«قبول المعونات أمر قبيح»…. كاتبة إيرانية تروي تجربتها المذلة

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/01 الساعة 04:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/01 الساعة 04:54 بتوقيت غرينتش

كانت دينا نايري في الثامنة من عمرها عندما فرّت بصحبة عائلتها من إيران، والآن أصبحت كاتبة في العاصمة البريطانية، ولكن تجربة اللجوء مازالت تطاردها ومعها سؤال هل يمكن معاملة اللاجئين بشكل أكثر كرامة؟.

في مقالها بصحيفة The Guardian البريطانية، 15 سبتمبر/أيلول 2018، تشرح دينا كيف أن قبول المساعدات الخيرية عمل قبيح، وكيف يهين المانحون اللاجئين بطريقة تقديمهم للمعونات، عارضة لتجربة تقوم بها مجموعة لدعم اللاجئين لإنشاء متجر تسوق يحاول تقديم المساعدة للاجئين بطريقة تحافظ على كرامتهم.. فهل أفلحوا؟.

في معسكر للاجئين خارج روما بدأت تجربتها

تقول دينا: مضت أيّامٌ وشهورٌ كنت آكل فيها وجبات تقدّمها الجمعيات الخيرية، والحكومات، وأهل الخير. فحين كُنت في العاشرة من عُمري، عِشت في مُعكسر للاجئين خارج العاصمة الإيطالية روما، كان مكاناً مؤقّتاً آمناً للعابرين الراغبين في اللجوء خارج إيطاليا.

كانت الحكومة الإيطالية قد استأجرت ذلك المبنى (الذي كُنّا نسكنه) من أحد مالكي الفنادق؛ وعلى الرغم من أن ملابسنا وشراشفنا كانت ملابس وشراشف لاجئين، إلا أننا كُنا نعيش في فندق جميل على قمّة تل.

في كل يوم، كان يتم تقديم الحساء والمعكرونة والقهوة واللحم والخبز للمقيمين في فندق "باربا". وفي الصباح، كنا نتدافع للحصول على بعض المربّى. كُنّا نأخذ ثلاث وجبات في اليوم في أوقاتٍ مُحددة.

رحلة المدرسة تجبرها على جلب الطعام بطريقة محرجة

وحين وجدت أمّي مَدرَسَةً إنكليزية تبعد ساعة واحدة بالحافلة، اضطررنا لإيجاد طريقة للحصول على وجبات الغداء التي لا نلحق بها، أثناء التواجد بالمدرسة.

لم تنسى يوما كيف كان اصطحاب الطعام البارد معها للمدرسة مهيناً
لم تنسى يوما كيف كان اصطحاب الطعام البارد معها للمدرسة مهيناً

فاستعانت أمّي بجدّةٍ أفغانيةٍ -كانت تحتفظ لنا بطعام الغداء- وكُنّا نأكله في العشاء. أمّا وجبات العشاء، فكنّا نُعِد منها الساندوتشات ونُعلّقها في أكياس بلاستيكية بالشرفة لنأخذها في اليوم التالي إلى المدرسة. كانت هذه العملية مُحرِجة وملحوظة للغاية، أعني عملية إحضار الغداء -الذي صار بارداً- من المطعم في وقت العشاء، وتعبئة العشاء الطازج للغد.

كان الفندق يُقدّم لفائف خبز مُستديرة صلبة، وكُنا نحشوها بالفاصوليا والبطاطا المهروسة مع المعكرونة والدجاج وشريحة لحم من فوقها جزر، ونترك الخبز منقوعاً في الصلصة طوال الليل كي يَلين.

كانت تلك السندوتشات المُتبقّية من وجبات الطعام تضمن لي البقاء على قيد الحياة؛ كما كانت تجلب لي الرهبة، وسعادة كالتي تنتاب المرء حين يحلُ لُغزاً، وكانت تجلب لي الشعور بالعار أيضاً.

وبعد أن سافرت إلى أميركا.. ها هي تتطوع لتقديم الطعام ولكنها تجنبت النظر إليهم

وبعد سنوات، حين نالت عائلتي حق اللجوء، وأُرسلت إلى ولاية أوكلاهوما الأميركية، تخيّلت نفسي مُراهقةً أميركية؛ فبدأت أتطوّع في بنك الطعام المحلّي. وعُيّنت أنا وصديقتي للعمل بالمخزن.

كانت الأمّهات الفقيرات أو الرجال العازبون يصلون أمام بنك الطعام، ويُسجِّلون أسماءهم لدى المكتب، ويروون قصصهم للمتطوّعين الأكثر خبرة.

أمّا نحن المراهقات، فكنّا نتلقّى التعليمات بشأن حقائب البقالة التي كُنّا نُعدُّها، وكان الجميع يحصلون على الأشياء نفسها، مع القليل من الإضافات للأطفال، وبعض بدائل الطعام لمن يعانون الحساسية.

لم يرَّ هؤلاء الفقراء وجوهنا أبداً، وجوه المراهقين السُذّج الذين يتغازلون ويُغنّون بينما يختارون طعامهم؛ سمك التونة أم الدجاج؛ الخبز الأبيض أم خبز القمح، بلُبٍّ أم بدونه.

كُنت أتخلّص من زبدة الفول السوداني المُعبّأة أوّلاً، مُعتقدة بذلك أنني كنت لطيفة. كُنت ممتنّة لعدم رؤية وجوههم، وأنني أتجنّب عيونهم الناظرة إلى الأرض حين كُنت أضع حقائبهم في صناديق السيارات المفتوحة.

فقبول المساعدات أمر جارح 

تلقي المساعدات أمر قبيح كما تقول الكاتبة الإيرانية
تلقي المساعدات أمر قبيح كما تقول الكاتبة الإيرانية

قبول المساعدات الخيرية عمل قبيح بالنسبة للروح، إنه يجرحك، لا سيّما إن كان لك كبرياء وأهداف عظيمة ذات يوم، إن كنت ذات يوم شخصاً يصافح الناس وينظر مباشرة في عيونهم.

اعتدنا -أمّي وأنا- الحديث عن المفارقة في كون الكثيرين جدّاً من لاجئي العالم وافدين من الشرق الأوسط، فنحن ذوو كبرياء، واللاجئ هو أكثر الكائنات بؤساً؛ لا بلد له، ولا منزل، ولا سُلطة على طعامه، ولا صحّته، ولا تعليمه.

إن مُصطلح "طالبي اللجوء" أكثر تأدّباً من الواقع- "طالبو اللجوء" هي كلمة معتدلة، كنا نتوق إلى اللجوء، تلك الحاجة الغريزية لتأمين أجسادنا. كيف لنا النجاة من ذكرى كهذه؟

ولذا لم تعد تقبل المساعدات الخيرية

بعد ولاية أوكلاهوما، أمضيتُ عقدين من الزمن أستعيد كبريائي. لم أكن أقبل مساعدات خيرية من أصدقاء، وحين كنت أخرج من المنزل، كنت آكل القليل، وعندما كان يدفع آباء أو أمّهات الأصدقاء كُنت أشعر بأنه أمر ذو شأن عظيم، وكأنّي فقدت السيطرة.

لم أستعر الفكة لأستخدمها في آلات بيع السناك، فقط قبلت المُساعدات الخيرية من الجامعات، لأنها كانت مخفية عن عيون الناس وكانت ألطف.

فيما بعد، سمحت للرجال بأن يدفعوا ثمن الوجبات، قائلة لنفسي إن جلوسهم بصحبتي هو أمرٌ كافٍ لتعويضهم، وكانت هذه هي الطريقة التي تتصرّف بها النساء الأقل مديونية في العالم، لذا كان ينبغي عليّ فعل هذا أيضاً.

وهي تعلم أنها ستقدم المساعدات لغريبة تتعرض للإذلال

في ثلاثينات عمري، بمدينة نيويورك الأميركية، تطوّعت لمساعدة صديق، كان نوعاً من المساعدات المادية حسنة النيّة، وكنت أقدّم عشاء عيد الشكر في مأوى للمشرّدين.

ظهرت أمامهم مُرتدية قميصاً مُغطّى بالبقع وسروالاً قديماً من الجينز، وكان شعري مُصففاً على شكل كعكة بائسة. لم تكن هناك متطلّبات بشأن ما ينبغي ارتداؤه؛ لكنّي كنت أعرف أنني في تلك الليلة سأقدّم الطعام لغريبة، وتلك الغريبة -في تلك اللحظة- كانت ستتعرض للإذلال.

وكنت أعلم أنها ستنظر إلى ملابسي، وإلى هيئتي، باحثةً عن سبب لتقول: "من يهم بما تفكّر به؟" وكان جزء من وظيفتي هو أن أقدّم لها هذا السبب بسرعة.

طريقة تقديم المساعدات تؤثر كثيراً في مشاعر اللاجئين
طريقة تقديم المساعدات تؤثر كثيراً في مشاعر اللاجئين

تذكّرت أنه في فندق باربا، كان ثمة شابٌ صغيرُ السن يُقدّم الحساء ويُنادي بالإيطالية بصوت عالٍ "حساء! حساء!"، كان يجعل من نفسه مُهرّجاً لكي نضحك، وفي بعض الأوقات، كان يجلس للدردشة، ولتناول بعض الحساء معنا، ويسألنا عن حالنا.

كان رجل الحساء هذا محبوباً في فندق باربا، وتخيلت نفسي مكانه، فدسست 10 دولارات في جيبي، تاركة محفظتي ورائي.

ولكن، فاعلي الخير في مانهاتن الأميركية لا يعرفون المساومات الصامتة التي يقوم بها الفقراء عبر نظرة عابرة.

حين وصلت إلى المأوى، نظر إليّ صديقي من أعلى إلى أسفل، وقال لي مازحاً بينما ينظر إلى بُقع قميصي: "هل أنتِ مُكتئبة؟"، ومن خلفه كان موظّفو البنوك والمحامون يرتدون أحذية من ماركة شانيل، وقمصاناً حريرية بيضاء، ويحملون حقائب جلدية لاتزال على أذرعهم بينما يغرفون البطاطس المهروسة، وعلى وجوههم ابتسامات مُتعسّرة في وجوه الرجال والنساء المُتعَبين الذين يتّشحون بأوساخ المدينة.

ورفض المتطوعون دعوة الفقراء، أما هي فتقيأت الطعام الذي دفع ثمنه صديقها

بعدها، حين دعا المقيمون المتطوّعين للانضمام إليهم على طاولاتهم  (وهي دعوة لحفظ الكرامة)، كان المتطوّعون يرفضون بدافع القلق (فقد لا يكون هناك قدرٌ كافٍ من الطعام)، وبدلاً من ذلك، انطلقوا لاحقاً إلى مطعم فاخر، وطلبوا لحم بطن الخنزير، وهنّأوا أنفسهم على عدم البقاء هناك، ثم شكوا من تزاحم السيّاح على الباب.

أعترفُ أنني تناولت قضمات قليلة من عشاء الديك الرومي هذا الخاص بالفقراء، وأكلت من لحم الخنزير الذي طلبه أصدقائي أيضاً.

وتركت صديقي يدفع ويزدريني بقميصي المُغطّى بالبقع وبشعري الذي تفوح منه رائحة العرق. لقد كرهته في تلك الليلة، ولكنّي كنت ممتنّة لصحبته. وحين عُدت إلى المنزل، تقيأت كل الطعام.

وهاهي أصبحت كاتبة في لندن.. ومازالت تعتبر ملاذ اللجوء مكاناً أفضل من الجحيم

والآن، وبعد مرور بضع سنوات، ها أنا أعمل كاتبة في لندن، وأم، ومُهاجرة مُحتارة. وبهذه التقلّبات التي لاحقتني طيلة حياتي، أعيد تصوّر هُويّتي مجدداً.. هل مازلت لاجئة بعد الكثير جدّاً من سنوات الاندماج؟

قضيت الكثير من الوقت أفكّر في فندق باربا. وفي عام 2011، عُدتُ إليه، وقد أصبح فندقاً محترماً، بستائر جميلة، وشراشف جيدة للأسرّة. أعرفُ الآن أن باربا كان مُعسكراً "أقل مشقة" للاجئين به، ولكنّي أكره هذا المصطلح.. إنه مُتعالٍ وكاذب.

والوصف الصحيح له هو أنه كان شيئاً أفضل من الجحيم؛ لم يكن مثل مُخيّم موريا بجزيرة لسبوس اليونانية، الذي يعجّ بمياه الصرف الخام، وحروب منتصف الليل، والاصطفاف من أجل الطعام لخمس ساعات، وخيامه المشتركة في أرض مفتوحة.

رسميّاً، كان فندق باربا معسكراً للاجئين، إلا أنني أسمّيه مضافة لأنه لم يكن مُعسكراً، ولم يكن فندقاً أيضاً، والفارق بين الكلمتين واضحٌ للغاية، بتقييمي الشخصي لمسائل العار والمكان والكرامة.

والآن هي أمام تجربة لمحاولة الحفاظ على كرامة اللاجئين

في أواخر الخريف الماضي، في مقهى بالعاصمة البريطانية لندن، تحدّثت مع بول هاتشينغز عن الحياة في المخيّمات، وإمكانية عودتي إلى أحدها.

وكان بول قد أسس جمعية "دعم اللاجئين –Refugee Support" الخيرية، التي تتنقّل من مُعسكرٍ إلى آخر لتعيد تنظيم الطريقة التي يوزّعون بها المساعدات، وفوراً، بدأ يتحدّث عن الكرامة والعار.

شأنه شأني، هو أيضاً قضىَ ليالي يفكّرُ بشأن الإذلال. التقى هاتشينغز بجون سلون، في أكتوبر/تشرين الأوّل 2015، أثناء التطوّع في معسكر كاليه الفرنسي للاجئين، ولاحظ الرجلان أن طريقة تقديم الطعام والملابس والاحتياجات الأساسية التي لا يمكن إنكار أهمّيتها قد أصبحت أمراً مُلِحّاً لدرجة أن "الكيفية" التي تتم بها العملية أصبحت منسيّة!.

وحدهم اللاجئون كانوا واعين لذلك، ورأى هاتشينغز ذلك في عيونهم، وفي سرعة مشيهم. وعلى الرغم من أنهم بالفعل قد فقدوا الكثير، كانوا يفقدون المزيد مع كل سُترة تُلقى من الشاحنة، وكل سروال لا يلائم مقاسهم ولكنّهم يحصلون عليه ليستبدلوه.

في معكسر كاليه بفرنسا، كانت المؤن تُقدّم إليهم من ظهور السيارات. في أحد الأيّام، تصل سيارة -دعنا نقول إنها مُحمّلة بسترات كبيرة- وتقف في أحد أجزاء المُخيّم.

وفي يوم آخر، تأتي سيارة مختلفة مُحمّلة بسراويل رجالية من الجينز، أو قمصان، وتقف في ركن آخر، ويصطفّ اللاجئون بينما يحاول أحد المتطوّعين الحفاظ على النظام، ويسأل آخر عن مقاساتهم.

شجار واختطاف لقطع الملابس.. هل يجب تقديم الأشياء لهم مقابل كرامتهم؟

يحصل كل فرد على قطعة واحدة، ويُطلب منه المغادرة، ويحاول البعض المساومة على المزيد زاعماً أن له صديق مريض أو أب لا يتمكّن من الوقوف في الصف، يتشاجر البعض ويصيح آخرون ويختطفون القطع التي تسقط على الأرض من بعضهم البعض. والبعض كان يغادر دون أن يحصل على أي شيء، ولم يكن أحد يشعر بشعور جيد بشأن ما كان يحدث.

تقديم المساعدات فحسب للاجئين أمر مهين
تقديم المساعدات فحسب للاجئين أمر مهين

كان هاتشينغز يقول في المقهى: "ألن يكون من الجيد أن نقدّم الطعام والملابس للناس دون أن نأخذ منهم كرامتهم؟".

سألته: "لماذا الأمر صعب للغاية؟".

ورد "لأن الناس يريدون الكثير من كل ساعةٍ ودولارٍ يقدّمونه"، وقال هاتشينغز إن مشكلته الأكبر هي المتطوّعون، والمتبرّعون، وتوقّعاتهم الكبيرة؛ حيث يرغب العديد من المانحين في وضع معايير بشأن كيفية تقديم طعامهم، فهم يريدون أن يُقدم الطعام لأكبر عدد ممكن من الناس، أن يتأكدوا أنك تنفقه فقط على البيض والخبز.

ويريدون المراقبة.. هم لا يبالون بـ"الكيفية"، وحتّى أكثر المتطوّعين عطفاً، يريدون أن يشعروا أن اللاجئين ممتنون لهم.

والبديل هو متجر اللاجئين، مكان لا يخجلون من التسوق فيه

بدأت جمعية دعم اللاجئين عملها، في أبريل/نيسان 2016، بمخيّم الإسكندرية الذي يقع بالقرب من ميناء سالونيك اليوناني، وبدأت بفتح متجرٍ للطعام، ثم متجرٍ للملابس، بتصميم جيد، وسوق هادئة مليئة بالتبرعات، مكانٌ لا يخجل المرء فيه من التسوّق.

عندما أراني هاتشينغز الصور الفوتوغرافية للمكان، فكّرت أن والدتي، وهي طبيبة إيرانية، قد تذهب للتسوّق هناك. وجدّي، وهو صاحب أرضٍ، سيكون فخوراً حين يلتقي مصادفة بجارٍ له هُناك.. لقد كان هذا بعيداً كل البعد عن الشاحنات التي تقدم المساعدات.

في البداية، يُحدد المقيمون موعداً، ويأخذون سلّات مُعدّة من الطعام، مُرتّبة بعناية ومزوّدة باحتياجات كل عائلة. والجميع يحصلون على الأشياء نفسها، بغض النظر عن الحساسية، العادات، أو الذوق. ولكن، ليس لدى الجميع الاحتياجات نفسها، وسرعان ما تجد التذمّر والمقايضة والهدر.

إن به عملة خاصة مع حق اللاجئين في الاختيار

لذا قرر هاتشينغز وسلون عرض السلع، وإظهار احترامهم للناس بمنحهم حق الاختيار. وستكون عملة المتجر هي نقاط توزّع أسبوعياً مثل الدخل؛ حيث يحصل كل شخص بالغ على 100 نقطة، وكل طفل على 50 نقطة، وكل سيدة حامل على 150 نقطة. وستكون أسعار المتاجر مرتبطة بأسعار السوق، (مثلاً 20 نقطة لكل يورو)، ومُستلزمات العناية الصحية ستقدّم مجاناً. وإذا أراد المقيمون في مخيم اللاجئين أن يُنفقوا كل نقاطهم على الشوكولاتة، فإنهم يملكون هذا الحق.

على هاتفه، أراني هاتشينغز تصميمات لمعسكر كاتسيكاس، أحدث مُعسكرات اللاجئين ويقع بالقرب من مدينة يوانينا اليونانية، وهو أقرب إلى الحدود الألبانية من أثينا.

تجربة المتجر والنقاط البديلة للعملة محاولة لمحاكاة الحياة الطبيعية
تجربة المتجر والنقاط البديلة للعملة محاولة لمحاكاة الحياة الطبيعية

ويقضي هاتشينغز وقتاً للتفكير في الجماليات، وما إذا كان الناس سيعجبون بالمعسكر الجديد، فهو يهتم أن يعجبهم.

ولديه أيضاً بيانات للمبيعات، وقائمة بما يحتاج إلى تخزينه كل أسبوع. وبحسب قوله، يشتري الزبائن -نعم يُسمّيهم هكذا- بعض بسكويت الزبد، لكنّهم لا يُضحّون بالحليب لأجله.

وأفضل شيء هو شكواهم من البضائع

سألني هاتشينغز: "تعرفين ما الذي أحبّه؟ حين يشكون بشأن الاختيارات، لأن هذا يعني أنهم نسوا أنهم في معسكر، وهم فقط أشخاص في متجرٍ لديهم مال ينفقونه، ويشتكون بشأن الزبادي".

قلت له حينها "أريد أن أذهب".

وحينها قال: "لدينا قواعد، فنحن في حاجة للحفاظ على المساواة المطلقة بين الناس، لا توجد أي معاملة خاصّة، نحن لا نسمح بإقامة علاقات اجتماعية أو صداقات. ولا يمكن للمتطوّعين أن يقبلوا حتّى كوباً من الشاي أو أن يدخلوا الغرف الخاصّة".

وسألته قائلة: "هل يوجد إيرانيون هناك، أو أفغان ممن يتحدّثون اللغة الفارسية؟".

وقال لي "سيكون هناك إيرانيون وأفغان في مُخيّم كاتسيكاس، حين يُفتتح".

قلت وأنا أفكر في عشاء الديك الرومي الذي رفض جميع المتطوّعين الانضمام إليه قبل مدّة طويلة "أريد ألّا أخضع لقواعد"، فإذا كان الأمر مُتعلّقاً بالكبرياء، فعليّ أن أقبل دعوةً على كوب من الشاي.

ولكن المشكلة أن الكبرياء يتغير بتغير الظروف

كان هاتشينغز قد قال لي قبل أسابيع قليلة، بينما نقود السيارة على طريق سريع أسود اللون وزلق بفعل المطر، بعيداً عن أثينا "الأمر المُعقّد هو أن الكبرياء يتغيّر وفقاً لتلبية الحاجات المختلفة، فحين تصل من جزيرة لسبوس، مُتّسخاً، مُتعباً، تتضوّر جوعاً، تتمثّل الكرامة حينها في حقيبة بها شامبو ومزيل لرائحة العرق وبيض وقهوة وخبز، لذلك نُقدّم ذلك عند الوصول. ثم، حين تستحمّ وتنام، وتُنظّف نفسك، تُصبح تلك الحقيبة مُهينة، وتحتاج لبعض الشاي وليس القهوة، وتتذكّر أنك تكره البيض، الآن تريد الاختيار.

وبعدما تعيش في مُخيّم لأشهر عديدة، يُصبح المتجر ذو النقود المّزيّفة وأحكام الصداقة الصارمة مُهيناً أيضاً، لماذا لا يمكننا أن نكوّن صداقة مع الموظّف؟ هناك "مُدّة صلاحية" لهذا الأمر. ونحن لا نقيم في أي معسكر لأننا لا نريد أن نساهم في أن يُصبح مكاناً دائماً".

كُنا نزور مُخيّمَين للاجئين في هذه الرحلة، إلا أن وجهتنا النهائية كانت كاتسيكاس. وكان عليّ أن أرتدي وجهاً شجاعاً مُتحمّساً، لكنّني كنت خائفة مما كنت سأراه وأتذكّره.

قبل عيد الميلاد المجيد في عام 2017، وصل 450 لاجئاً من 10 بلدان؛ بما فيهم سوريا وأفغانستان، ولبنان، وإيران، والعراق، إلى المُخيّم الفارغ في كاتسيكاس، وكانت أماكن الإقامة التي يُطلق عليها  Isoboxes"" في انتظارهم، وهي عبارة عن حاويات ملائمة للسكن في موقعٍ محاط بسور، وكل منها مزوّد بمطبخ صغير ومرحاض وأسرّة على إطارات معدنيّة.

كان الجميع تقريباً وافدين من جحيم جزيرة لسبوس، حيث مُخيّم موريا، ومن مخيّمات مشابهة على الجُزر. وأُعِدت بضائع المتجر ليوم الافتتاح، ولم يتوقّع أحد حدوث فوضى، كانوا يعرفون أنه حين تمنح الناس الكرامة، فإنهم يشعرون بكرامتهم.

إنه يبدو كجمعية تعاونية في لندن وليس هناك قلق من السرقة

كان اللاجئون يسيرون في أنحاء المتجر، ينظرون، ويختارون ما يفضّلونه من زيت الزيتون أو زيت عبّاد الشمس. ويُعامَلون كأطبّاء ومُعلّمين، وحِرفيين مثلما كانوا من قبل.

وفي يومي الأوّل، فُتِح المتجر كالمعتاد، من الساعة 10:30 صباحاً، حتّى الواحدة ظهراً، وكان نظيفاً، مزيّناً بشكل غريب، فالجُبن مُعد على شكل مصابيح، والنباتات الصغيرة هنا وهناك، والخضراوات مكدسة بأناقة في صفوف، لقد بدا المتجر مثل جمعية تعاونية للطعام في جنوب لندن.

وكان جهاز iPad بمثابة نقطة البيع الوحيدة، إلا أنه في وقت لاحق، تمت إضافة خاصية التسجيل باستخدام جهاز iPad والورق، ووراء المُنتجات الغذائية كان يوجد مخزن يُترك مفتوحاً كي يتمكّن المتطوّعون من جلب الحفاضات والحقائب الإضافية منه. لم يقلق أحد بشأن السرقة.

وفي الخارج، كان هناك رواقٌ طويل يستعرض أعمالاً فنّية أعدّها المقيمون في المُخيّم، بما في ذلك رسم مؤلم لقارب ممتلئ في الليل، وبه لاجئون في مياه مفتوحة.

غير أن الفارق الرئيسي أن لكل عائلة موعدها للتسوق

وضِعت الطاولات والكراسي التي تنتظر عليها العائلات دورها، وهنا يكمن الفارق الأوّل بين هذا المتجر وأي متجر آخر: يمكن لعائلة واحدة فقط التسوّق في موعدها المحدد.

وثمّة نقطة اختلاف أخرى؛ وهي أنه لا أحد، مهما كانت قصّته قهرية، يحصل على استثناء. وفي ظهيرة يومي الثاني في المتجر، عاد زوجان -وكانت السيدة حاملاً– إلى المتجر بعد إنهاء تسوّقهم. وقال الزوج إنه أحصى البضائع وظهر أنا ناقصة بمقدار 50 نقطة.

لا يمكن القيام بشيء حيال ذلك، فكما يقول هاتشنغز: "الأمر لا يتعلّق بالفرد"، ولا يمكن أن تكون هُناك مِنحة استثنائية يتم بموجبها الحكم على كل حالة على حدة، ولا توجد إمكانية للمحسوبية في المُخيّم.

وعلب العصير هي ضحية المساومات

بالنسبة للوقت الذي كُنت أقضيه في المتجر، كُنت أُغلّف البقالة، تماماً مثلما كنت أفعل في أوكلاهوما. ولكن هذه المرّة لم يكن لديّ رأيٌ في ما يوضع بالحقائب، وبعد مرور الأسرة الثانية بالمتجر، لاحظت سِمات غريبة أُخرى تميّز هذا المتجر، فنحن نُخبرهم بالفعل -بطريقة ما- ما يمكنهم الحصول عليه، لأننا نُسيطر على النقاط.

وظرف النقاط المليء يُعد رمزياً إلى حد كبير، حيث يُنفق الجميع تقريباً كل ما يملكونه في اليوم الأوّل للتسوّق بعد إصدار النقاط.

ويُسلّمون الظرف كاملاً، ويتتبع المتطوّع عملية التسوّق التي يُجريها الزبائن. وفي بعض الأحيان، يقول المتطوّع "باق 10 نقاط فقط" أو "لقد تجاوزت مشترياتك بـ10 نقاط"، وتبدأ العائلة في إجراء المقايضات، والمُناقشات الخاصّة، ويتقافز الأطفال، ويعضّون أناملهم من الضيق، وتتم التضحية بعلب العصير.

والإيرانيون يتوقون للحصول على الموز النادر في بلادهم

في المرة الأولى التي حدث فيها هذا، أدركت أنني عبأت البضائع في الحقائب أسرع مما ينبغي، كنت في حماس شديد، واضطررت للتوقّف، وانتظرت لأرى ما يمكن إعادته، كنت قد وضعت الموز للأطفال في الحقائب، وتذكّرت حينها كيف أن الموز نادرٌ في إيران، وكيف كُنت أتوق إلى تناوله بيأسٍ شديد، وكيف استمرّ يأسي هذا خلال سنوات مراهقتي، بعدما أصبح الموز عادياً.

وأردّت أن أسأل هاتشينغز ما إذا كان باستطاعتنا السماح لهم بالحصول عليه، ولكنّي توقّفت، وشعرت بالعجز وانعدام الفائدة بينما يشرح الوالدان لأطفالهما أنه يجب إعادة الموز.

وها هما الزوجان يعيدان البسكويت

لاحقاً، بينما كنت أحاول مع أم سورية ترتيب حقائبها الست في عربة صغيرة ممتلئة، سمعت الوقع المألوف للغة الفارسية، فقد دخل زوجان إيرانيان أكبر سنّاً إلى المتجر، وسلّما ظرفَ نقاطهما الذي يحتوي على 200 نقطة، بدون أبناء.

كُنت أستمع إليهما بينما يتحدّثان بلغة التسوّق اليومية "بكم؟"، "هذا أو ذاك؟"، "هل يستحق زيت الزيتون ثمنه؟".

كان من الجميل أن يدخلا في تجربة الخيال القصيرة هذه، فلمدّة 10 دقائق، كانا كزوجين في مدينة أوروبية يقومان بالتسوّق في عطلة نهاية الأسبوع.

ولكنّهما تخطّيا ما يملكانه بـ10 نقاط. وعضّت الزوجة على إحدى شفتيها قائلة "علينا إعادة البسكويت".

وألقى الزوج نظرة على البضائع التي جلبوها، ثم قال "هكذا سيظل لدينا 5 نقاط"، وتخيّلتهم مرّة أخرى في سكنهم المُعد على شكل حاوية معدنية، ومعهم كوبان من الشاي، والهيل الذي هرّبوه من إيران، أمّا كعك الزبدة هو مجرّد شيء يتناولونه مع الشاي.

أخذا بعض معجون الطماطم، ووقفا لتسجيل مشترياتهم.

ثم خرقت قواعد المعسكر.. إنها تنسج معهما صداقة

الإنسانية أمر مهم للاجئ حتى لو خرقت القواعد أحياناً
الإنسانية أمر مهم للاجئ حتى لو خرقت القواعد أحياناً

ثم ارتكبتُ تصرفاً غبياً؛ قلت لهما "أهلاً" باللغة الفارسية، وتمنّيت لهما يوماً طيّباً. وحينها حدّقا بي مذهولين، وقالا "أهلاً" بأدب، وأدركت أنني قد خرقت هذا التخّيل القصير للحياة الطبيعية التي تصوّرها هاتشينغز، وربما هذا هو السبب في قاعدة منع الدردشة العابرة مع المتسوّقين.

الحقيقة التي أدركتها هي أن فهمي لمفاوضاتهم الخاصّة كانت بمثابة تأكيد صريح على أنهما كانا جزءاً من تمثيلية، وأن هذا متجر للمساعدات الخيرية.

توّسلت للكون أن يعود بالزمن 5 ثوان لكي لا أكون مثل متطوّعي عيد الشكر في نيويورك، أولئك الذين تأتي مُساعدتهم بالكثير من التكلفة.

وبدأت تعبئة أشيائهم، وللمرّة الثانية في حياتي، كُنت سعيدة لارتداء ملابس رثّة.

وآخرون يريدون أرزاً بسمتياً

عندما أغلق المتجر، مشيت بين صفوف الحاويات السكنية، طارقةً الأبواب. كان ذلك مُرعباً ومثيراً. ومُجدداً، سألت نفسي، ما الذي أفعله؟ من سيجيب؟ وهل سيتحدّثان معي بالفارسية؟ هل سيدعواني؟ كنت قد حفظت أرقام أبواب الأسر الفارسية.

فتح زوجان لطيفان في الثلاثينات من العمر أوّل بابٍ لي، كُنت قد عثرت عليهما عبر بناتهما اللاتي كُنّ يلعبن كرة القدم في الخارج، سمعت صرخات مبتهجة بلغة طفولتي، واتّصل صوتي بصوتهم.

فقد سألتني الفتاة الكُبرى "هل أنت شُرطية؟" فأجبتها: "لا، أنا امرأة إيرانية أبحث عن إيرانيين آخرين: وحينها أعطتني رقم حاويتهم السكنيّة. ودعاني الوالدان للدخول.

وجلس هاتشينغز معنا، وكان سعيداً بالاستماع دون أن يفهم، بينما كانوا يروون قصّة هروبهم. وبعد عدّة ساعات، تحوّل الحديث إلى المتجر وقالوا شيئاً سمعته من كل الإيرانيين الآخرين في مُخيم كاتسيكاس؛ "اجلبوا أرز بسمتي!".

وأحضَروا أرزاً من المتجر، وبعض الأرز الذي اشتروه بأموالهم الخاصّة. وعقد الزوج مقارنة بين الحبوب قائلاً "انظرا إلى فارق الطول؟" وأومأ هاتشنغز برأسه.

وببساطة، كان الأمر هو أن أحد المتطوّعين قد رأى حسماً جيداً على الأرز فجلبه. وسألت الزوجين "هل يمكنني أن أعود لكم غداً؟" ورد الزوج عليّ قائلاً: "نعم".

وتابع قائلاً "في الواقع، ستعودين ثلاث مرّات. الأشياء تحدث لنا دائماً ثلاث مرات، ركبنا ثلاثة قوارب قبل مخيّم موريا، وثلاث محاولات قبل الوصول إلى هنا.. دائماً ثلاثة".

وعرضوا قصتهم للجوء وطلبوا مساعدة للهجرة

لكل لاجئ قصة هروب مأساوية غالباً
لكل لاجئ قصة هروب مأساوية غالباً

وقبل مغادرتنا، عرضوا لنا مقاطع فيديو من موريا، شاهدنا المراحيض عائمة في مياه الصرف، حيث يستحم الناس أيضاً، الخيام على الأرض، والأطفال يتوسّلون للمغادرة.

وطلب الزوج المساعدة في عملية الهجرة، ولم أكن أعرف ماذا أقول، كانت الصور تبدو كمشاهد من كابوس، وشعرت بالضيق لكشفي عن قصّتي الخاصة باللجوء.

أمّا هاتشنغز، فأبقى على وجهه مُحايداً، فقلت "أنا آسفة، لا يمكننا المساعدة، نحن لا نعرف قانون اللجوء. ونعم، سنبحث عن أرز بسمتي"، وقال لي هاتشنغز لاحقاً إنه كان خطأً أن أقدّم لهم بعض الطمأنينة بهذا الشأن، لأن المقيمين بالمخيّم يتشبّثون بكل أمل. وكانت هناك مقاطع الفيديو وتوسلات المساعدة في كل حاوية سكنية قُمت بزيارتها.

وهم لا يعلمون هل سيجبر أولادهم على تعلم الألمانية أم الإيطالية؟

الآن، صرنا مُعتادين على المشاهد المُرعبة من مُخيّمات اللاجئين. نسينا الضرر النفسي الناجم عن هذا المكان الفاصل بين الجحيم والجنّة، وفي مساحة الانتظار هذه، لا يمكنك أبداً العودة إلى حياتك وهويتك القديمتين، ولم يتم إخبارك بعد بما سيكون عليه شخصك الجديد.

لايعرف أطفال اللاجئين أي لغة سيتعلمون؟
لايعرف أطفال اللاجئين أي لغة سيتعلمون؟

هل سيُرغم أطفالك على تعلّم الألمانية أم الإيطالية أم الإنكليزية. هل ستعمل في مِهنتك القديمة مُجدداً؟ هل سيأتي عام 2030 وأنت تُحاضر في الجامعة مُجدداً، أم أنك ستقود سيارة أوبر حينها. أو ستغسل الصحون أو تُنظّف المنازل ومعك القليل من الكتب التي كنت تمتلكها في وقت سابق؟.

هذه الأسئلة تُعذِب العقل، ولكن العالم يقول "لقد نجوا بالخروج! إنهم آمنون! لقد نجحنا"، ثم يُلقون بالطعام من ظهر شاحنة، ويمنحون اللاجئين مأوى في الخيام.. الأعمال الخيرية والترحيب شيئان مُختلفان.

ثم تناولت الشاي مع نسوة إيرانيات وأفغانيات

في اليوم التالي، طرقت الباب، ووجدت مجموعة من النساء اللواتي يتناولن الشاي والمُعجّنات المستديرة؛ كُن أفغانيات وإيرانيات، وعلى الفور دعونني للدخول، فقد سمعن عنّي، وقدّمن لي بعض الشاي، واسترحت على وسادة بين اثنتين لطيفتين بينهن.

كُن قد حصلن على معجنة في مُخيّم مدينة يوانينا اليونانية، وكُن يحوّلن كل دقيقهن إلى معكرونة، وأشرن إلى غرفة صغيرة كن يُجففن فيها خيوط العجين الرفيعة على إطار سرير، بينما وُضِعت المرتبة في مكان آخر.

قالت إحداهن "هذا من أجل حساء المعكرونة الإيرانية، نحن نصنع قدراً كافياً للجميع"، وقالت النساء إنهن يجتمعن كل ليلة في إحدى الحاويات السكنية للصلاة ولتناول العشاء، ووعدت بالانضمام إليهن. وفي وقت متأخّر من تلك الليلة، وجدت نفس المجموعة بصحبة فتياتهن وحفيداتهن، بما فيهن الصغيرة التي وُلِدت في المُخيّم، يقمن حفل عيد ميلاد، ويرقصن ويهتفن في بهجة.

ولكن الحال أسوأ في هذا المخيم الذي غادرته مجموعة دعم اللاجئين

قبل وصولنا إلى كاتسيكاس، توقفت أنا وهاتشينغز في قرية إل إم، بالقرب من مدينة كيليني الواقعة غرب اليونان، والتي كانت إحدى المخيّمات التي غادرتها مجموعة دعم اللاجئين للتو، ربما كان من الأفضل لي أن أرى شبح المخزن قبل أن أراه حقيقة حيّة.

أردت أن أذهب إلى هناك لأنه بُنِيَ في قرية قديمة للعطلات، مثل باربا.

كنت آمل أن يمحي ذلك صلابتي، وأن أستعيد شيئاً من تلك الأيّام. وكان متجر هاتشينغز متهالكاً، وكانت الملابس تُسحق على الأرض، والأطفال يُفتّشون بينها، بينما كانت إحدى المتطوّعات اليونانيات تتحدّث في هاتفها.

كان هاتشينغز يسير في حطام المتجر الذي بناه، وهو يهزّ رأسه مطأطأ الكتفين.

تبعنا قائد المعسكر، وكان عصبياً. كان يعتقد أن سلون وهاتشينغز قد غادرا بسبب سلوكه وكان يحاول استرضاءهما. ولكنهما بالفعل لم يذهبا لهذا السبب.

ومع ذلك، كان من النوع الحماسي للغاية، وعندما غادرت مجموعة دعم اللاجئين، أغلق اللاجئون باب المخيم احتجاجاً، مُعتقدين أن قائد المخيم أغلق المتجر.

والتفت لي قائد المخيم قائلاً "دينا، عندما تكونان في السيّارة، أخبريه كل 20 دقيقة أن يعود إلى قرية إل إم"، وظل صامتاً لفترة ثم قال "اطلبي منه كل 10 دقائق أن يعود".

ولم يرد هاتشينغز، وبدا أنه يُفكّر في سؤال أكبر.. هل ذهب عمله الشاق هباءً؟ هل حمله اللاجئون معهم حين غادروا؟ هل أرواحهم الآن أقوى؟

وعائلة سورية تصر على أن يتناولوا الطعام الذي اشتروه باليورو الثمين معهم

في قرية إل إم، أكلنا مع عائلة سورية، وانضم قائد المخيم لنا. لم نتمكّن من لمس الطعام البسيط ونحن نعلم أنهم قد اشتروه باليورو الثمين. ولكن العائلة رفضت السماح لنا بالمغادرة، وأمسكت الأم المُسنّة، التي أنجبت 10 أبناء، بحقيبة ظهري، وتشبّثت بها على صدرها، فنحن وجهنا لهم الإهانة بهذه الطريقة.

لم يكن الأمر هكذا في عيد الشكر بمدينة نيويورك، فقد كانوا في حاجة لهذا الطعام، ومع ذلك، الكبرياء يغلب الجوع، وبقينا.

وفي آخر يوم لي باليونان، بينما كان يتم إغلاق المتجر، كُنت أودّع الناس، وكان هناك رجل مُتحيّر في الأربعينات من عُمره يتجوّل في منطقة الانتظار. بالنظر إلى ملامحه، يمكنني القول بأنه إيراني، ألقيت عليه التحيّة باللغة الفارسية وبدا مُرتاحاً.

وقال لي إنه وَصل للتو، وليس لديه ملابس ولا طعام، ولم يكن مُسجّلاً لدى المتجر بعد.

نظر المتطوّعون إلى أوراقه، ووافقوا على إبقاء المتجر مفتوحاً كي يتمكّن من التسوّق، وطلبوا منه العودة في تمام الساعة الثالثة عصراً، وقالوا إنهم سيفتحون متجر الملابس الرجالية ليتمكّن من الحصول على 10 قطع له. وكان مقاسه أكبر من المُعتاد، آمل أن يجد شيئاً.

وبما أن الوافد الجديد لم يكن يعلم شيئاً عن نظام النقاط، قمت بمساعدته في اختيار طعامه. وحصل على البيض والأرز وكيلو من الموز وزيت، ثم أعاد الزيت وحصل على بعض الكعك والفستق والحليب، ثم أعاد الحليب، ولم يحصل على شيء آخر؛ حيث أن نقاطه الـ20 المتبقّية لم تكن كافية لشراء الزيت، وبدلاً من ذلك، اشترى عُلب عصير، وغادر سعيداً، وأومأ للجميع مُمتنّاً.

وهاهي تعود للزوجين الإيرانيين للمرة الثالثة

وعندما اتّجهت إلى السيارة، فكّرت كم كُنت مُضطرّبة لإعادة زيارة مكان الانتظار الغريب هذا. هذا الجحيم شكّلني، وها هو الآن يُشكّل آلافاً آخرين من موطني، وسنظل للأبد على صلة به، وترتبط هوياتنا به.

ما نسيته أصبح الآن واضحاً ومُلِحّاً. وتذكّرت شيئاً آخر، فهرعت إلى المخيّم مُجدداً ووجدت باباً طَرَقته.

أطفال لاجئون يلعبون كرة القدم مع العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية
أطفال لاجئون يلعبون كرة القدم مع العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية

بالفعل كنت قد طرقت هذا الباب مرّتين. وبالأمس، قال لي الزوج "لا داعي للوداع، أتذكرين؟ كل شيء يحدث ثلاث مرّات". والآن ها أنا أقف قبالة باب العائلة للمرّة الثالثة، أنتظر دعوتي، ولكن لم يفتح أحد، وأطلّت إحدى الجارات برأسها قائلة "إنهم بالخارج، ربما يلعبون كرة القدم".

ورددت عليها: "حسناً، أعتقد أنني سأعود لاحقاً".

وحينها قالت لي: "المرّة التالية في إنكلترا، وغادرت خلف ستارة مؤقّتة، وتذكّرت أننا كُنا نقول ذلك أيضاً".

 

علامات:
تحميل المزيد