الأنباء التي باتت شبه مؤكدة عن مقتل الإعلامي السعودي البارز جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول تسببت في إلغاء شركات عالمية حضروها مؤتمراً يرعاه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مما بات يمثل ضربة قوية لسمعة ولي العهد الذي ينادي بالإصلاح.
وقالت صحيفة The New York Times الأميركية إنه بدءاً من شارع وول ستريت، مروراً بوادي السيليكون، وانتهاءً بشارع كيه ستريت (K Street) بواشنطن، حيث تجابه جماعات الضغط، والممولون، والمديرون التنفيذيون لشركات التكنولوجيا الفائقة، والشخصيات الإعلامية خطر ممارسة أعمال تجارية مع المملكة العربية السعودية حين تخضع لتحقيق قاس لدورها في هذه القضية.
أنهت مجموعة Harbour Group، إحدى جماعات الضغط العشر التي تمثل الحكومة السعودية، تعاملها مع المملكة، بينما تفكر شركات أخرى في أن تحذو حذوها، وفقاً لأشخاص على اطلاع بالمناقشات، إذ تعاني السعودية من رد فعل عنيف بشأن مزاعم ضلوعها في قتل الصحافي جمال خاشقجي.
وقال هؤلاء الأشخاص إنَّ جماعات الضغط تناقش بشكل خاص كيفية المضي قدماً. لكنَّ البعض قد قرر بالفعل أنَّ احتمال الاستمرار في تحصيل المقابل المادي من السعودية، التي كانت في يوم من الأيام عميلاً كريماً ومربحاً، لا يستحق المخاطرة بسمعتهم.
وقال ريتشارد مينتز، المدير الإداري لشركة Harbour Group إنَّ المجموعة التي كانت تتقاضى 80 ألف دولار شهرياً لتمثيل السفارة السعودية ومناصرتها في واشنطن بعثت برسالة يوم الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول تنهي عقدها مع السعوديين.
وسائل إعلام كبيرة ترفض الحضور
وألغت العديد من وسائل الإعلام الإخبارية، بما فيها صحيفة The New York Times الأميركية مشاركتها في مؤتمر للمستثمرين برعاية الحكومة في الرياض من المقرر أن يعقد في غضون أسبوعين، حيث من المتوقع أن يتحدث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. كما أعلنت كل من صحيفة The Los Angeles Times و The Economist أنَّهما لن يشاركا في المؤتمر.
لكن بالنسبة للشركات المالية والتقنية، والعديد منها لديه تعاملات بمليارات الدولارات مع السعودية، فالحسابات أكثر تعقيداً. وقد تراجع عدد قليل من مديريها التنفيذيين عن حضور المؤتمر، الذي يُطلق عليه مبادرة مستقبل الاستثمار، والمعروف باسم "دافوس الصحراء"، بحسب الصحيفة الأميركية.
وكان الرئيس التنفيذي لشركة Uber، دارا خسروشاهي، واحداً من القلائل الذين أعلنوا تراجعهم عن الحضور.
وقال في بيان، أصدره في وقت متأخر من ليل يوم الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول: "ما لم تظهر مجموعة مختلفة تماماً من الحقائق (في قضية خاشقجي) لن أحضر (المؤتمر)".
قد تكون علاقة الشركة مع السعوديين أيضاً واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً. استثمر صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهو صندوق سيادي كبير، 3.5 مليار دولار مقابل حصة تبلغ 5.6٪ في شركة Uber في يونيو/حزيران 2016. وشغل ياسر الرميان، العضو المنتدب في الصندوق، مقعداً في مجلس إدارة Uber. والأمير محمد هو رئيس صندوق الاستثمارات العامة.
وفي العام الماضي، اشترت مجموعة SoftBank، وهي تكتل شركات اتصالات يابانية، حصة كبيرة في شركة Uber كذلك، وحصلت على مقعدين في مجلس إدارة الشركة. ويدعم صندوق الاستثمارات العامة إلى حد كبير برأس المال صندوق رؤية سوفت بنك (SoftBank Vision Fund) الذراع الاستثمارية لـ SoftBank.
آخرون يرغبون في الحضور
وعلى النقيض من ذلك، تخطط مجموعة Blackstone Group للاستمرار لحضور المؤتمر، وهي شركة الأسهم الخاصة الضخمة التي استثمر فيها صندوق الاستثمارات العامة أكثر من 2.3 مليار دولار، والتزم بدفع ما يصل إلى 20 مليار دولار لصندوق تمويل جديد خاص بالمجموعة، بحسب شخصين مطلعين على خطط الشركة.
يظل ستيفن شوارزمان، الرئيس التنفيذي للمجموعة، عضواً في المجلس الاستشاري لمبادرة مستقبل الاستثمار للعام 2018، ومن المتوقع أن يتحدث في المؤتمر الذي يعقد في فندق ريتز كارلتون في الرياض، حيث احتجز الأمير محمد بن سلمان المئات من السعوديين الأثرياء العام الماضي فيما سماه حملة لمكافحة الفساد، بينما رأى المنتقدون أنَّها محاولة لسحق المعارضة.
لا يزال جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لشركة JPMorgan Chase للخدمات المالية والمصرفية، يعتزم حضور المؤتمر، وفقاً لأشخاص مطلعين على جدول أعماله. ونفذت شركته أعمالاً في السعودية منذ ثلاثينات القرن الماضي، وفتحت مكتباً لها في الرياض عام 2006 يوظف نحو 70 شخصاً داخل البلاد، بحسب الصحيفة الأميركية.
أما بالنسبة للرؤساء التنفيذيين الآخرين الذين لهم روابط بمبادرة الأمير، فهم إما قطعوا هذه الروابط أو ظلوا على مسافة منه.
استقالات أيضاً
قالت ميلودي هوبسون، رئيسة شركة Ariel Investments، إنَّها استقالت من المجلس الاستشاري للمبادرة، رغم أنَّها لم تكن تعتزم حضور المؤتمر.
ولا يزال بيتر ثيل، ذلك الرأسمالي المغامر في مجال التكنولوجيا الذي كان في يومٍ ما حليفاً للرئيس ترمب ومعروفاً بنزعته المستقلة، عضواً في المجلس الاستشاري للمبادرة، ولكنَّه لم يعتزم قط حضور المؤتمر، وفقاً لشخص مقرب منه.
فيما قال الملياردير ريتشارد برانسون، وهو رجل أعمال بريطاني، إنَّه علَّق عمله في إدارة مشروعين سياحيين بالقرب من البحر الأحمر، وإنَّ شركته العاملة في مجال الفضاء سوف توقف محادثاتهم حول الاستثمارات المقترحة من صندوق الاستثمارات العامة.
وقال في بيانٍ إنَّه في حال ثبوت هذه المزاعم "فستغير بوضوح قدرة أي منا في الغرب على ممارسة أعمال تجارية مع الحكومة السعودية".
في ظل الغموض الذي يحيط بمصير خاشقجي وشُح المعلومات المتاحة، طلب المديرون التنفيذيون القلقون المشورة من خبراء في شؤون المملكة بخصوص إلغاء رحلاتهم إلى الرياض. وقالت مسؤولة حكومية سابقة تعمل الآن في قطاع الاستشارات الدولية في واشنطن إنَّها تلقت مكالمات طوال اليوم من الرؤساء التنفيذيين للشركات وكبار معاونيهم لطلب المشورة.
تواصل أحد هؤلاء الرؤساء التنفيذيين على الأقل مع البيت الأبيض مباشرة. وقال مسؤولون بالبيت الأبيض إنَّهم لا يقدمون المشورة، على الرغم من أنَّ وزير الخزانة، ستيفن منوشين، لا يزال يعتزم الحضور، وفقاً لوزارته.
السعودية تتمسك بروايتها
نفت الحكومة السعودية تورطها في اختفاء خاشقجي بعد دخوله قنصليتها في إسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول. ويصر المسؤولون الأتراك على أنَّ خاشقجي قُتل في القنصلية بناءً على أوامر مسؤولين كبار في البلاط الملكي السعودي.
وقالت صحيفة The New York Times يوم الأربعاء 10 أكتوبر/تشرين الأول إنَّها ألغت شراكتها الإعلامية مع المؤتمر. وأعلن أندرو روس سوركين، وهو كاتب عمود في الصحيفة ومذيع في قناة CNBC، أمس الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول انسحابه أيضاً، قائلاً على تويتر: "أنا حزين للغاية بسبب اختفاء الصحافي جمال خاشقجي والتقارير التي تحدثت عن مقتله".
وقالت رئيسة تحرير مجلة The Economist، زاني مينتون بيدوس، إنَّها لن تحضر المؤتمر، وكذلك مالك صحيفة The Los Angeles Times، باتريك سون شيونغ. وقالت أريانا هافينغتون، مؤسِّسة ورئيسة تحرير موقع HuffPost، إنَّها لن تشارك أيضاً في المؤتمر.
والجدير بالذكر أنَّ الارتباك بشأن السعودية قد امتد إلى كيه ستريت، وهو شارع جماعات الضغط، الذي يُمكَّن الجميع بما في ذلك العملاء الأسوأ سمعة من العثور على موطئ قدم لهم إذا كانت شيكاتهم جاهزة.
لقد كانت السعودية عميلاً مرغوباً فيه، بفضل سمعتها في دفع أسعار أعلى من السوق، ووضعها كواحدة من أكثر حلفاء الولايات المتحدة موثوقية في منطقة غير مستقرة. كما عززت العلاقات بين الأمير محمد وإدارة ترمب من جاذبية المملكة.
يعكس الجدل حول الابتعاد عن العميل السعودي أيضاً هشاشة وسرعة تقلب صناعة جماعات الضغط وكسب التأييد في وقت واجهت فيه تدقيقاً متزايداً من المحققين الفيدراليين، بما في ذلك المحامي الخاص روبرت مولر، حول مدى تدخل المصالح الأجنبية في تشكيل السياسات والتوجهات الأميركية.
شركات العلاقات العامة في حيرة
والشركات ذات الأجور الأعلى التي تمثل السعوديين في واشنطن هي شركة العلاقات العامة الدولية Qorvis MSLGroup، والتي تتقاضى 279.500 دولار شهرياً، ومجموعة Glover Park Group، التي بدأها مسؤولون سابقون في إدارة كلينتون ويتقاضون أجوراً قدرها 150 ألف دولار شهرياً، وفقاً للمستندات التي تُقدم لوزارة العدل بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب.
كذلك هناك شركتان أخريان تتقاضيان 125 ألف دولار شهرياً، هما شركة Hogan Lovells، التي يعمل بها نورم كولمان، وهو عضو سابق في مجلس الشيوخ عن ولاية مينيسوتا، باعتباره نقطة الاتصال مع السعوديين، وشركة Brownstein Hyatt Farber Schreck التي تضم فريقاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي مكوناً من مارك لامبكين، مساعد سابق لرئيس مجلس النواب السابق جون بوينر عن ولاية أوهايو، وألفريد موتور، وهو أحد كبار جامعي التبرعات لحملة هيلاري كلينتون الرئاسية.
لن تُنهي كل هذه الشركات علاقاتها مع السعوديين. يميل البعض إلى الحفاظ على عقودهم مع السعوديين، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنَّهم يتنبأون بأنَّهم إذا هجروا البلاد بشكل جماعي، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص التعاون من جانب الحكومة السعودية.