وضعت العملية المثيرة للمشكلات التي نفَّذتها القوات الإسرئيلية الخاصة في عمق قطاع غزة، مساء أول أمس الأحد 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، كلاً من إسرائيل وحماس على شفا الحرب مجدداً.
وقالت صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن ردَّ حماس العنيف والواسع على العملية الإسرائيلية كان مفاجئاً، ويُناقِض الإشارات التي بعثت بها قيادة حماس بشأن وجود رغبة استراتيجية في التهدئة.
وفي المواجهة التي وقعت بين الوحدة الإسرائيلية ومسلحي حماس شرق مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، قُتِل ضابطٌ أساسي وأُصيب ضابط احتياط. في حين قُتِل 7 فلسطينيين.
وجاء ردُّ حماس بعد ظهر أمس الاثنين 12 نوفمبر/تشرين الثاني في صورة وابل ضخم من الصواريخ على النقب وإطلاق نيران مضادة للدبابات على حافلة إسرائيلية تسبَّب في إصابة إسرائيليٍّ واحد بجراح خطيرة. وقُتِل رجلٌ في مدينة عسقلان بعد إصابة أحد المباني بصاروخ.
وردَّت إسرائيل بهجوم جوي واسع على أهداف تابعة لحركتي حماس والجهاد. ومع ذلك، حاولت مصر وأطراف أخرى في المجتمع الدولي الوساطة بين الجانبين لتجنُّب نشوب حرب.
توقيت العملية يطرح تساؤلات كبيرة
والسؤال الفوري الذي طرحته عملية القوات الخاصة يوم الأحد هو: توقيت هذه العملية، لماذا وقعت العملية وسط مساعٍ كبيرة للتوصُّل إلى وقفٍ طويل الأمد لإطلاق النار في قطاع غزة؟ كما جاءت في وقت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمرٍ دبلوماسي مُهم بفرنسا، وبعد ساعات قليلة فقط من تفسيره سبب اعتقاده أنَّه يجب بذل كل الجهود للتوصل إلى اتفاقٍ في القطاع لتجنُّب الحرب.
ادَّعت التقارير الفلسطينية الأولية أنَّ العملية الإسرائيلية كانت محاولة لاغيتال عضو كبير بالجناح العسكري لحماس أو اختطافه، أما الرد الإسرائيلي الرسمي تأخر لساعات عدة.
لكنَّ الصورة بدأت في الاتضاح أكثر تدريجياً صباح أمس: فالحادث لم يكن عملية تصفية، بل عملية للقوات الخاصة.
وتقول الصحيفة الإسرائيلية إن هناك شكوكاً حول ما إن كان قتل قائد عسكري لحماس يمكن أن يُبرِّر العودة لسياسة الاغتيالات، وتضيف: "إن كان ذلك هو ما أرادته إسرائيل، فهناك طرق كثيرة لفعله دون وضع قوة برية في حالة خطر في قلب قطاع غزة".
وترى "هآريتس" أنَّ نتنياهو استثمر الكثير للغاية في مساعي التوصل إلى اتفاقٍ مع حماس بدرجة تمنعه من الموافقة على عمليةٍ كهذه، حيث إن الجيش الإسرائيلي لا يُقدِّم تفاصيل كثيرة، لكن يبدو أنَّ العملية كانت مناورة لجمع المعلومات الاستخباراتية، وربما تكون مرتبطة بالبنية التحتية العسكرية لحماس (شبكة الأنفاق أو نظام تطوير أسحلة الحركة).
واستغلت إسرائيل في السنوات الأخيرة الفوضى في العالم العربي لتنفيذ الكثير من العمليات الشبيهة عبر الحدود. وتظِّل الغالبية العظمى من تلك المناورات سرية.
وقد مثَّل اكتشاف المقاتلين الإسرائيليين مشكلةً تشغيلية ستتطلَّب تحقيقاً مُعمَّقاً داخل الجيش، بحسب "هآرتس"، وتساءلت الصحيفة: "هل كانت هناك مشكلة تتعلَّق بسلوك القوة، أو في التجهيزات للعملية، تسبَّبت في كشف هُوية المقاتلين (الإسرائيليين) لحماس، حتى بالرغم مما تفيد به التقارير من أنَّهم كانوا مُتنكِّرين في ملابس كالعرب؟".
وترى الصحيفة أنه من الواضح أنَّ العملية كانت بحاجة إلى قدر كبير من الدهاء وبرود الأعصاب لإخراج القوة من موقعٍ يقع 3 كيلومترات داخل أرض مكتظة بالمباني.
كيف تم كشف أمر القوة؟
وتشير المعلومات المتعلقة بالعملية التي تمكَّنت صحيفة Haaretz من الحصول عليها إلى أنَّ قوة أمنية تابعة لحماس في قرية عبسان، وهي منطقة زراعية على الضواحي الشرقية لمدينة خان يونس، كشفت هُوية المقاتلين الإسرائيليين.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد رونين مانيلس إنَّ القوة الإسرائيلية كانت وسط "نشاطٍ مُطوَّل".
وقُتِل قائد وحدة القوات الخاصة، الذي لم يُعرَّف إلا أنَّه الضابط "م" برتبة لفتنانت كولونيل (مُقدِّم)، في تبادل إطلاق النار الأوليّ. وتعرَّض القائد التالي له في سلسلة قيادة الوحدة، وهو نقيب في قوات الاحتياط، لإصابات بالرصاص، لكنَّه تمكَّن من قيادة باقي المقاتلين إلى الخروج حتى التقوا قوات الإنقاذ.
وردَّت القوات الإسرائيلية بإطلاق كثيف للنيران، فأصابت عدداً من مقاتلي حماس. وانسحبت القوات تحت غطاءٍ جوي، هاجم بدوره الكثير من الأهداف في المنطقة. وادَّعت القوات الفلسطينية أنَّ الجنود غادروا غزة على متن مروحية، وأنَّ الجيش الإسرائيلي قصف المركبات التي تركها الجنود وراءهم. وظهرت صور ومقاطع فيديو من قطاع غزة لاثنتين من المركبات المحترقة.
وأُصيب الضابط الجريح برصاصة اخترقت أسفل ظهره وأصابت منطقة أصل الفخذ بالقرب من أحد الشرايين الرئيسية، وكان من الصعب تضميد جراحه في ميدان القتال وفَقَد الكثير من الدماء، لكنَّ الإجلاء السريع ساهم في إنقاذه، ونُقِل إلى مركز سوروكا الطبي في بئر السبع، وهناك خضع لجراحة. تحسَّنت حالته وباتت متوسطة. وكان واعياً وقادراً على الحديث مع أفراد عائلته.
الجيش الإسرائيلي تنفس الصعداء بنهاية العملية
وترى الصحيفة الإسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي تنفَّس الصعداء بنهاية أمسية الأحد لسببين: حقيقة أنَّ حياة الرجل الجريح أُنقِذت، وعدم وقوع المزيد من الضحايا.
وقالت الصحيفة: "كان من شأن فوضى أكبر، مع وقوع الكثير من الضحايا أو حدوث عملية اختطاف، أن تُعَد حدثاً استراتيجياً سيؤدي إلى تصعيدٍ كبير".
يُذكَر أنَّ إسرائيل جُرَّت بالفعل إلى موقفٍ كهذا في الماضي، حين اختُطِف الجندي جلعاد شاليط بعد مرور شهرٍ واحد من صيف عام 2006، ثُمَّ اختُطِف جنود احتياط في شمال إسرائيل، الأمر الذي قاد إلى حرب لبنان الثانية. وكان من شأن اختطاف مقاتل في وحدة من وحدات النخبة أن يُفاقم التبعات، وذلك بالنظر إلى المخاطر الاستخباراتية التي تنطوي عليها المسألة.
وتنقل الصحيفة عن مصادر أمنية قولها إنَّ إنقاذ القوات كانت "تقشعر له الأبدان"، وتعلق "هآرتس" على ذلك بالقول: "الأمر الذي لا يقل إدهاشاً هو هُويتا الضابطين القتيل والجريح، اللتين على غير العادة ما زالتا مُصنَّفتين ضمن المعلومات السرية من جانب الرقابة. وحين يجمع المرء تفاصيل الحادث مع الخلفيات الشخصية للضابطين، يحصل على سيناريو قد يرفضه حتى مسؤولو المسلسلات التلفزيونية باعتباره مُبالِغٌ فيه وغير واقعي أكثر من اللازم".
جدال وصدام داخلي إسرائيلي بشأن العملية
وكما هو معتاد في هذه الفترات، أدَّت الحادثة إلى جدالات سياسية كريهة عدوانية على الشبكات الاجتماعية. إذ تصادم الساسة والصحافيون وروَّاد تويتر العاديون مع بعضهم البعض، فتبادلوا الاتهامات بخصوص مسؤولية الحكومة عن العملية الفاشلة، وخيانة المعارضة، والطريقة التي يُلقي بها الحادث الضوء على الجدل بشأن صياغات ما يُسمَّى بقانون الدولة القومية. وعلَّقت ميخال كاستن كيدار، التي قُتِل زوجها اللفتنانت كولونيل دوليف كيدار في عملية "الجرف الصامد" في قطاع غزة عام 2014، وهي مُحِقة في ذلك، قائلةً إنَّ موت اللفتنانت كولونيل "م" هو أمرٌ يخص أسرته، لا الساسة.
وانتقد رئيس الوزراء السابق إيهود باراك غياب نتنياهو عن البلاد خلال عمليةٍ حساسة كتلك. لكن كما يعلم باراك جيداً، وهو الذي أدان مئات العمليات المماثلة، فإنَّ نتنياهو جزءٌ من دورة الموافقات الأولية المطلوبة لشن العمليات، لكنَّه لا يمكنه أن يكون حبيساً داخل إسرائيل في كل مرة تحدث فيها عملية خاصة.
لكنَّ ترى "هآرتس" أن هذا لا يُعفي نتنياهو من مسألة أخرى: قلة الاحترام التي أظهرها لمنصب رئيس الوزراء بالإنابة بعد تعيينه وزيرة الثقافة والرياضة ميري ريغيف لتحل محله في أثناء وجوده بالخارج.
هناك خيطٌ مباشر بين اختيار المُتملِّقة رقم واحد له في هذا المنصب المرموق المؤقت وإرسال المُتملِّق رقم اثنين ممثلاً للحكومة إلى جنازة اللفتنانت كولونيل "م" شمال البلاد. فوجود وزير الاتصالات أيوب قرا جعل دم الكثير من المُشيِّعين يغلي. وكان أمراً جيداً أن جاء وزير التعليم نفتالي بينيت أيضاً لتأبين الضابط.
انتقادات لإخفاء اسم الضابط القتيل
في غضون ذلك، اندلع خلافٌ آخر بشأن إصرار الرقابة على إبقاء هُويتي الضابطين القتيل والجريح سرية. فالجيش الإسرائيلي لم يفعل أمراً مماثلاً إلَّا بشأن نشر صورة الضابط اللفتنانت كولونيل إيمانويل مورينو في قوة العمليات الخاصة "سييرت متكال" التي تُعَد من بين قوات النخبة، والذي قُتِل في عمليةٍ في لبنان بعد أسبوع من نهاية حرب لبنان الثانية.
وترى "هآرتس" أن الحظر المُشدَّد كان غير مهم، ويُشبِه إغلاق باب الحظيرة بعد فترة طويلة من فرار الخيول، فاسم الضابط الراحل وصورته ومعلوماته الشخصية نُشِرَت بالفعل على الشبكات الاجتماعية، حتى في قطاع غزة.
ونُشِرَت كذلك تفاصيل عن ضابط الاحتياط الجريح، ما ولَّد مشاعر مفهومة. وكان واضحاً بحلول الصباح الباكر من يوم أمس أنَّ مساعي حماية هذه المعلومات قد باءت بالفشل. وكان من الأفضل للمؤسسة العسكرية أن تُركِّز على الحفاظ على سرية الأمور المهمة حقاً وما يمكن فعلاً إبقاؤه بمنأى عن الجمهور الإسرائيلي، خصوصاً حين تكون المعلومات بحوزة العدو بالفعل.
من جانبها ذكرت صحيفة The New York Times الأميركية أنَّ القتال الدائر بين حماس وإسرائيل يُهدِّد بإحباط أشهر من المباحثات متعددة الأطراف ترمي لتهدئة الأوضاع على الحدود بين إسرائيل وغزة، حيث قُوبِل المحتجون منذ مارس/آذار الماضي بردٍّ إسرائيلي مميت. فقُتِل نحو 170 فلسطينياً وأُصيب آلاف آخرون.
وأدَّت المباحثات، التي تتوسّط فيها مصر بالفعل إلى خطواتٍ ملموسة لتهدئة التوترات في غزة، بما في ذلك زيادة الطاقة الكهربية وتدفق ملايين الدولارات من المساعدات.
لماذا نفذت إسرائيل العملية في وقت بدأت الأوضاع تهدأ؟
لذا تساءل بعض الإسرائيليين، أمس، لماذا قد تُقدِم الحكومة الإسرائيلية، وهي تحت الضغط لتخفيف التوترات في غزة وبينما تُظهِر المباحثات إحراز تقدُّم، على المخاطرة بكل هذا بسبب ما وصفه مسؤولون بأنَّها مهمة استطلاع روتينية تماماً؟
يقول محللون إنَّ الإجابة ربما تتمثَّل في أنَّ المهمة كانت روتينية جداً. فلم يتوقع أحدٌ أن تنكشف فرقة القوات الخاصة الإسرائيلية.
إذ قال غيورا آيلاند، وهو لواء متقاعد ومستشار سابق للأمن القومي: "الفرضية الحقيقية هي أنَّ العملية لن تنكشف. هذا ليس بنسبة 100%، لكن يمكن تقدير أنَّ 99% من تلك العمليات لا تنكشف، ونسبة 99% هي نسبة جيدة بما فيه الكفاية لاتخاذ قرار يقوم على افتراض أنَّ القوة ستدخل، وتُنفِّذ، وتخرج دون اكتشافها".
ووفقاً لمسؤول إسرائيلي سابق على اطلاع بالعملية، كان هدف المهمة المراقبة وليس الاغتيال. ويُخطَّط لمثل هذه العمليات، التي عادةً ما تهدف إلى زرع معدات مراقبة، على نطاقٍ واسع وتُعَد ذات درجة مخاطرة قليلة في ما يتعلَّق بالانكشاف والمواجهة.
لكنَّ آيلاند أضاف أنَّ تلك العلميات تكون محفوفة بالمخاطر لدرجة أنَّه يتعين على رئيس الوزراء الموافقة عليها شخصياً.
ولم يشرح المسؤولون الإسرائيليون علناً المهمة أو طبيعة الخطأ الذي وقع خلالها، وفقاً للصحيفة الإسرائيلية.