20 ألف وظيفة إدارية -أو ما يطلَق عليها وظائف ذوي الياقات البيضاء- في قطاعات مثل الخدمات والاتصالات، حسبما أفاد مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي. وكانت أغلب وظائف ذوي الياقات البيضاء هذه متمركزة في دبي.
يأتي ضمن الجهات التي سرحت موظفين في الأشهر الـ12 الماضية بدبي: شركة طيران الإمارات التي تمتلكها الدولة، ومجموعة أبراج الاستثمارية المتعثرة، ومصرف دويتشه بنك، وشبكة المحطات التلفزيونية المدفوعة أوربت شوتايم (OSN)، وشركة العلاقات العامة Edelman، ومصارف محلية. تستبدل الشركات والهيئات الحكومية الأخرى الموظفين الإماراتيين بالأجانب ضمن برنامج يسمى "الأمرتة"، يهدف إلى زيادة فرص العمل بين المواطنين الإماراتيين.
وقال جان بول بيغات، رئيس الأبحاث بمركز Lighthouse Research للبحوث، وهي شركة بحوث اقتصادية متخصصة في الشرق الأوسط ومستقرة بالإمارات: "إنه كساد ذوي الياقات البيضاء. لا يزال الاقتصاد الكلي يتوسع، لكن كثيراً من الناس في المجالات الأكثر توجهاً نحو الخدمات المهنية يشعرون بأن البيئة الاقتصادية كانت ضعيفة".
يقول بعض مالكي الشركات هنا، إن دبي تعاني الآثار الضارة لواحدٍ من منتجاتها المميزة: الفائض. شيَّدت دبي مطاعم ومراكز تسوق وعقارات راقية أكثر بكثير من حجم الطلب.
وقال نعيم معداد، الرئيس التنفيذي المؤسِّس لمجموعة Gates Hospitality، التي تملك وتدير مطاعم ومشروعات ضيافة في الإمارات ولندن: "كل شيء هنا يجب أن يكون الأطول، والأثمن، والأكثر جاذبية وإبهاراً، لكن لا يمكننا دائماً أن نرغب في الثمين؛ فالمجتمع يتغير".
أزمة مالية جديدة في دبي
يعتقد قليلون أن دبي تتجه نحو أزمة أخرى مثل الكساد المشهود في 2009، عندما أنقذتها أبوظبي عن طريق حزمة إنقاذ تبلغ قيمتها 20 مليار دولار. وفي النهاية، يُتوقع أن يحقق اقتصاد دبي نمواً طفيفاً بنسبة 3.3% هذا العام (2018).
تقول السعودية، صاحبة أكبر اقتصاد في الخليج، إنها لا تزال تنظر إلى دبي باعتبارها نموذجاً لمستقبلها ما بعد النفط. امتدح ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، حاكمَ دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، خلال مؤتمر اقتصادي عُقد في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
قال ولي العهد: "لقد قدّم نموذجاً في دبي، وأقنعنا جميعاً في الشرق الأوسط بأننا لسنا قادرين وحسب على أن نقدم دبي (إلى العالم)، بل وأكثر بكثير من ذلك".
لكن العلامات تشير إلى مشكلات طويلة المدى أمام النموذج الاقتصادي غير النفطي، الذي خلق أكثر مدينة متعددة الثقافات في الشرق الأوسط.
وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن سوق الأوراق المالية في دبي صاحب أسوأ أداء بالشرق الأوسط. والسياحة، التي تعد شريان الحياة للمدينة، تأخذ في التباطؤ. وأُغلقت مجموعة كبيرة من المطاعم الراقية.
وقالت شركة موانئ دبي، وهي الذراع التشغيلي لموانئ دبي، إن مستويات النصف الأول من العام لعملياتها المحلية شهدت ركوداً. وأفادت مؤخراً، بوجود انخفاض في مستويات الربع الثالث من العام.
أُلغي مهرجان دبي السينمائي هذا العام (2018)، وسوف يُعقد الآن مرة كل عامين، إذ إن منافساته الرئيسة جرى دمجها مع نظيره في أبوظبي. بلغت اشتراكات الجوال بشركة الاتصالات الرئيسة في دبي "دو"، أقل مستوى لها في 3 سنوات.
وفي مدينة تحتوي على عقارات شديدة الفخامة، من ضمنها أطول مبنى في العالم، وهو برج خليفة، انخفضت أسعار العقارات بأكثر من 15% منذ 2015، حسبما أوضح المصرف المركزي. ففي الأشهر التسعة الأولى من هذا العام (2018)، انخفض مستوى مبيعات العقارات بنسبة 20% مقارنة بالعام الماضي (2017).
في حديثه عن سوق العقارات، قال حسين سجواني، مؤسس ورئيس شركة داماك العقارية: "سوف يستغرق سنوات حتى يستعيد عافيته".
قال كراين إن أحد المديرين التنفيذيين في مجال العقارات أخبره بأنه خلال أعوام الطفرة التي شهدتها دبي، كان البناء سريعاً جداً، لوجود الطلب عليه، ولم يكن هناك حاجة للانتظار.
وأضاف كراين: "بدا أن الصفوة في مدينة دبي كانوا على درايةٍ بأن سطوع شمس المدينة كان لحظة عابرة. وإدراكاً لما حدث، كان هؤلاء محقين".