"إلى أي مكان آخر يُفتَرَض بنا أن نذهب؟ بهذه الكلمات عبر لاجئ سوري عن مأساة ملايين السوريين الذين أصبحوا بلا وطن بينما يرصد الباحثون كيف يغير الأسد تركيبة سوريا السكانية عبر محاولة التلاعب بعملية عودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
جاستن روي الباحث في التاريخ وزميل منظمة "أميركيون من أجل سوريا حرة" وعامل في المجال الإغاثي يروي في مقال نشر في مجلة The National Interest الأميركية، التجربة المريرة لللاجئين السوريين، وكيف بعد أن أصبحوا ضحايا للحرب قد يقعون ضحايا تسوية غير عادلة وعبر خدعة عملية إعادة الإعمار.
من قصف النظام إلى جحيم داعش
في أحد الأيام على إحدى الجزر اليونانية، التقيتُ بأسرة فتَّحت عينيّ على المعضلة التي يواجهها الكثير من النازحين السوريين، هكذا يفتتح الباحث الأميركي مقاله.
يقول "لقد كانت الأسرة قد وصلت في اليوم السابق، وكانوا منتظرين في طابورٍ لتخصيص مسكنٍ لهم، فبدأتُ محادثةً مع الأب. وبعد مجاملات البداية، تحوَّل الحديث إلى تاريخ الأسرة.
قال الأب إنَّهم من شمالي سوريا، وإنَّهم لم يغادروا البلاد إلا قبل شهرٍ فقط.
حين سألتُ عن سبب مغادرتهم سوريا، رد بالقول: "كنتُ أعيش بإحدى المدن حين اندلعت الحرب. قصف الأسد تلك المدينة، لذا نزحنا إلى مدينةٍ أخرى. فقصف الأسد تلك المدينة أيضاً. ثُمَّ نزحنا إلى ثالثة، فاجتاحها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)".
يقول الباحث الأميركي "أذكر الرجل وهو ينظر إليّ ويبدو عليه الإرهاق الشديد، كان الضغط واليأس من الفرار مراراً وتكراراً قد نالا منه كثيراً. وسأل يائساً، وهو مُثبِّت نظره عليّ: "إلى أي مكان آخر يُفتَرَض بنا أن نذهب؟".
هذا هو السؤال نفسه الذي يطرحه ملايين اللاجئين السوريين والمجتمع الدولي.
إنها أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية
فبعد أكثر من سبع سنوات من الحرب، دُمِّرت سوريا. يُقدِّر البنك الدولي أنَّ سوريا فقدت بين عامي 2011 إلى 2016 ما مجموعه 226 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقاً للأمم المتحدة، نزح 11 مليون سوري، نحو ستة ملايين منهم داخل البلاد، في حين غادر أكثر من 5 ملايين إلى خارج البلاد، منهم أكثر من مليون سوري رحلوا إلى أوروبا.
وبات حجم الدمار والتشريد كبيراً للغاية لدرجة أنَّ أعلى مسؤول معنيّ بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة وصف الأزمة بأنَّها أسوأ أزمة من صنع الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية.
والآن تتصاعد الدعوات لعودة اللاجئين
لكن في ظل استعادة نظام الأسد المزيد من الأراضي، تتنامى الدعوات لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
ففي 29 سبتمبر/أيلول الماضي خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال نائب رئيس الوزراء السوري وليد المعلم إنَّ الوقت حان لعودة اللاجئين السوريين إلى الديار.
وكرَّر الرئيس اللبناني ميشال عون، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تلك الدعوات وأعلنا عن جهودٍ تقودها روسيا لإعادة اللاجئين، مجادلين بأنَّ الوضع على الأرض آمن وأنَّ عودة اللاجئين يجب أن تبدأ.
ولهذه الأسباب يجب التصدي للتلاعب بهؤلاء الناس، فسوريا ليست آمنة لهم
يتعين على الولايات المتحدة أن تتصدى لتلاعب روسيا باللاجئين، وأن تعمل مع المجتمع الدولي لمنع أي تحرك لإعادة المواطنين السوريين كرهاً أو على نحوٍ سابق لأوانه.
والواقع هو أنَّ سوريا ليست آمنة لعودة اللاجئين، على الرغم من حملة التضليل الروسية التي تُروِّج للعكس.
إذ ذكر المُفوِّض السامي لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة فيليبو غراندي في مارس/آذار الماضي 2018 أنَّه من السابق جداً لأوانه الحديث عن عودة اللاجئين لأنَّ الوضع لا يزال غير مستقر.
فبالكاد يمكن للبنية التحتية الضرورية خدمة أولئك الذين بقوا، ناهيك عن المواطنين الذين عادوا حديثاً.
وخلُص تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2017 إلى أنَّ نصف مشافي البلاد وعياداتها ومراكز الرعاية الصحية الأساسية بها إمَّا كانت تعمل بصورة جزئية أو لا يمكن تغشيلها.
وقدَّر برنامج الغذاء العالمي في أغسطس/آب 2018 أنَّ 6.5 مليون شخص غير قادرين على تلبية احتياجاتهم من الغذاء، وأنَّ 4 ملايين آخرين كانوا في خطر الوصول لمرحلة انعدام الأمن الغذائي.
ووجدت دراسة مشتركة أجرتها منظمة أنقذوا الأطفال والمجلس النرويجي للاجئين ولجنة الإنقاذ الدولية، إلى جانب جهات أخرى، إلى أنَّه مقابل كل لاجئ عاد لبلاده عام 2017، شُرِّد 3 سوريين آخرين جدد.
فالتشريد المستمر لآلاف السوريين، مقترناً بالافتقار للموارد الأساسية، لا تُمثِّل ظروفاً مثالية من أجل عودةٍ جماعية للاجئين.
والأخطر أن هناك خوفاً مبرراً لديهم من التعرض لانتقام الأسد
هناك أيضاً خوفٌ مشروع منتشر بين اللاجئين السوريين من تعرُّضهم للانتقام السياسي من جانب نظام الأسد في حال عادوا، حسب الكاتب.
إذ وجدت دراسة أجراها مركز كارنيغي للشرق الأوسط في 2015، وتحقيقٌ أعلنته الأمم المتحدة في 12 من سبتمبر/أيلول الماضي أنَّ الكثير من السوريين يخشون العودة إلى بلادهم.
ووجدت دراسة أجرتها منظمة "حملة من أجل سوريا" عام 2015 أنَّ 70% من السوريين كانوا يفرون من نظام الأسد.
وقال 52% إنَّه يتعين رحيل الأسد قبل عودتهم إلى البلاد. علاوة على ذلك، كان السوريون الذين عادوا إلى سوريا هدفاً للتجنيد الإجباري والسجن القسري من جانب النظام في كثير من الحالات.
استغل نظام الأسد عن عمدٍ كذلك التشريد الجماعي للسكان باعتباره فرصة لإعادة هندسة التركيبة السكانية في البلاد.
ويشرح الكاتب كيف يغير الأسد تركيبة سوريا السكانية عبر التلاعب بالإعمار؟
إذ يسمح القانون رقم 10 الذي أصدره نظام الأسد للحكومة بمصادرة أرض أي شخص يعجز عن إثبات ملكيتها، أو مصادرة أي أرض تعتبرها البلديات ضرورية من أجل التنمية، في خلال عام من إصداره.
ووفقاً للمجلس النرويجي للاجئين، فإنَّ 17% فقط من اللاجئين السوريين لديهم وثائق تثبت ملكيتهم لممتلكاتهم في سوريا.
ويعلق قائلاً "لا شك في أنَّ نظام الأسد وداعميه من رجال الأعمال، مثل سامر فوز، يستخدمون القانون لمعاقبة الخصوم السياسيين والاستفادة من ممتلكاتهم المسروقة لملء خزائن النظام. بالتالي، قليلون فقط من اللاجئين بفعل الحرب سيكونون قادرين فعلاً على العودة إلى ممتلكاتهم التي تركوها وراءهم.
وإليك كيف يغير الأسد تركيبة سوريا السكانية عبر هذا القانون؟
إذن، كيف يغير الأسد تركيبة سوريا السكانية عبر هذا القانون المثير للجدل؟
سلط معهد "واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" الضوء على خطط "نظام الأسد"، لتغيير التركيبة السكانية في سوريا عبر هذا القانون.
وقال المعهد الأميركي في تقريرٍ حمل عنوان "قانون الأسد رقم 10: إعادة تشكيل الخصائص السكانية في سوريا": "يخشى الكثير من السوريين السنّة اليوم، سواء كانوا داخل سوريا أو خارجها، أن تكون حكومة الأسد تحاول إجراء تغييرات سكانية من أجل قلب موازين القوى بين مختلف الجماعات الإثنية في البلاد لتصب في مصلحة الأسد وذلك من خلال منع اللاجئين السنة من العودة إلى المناطق الاستراتيجية التي تسيطر عليها قواته".
وأضاف التقرير: "إذا أصبح السُنّة يشكّلون أقل من 50 في المئة من السكان، يمكن لأقليات أخرى أن تنشئ أغلبية فعالة قادرة على الوقوف ضد المصالح السورية السنية".
وتابع: "بالفعل، إذا نجح الأسد في إقامة سوريا لا يشكّل السُنّة فيها أغلبية السكان بعد الآن، فقد يكون قادراً على ممارسة المزيد من الضغوط على مجموعة كان بينها وبين الأقليات السورية توترات، ويلومها مؤيدو الأسد اليوم على اندلاع الحرب".
واعتبر التقرير أن القانون رقم 10 يُعدّ من التدابير المهمة التي تشكل تهديداً لأي سوري غير موالٍ للأسد بشكلٍ صريح، إذ ينص على تغيير التركيبة السكانية في سوريا تحت طابع شرعي.
ويسمح القانون الجديد الذي تم وضعه، في أبريل/نيسان 2018، للحكومة بتحديد المناطق التي سيتم تخصيصها في البلاد لإعادة الإعمار.
وبحسب القانون، ما إن تختار الحكومة منطقةً من أجل إعادة إعمارها، سيتعين على السلطات المحلية الحصول على قائمة بأصحاب الأملاك من السلطات العقارية العامة لهذه المنطقة، وذلك ضمن مهلة أسبوع، على أن يكون أمامها مهلة 45 يوماً فقط لتقديم هذه القائمة.
بالنسبة إلى الكثيرين الذين ما زالوا لاجئين خارج سوريا، بالإضافة إلى الأشخاص المشردين داخليًا – ومعظمهم من الطائفة السُنّية – فتقديم إثبات بالملكية على بعد أميال من وطنهم أمر مستحيل.
كما أنّ احتمال أن يصلهم إخطار بأن ممتلكاتهم تقع ضمن ما تسمّيه الحكومة منطقة "إعادة الإعمار" ضئيل جدًا، حسب المعهد الأميركي.
وروسيا تستغل الإنهاك العالمي من أزمة اللاجئين من أجل تطبيع وضع الأسد
يقول الباحث الأميركي "يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يواصلوا رفض الضغط الروسي والإقليمي لإعادة اللاجئين السوريين إلى أن تسمح الظروف على الأرض بعودتهم الآمنة الطوعية".
وتعجز روسيا عن تمويل عملية إعادة إعمار سوريا، لذا تحتاج إلى الأميركيين والأوروبيين للمساعدة في إعادة بناء الأسد.
ومن ثَمَّ، تستغل روسيا الإنهاك العالمي من أزمة اللاجئين باعتباره التذكرة التي تريد استخدمها من أجل تطبيع وضع الرئيس السوري بشار الأسد والابتعاد عن تحمُّل كلفة الصراع نفسه الذي ساعدت هي في جعله يتسع.
إذن ما الحل لمنع تلاعب الأسد بمسألة اللاجئين؟
يتعين على الولايات المتحدة أن تستغل تعطُّش روسيا والنظام للتمويل الدولي للضغط باتجاه عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة لإنهاء الصراع، حسبما يرى الباحث الأميركي.
وقال إنه بمجرد التوصُّل إلى تسويةٍ سياسية، حينئذ فقط ينبغي أن تدعم أميركا إعادة إعمار سوريا.
وأشار إلى أن هناك بالفعل دعماً لهذا التوجه في الكونغرس، حيث قدَّم النائبين إليوت إنغل (الديمقراطي عن ولاية نيويورك) وآدم كينزينغر (الجمهوري عن ولاية إلينوي) مشروع قانون يُسمَّى "قانون لا مساعدة للأسد"، والذي يُقيِّد تقديم الولايات المتحدة لمساعدة في إعادة الإعمار وأقرَّه مجلس النواب في وقتٍ سابق من هذا العام 2018.
وبالمثل، وافقت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في سبتمبر/أيلول الماضي على "قانون سيزر لحماية المدنيين السوريين"، الذي يفرض عقوبات على تلك الأطراف التي تتطلَّع لمساعدة نظام الأسد على الاستفادة من إعادة إعمار البلاد في الوقت الذي يعاقب فيه النظام معارضيه.
ومشروعات القانون هذه ضرورية لتعزيز الموقف الأميركي والأوروبي إزاء بناء ضغطٍ دبلوماسي لإنهاء الأزمة مرة واحدة ونهائية.
إنه يستغل المساعدات لمكافأة معاونيه
ومع أنَّ البعض يقول إنَّ منع مساعدة إعادة الإعمار لن يؤدي إلى لإطالة أمد الأزمة الإنسانية،
ولكن الواقع إنَّ الأسد أثبت أنَّه شريك لا يُعوَّل عليه في توزيع المساعدات الدولية القائمة فعلاً، حسب مايرى الباحث.
فعلى سبيل المثال، يستخدم الأسد استثمارات إعادة الإعمار بصورةٍ مصلحية لمكافئة الموالين له، في حين يتلاعب بالمساعدات الإنسانية الأممية لتدعيم نظامه على حساب البلاد بوجهٍ عام.
إن كل ماسبق يكشف كيف يغير الأسد تركيبة سوريا السكانية ، والمساعدات الدولية غير المشروطة يمكن أن تساعده في تحقيق هدفه.
كما أن استمرار سياساته الاستبدادية تجعل عودة المنفيين غير آمنة
تتجاهل الحجة الروسية كذلك الصورة السياسية الأكبر، حسب الباحث الأميركي.
فنفس السياسات الاستبدادية التي دفعت الشعب السوري للثورة لا تزال كما هي. ويتعين على الشعب الآن التعامل مع إرثٍ من التهجير المتعمَّد من جانب النظام ومصادرة ممتلكاتهم.
وبما أنَّه من غير الآمن للمنفيين السوريين العودة إلى البلاد، يصبح السؤال هو ما الذي يجب على الولايات المتحدة عمله للتصدي لحملة التضليل الروسية ومساعدة حلفاء أميركا؟.
ولكي يعود اللاجئون السوريون يجب إيجاد عملية انتقال سياسي
كي يعود السوريون بطريقة إنسانية وطوعية إلى بلادهم، لابد أن تؤكد الولايات المتحدة على انتقالٍ سياسي يضمن الحقوق وعودة تلك الممتلكات.
ومن أجل وضع ضغط على النظام لتشجيع عملية انتقالٍ سياسي، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها أن يبقوا على العقوبات ويرفضوا المشاركة في جهود إعادة الإعمار في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد.
تواصل الأزمة السورية كونها واحدةً من أهم التحديات في عصرنا وأكبر أزمة إنسانية في القرن الحادي والعشرين.
ولن يسهم المجتمع الدولي إلا في جعل الأمور أسوأ إذا دعم برنامج مضلل لإعادة اللاجئين من شأنه أن يضاعف بؤس الأبرياء الذين أُكرِهوا على مغادرة البلاد من جرَّاء الصراع.
ولابد ألا يُقابَل سؤال الأب السوري "إلى أي مكان آخر يُفتَرَض بنا أن نذهب؟" بالإجابة "إلى حيثما يطلب الطغاة الذين جرَّدوكم من حقوقكم وممتلكاتكم".