رغم إصرار الأهل على تزويجهن مبكراً.. الفتيات السوريات تحاربن الفقر والتقاليد في سعيهنَّ لمواصلة تعليمهن بتركيا

قرابة الـ350 آلاف سوري بين أعمار 6 و18 يقبعون خارج أسوار المدارس دون تعليم في البلاد، وفقاً لتقرير أممي عن الوضع الإنساني أعدته "اليونيسيف"

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/21 الساعة 19:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/21 الساعة 21:00 بتوقيت غرينتش

كل صباح تأتي مايا إلى العمل في صالون حلاقة صغير بحي أيوب التاريخي بإسطنبول. تشغل نفسها من الـ9 صباحاً وحتى الـ6 مساء في مناولة الحلاقين ما يطلبونه من أدوات، وفي كنس الأرضيات وتقديم كؤوس الماء وفناجين القهوة للزبائن، الذين لا يدرك أي منهم أن هذه الطفلة ذات الـ12 ربيعاً فتاة سورية.

فمايا تعلمت اللغة التركية بسرعة كبيرة منذ أن انخرطت في العمل هناك بصالون الحلاقة قبل 3 أعوام، وذلك بعدما قضت عاماً في التسول بالشوارع.

آلاف الفتيات السوريات الموجودات بتركيا لا يذهبن إلى المدرسة هن الأخريات؛ إما لأنهن يزاولن عملاً أو وظيفة، وإما لأنهن أُجبرن على الزواج في عمر صغير.

هذا الأسبوع شهد عودة الطلاب إلى المدارس في أنحاء تركيا، بيد أن قرابة الـ350 آلاف سوري بين أعمار 6 و18 يقبعون خارج أسوار المدارس دون تعليم في البلاد، وفقاً لتقرير أممي عن الوضع الإنساني أعدته "اليونيسيف" يشير إلى الفقر الملازم وعقبات اللغة والصدمة النفسية، من بين الكثير من العوائق الأخرى التي تحول بين الأطفال السوريين والمدارس التركية.

من حلب إلى شوارع إسطنبول

تؤوي تركيا أضخم عدد لاجئين ومهاجرين وطالبي لجوء في العالم؛ إذ وصلت أعداد هؤلاء إلى قرابة 4 ملايين في شهر أبريل/نيسان 2018، يشكل اللاجئون السوريون 3.6 مليون منهم، من بينهم 1.7 مليون طفل.

مايا واحدة من هؤلاء هي وعائلتها: 7 إخوة وأخوات مع أبيها وزوجتيه الاثنتين والذين فروا من مدينة حلب في شمال شرقي سوريا متجهين إلى تركيا عام 2014، حيث نزلوا عند عمة لهم في شقة بحي أيوب الإسطنبولي.

لمايا أخان كبيران بقيا في سوريا للانضمام إلى صفوف المعارضة المقاتلة ضد القوات المؤيدة لبشار الأسد، غير أن أخباراً وردت لاحقاً إلى إسطنبول أفادت بمقتلهما.

بعد وصولهم إلى تركيا مرضت زوجة أبي مايا كثيراً، فلزمت فراشها تاركةً أم مايا تعتني بكل الأطفال، بينما الأب وأحد إخوتها يعملان في التشييد والبناء. المال كان شحيحاً وعانت العائلة لتطعم أفواه 11 شخصاً من مرتبين ضئيلين.

يجوبون شوارع إسطنبول لاستجداء المحسنين، أملاً بالإسهام في إطعام العائلة
يجوبون شوارع إسطنبول لاستجداء المحسنين، أملاً بالإسهام في إطعام العائلة

عندئذ بدأت مايا التي كانت في الثامنة من عمرها وقتها، برفقة أختها نور ذات الـ12 عاماً وقتها، تجوبان شوارع إسطنبول تستجديان المحسنين، أملاً بالإسهام في إطعام العائلة ومعيشتها.

بعد عام من مشاهدتها الفتاتين وهما تشحذان أمام جامع الحي قررت بوكيت إيريشيك، المرأة الستينية صاحبة صالون حلاقة شعر، أن تتدخل.

تقول إيريشيك لموقع "ميدل إيست آي": "أمرّ من أمام الجامع دوماً عندما أغلق متجري لأعود إلى البيت ليلاً، فأرى هاتين البنتين كل ليلة أمام المسجد. لم أشأ التدخل في شؤون عائلتهما، بيد أن الحزن كان يغمرني كلما رأيتهما، طفلتان صغيرتان في الشارع، والله أعلم ما قد يحل بهما".

ذات ليلة كانت تثلج وشعرت إيريشيك بالبرد القارس حتى كادت تتجمد داخل معطفها، فيما الطفلتان ما زالتا هناك! وقتها قررت عدم الانتظار أكثر.

قصدت إيريشيك مايا ونور، أدخلتهما محلها وأطعمتهما حساء ساخناً وسألتهما عن حالتهما، وقررت أن تمنح الاثنتين وظيفة تنتشلهما من الشوارع.

لا مكان لهما في المدرسة

عندما التقت إيريشيك والد مايا ونور، كان أول سؤال سألته عن سبب شحاذة ابنتيه بدلاً من الانشغال بالدراسة، لم تكن العائلة ترغب في أن تذهب أي من البنتين إلى المدرسة، فقد وضعت العائلة عبء كسب المال على عاتقيهما، وفي عمر معين يجبرون بناتهم على الزواج.

عندما رأت أنه ما من وسيلة لتعود بها الفتاتان إلى المدرسة بعد حديثها إلى أبيهما، سألته كم من المال تكسبان، وها هي الآن تدفع لهما المقدار الذي أخبرها به. لكنها متأكدة أنهم سيأخذون نور عما قريب جداً ليجبروها على الزواج، فهي في الـ16 من عمرها، والسبب الوحيد الذي منعهم قبل هذا من تزويجها هو أنها تجني مالاً كثيراً هنا.

أما نور، فرفضت الحديث إلى "ميدل إست آي" للإدلاء بتفاصيل أكثر عن وضعها. المراهقة غير متحمسة لفكرة العودة إلى مقاعد الدراسة، أما أختها الأصغر مايا، فما زالت تحلم بالعودة مجدداً إلى المدرسة.

وعندما صارحت البنت عائلتها بالموضوع، قالت لها أمها إنها ستسمح لها بالعودة إلى المدرسة شريطة أن تتابع العمل بعد دوام المدرسة، وهو شرط وافقت عليه البنت الصغيرة.

لكن مفاجأة غير سارة كانت تنتظر مايا عندما تقدمت إلى التسجيل المدرسي أول مرة في تركيا عام 2014، فقد قيل لها إنه نظراً إلى كون عمرها 13 عاماً في الوثائق والسجلات، فإنها سوف تدخل الصف الـ7، لكن المشكلة هي أن هذه البنت السورية لا تبلغ من العمر سوى 8 سنوات وكل أملها أن تسجل في الصف الـ3!

قرابة الـ350 آلاف سوري بين أعمار 6 و18 خارج المدارس
قرابة الـ350 آلاف سوري بين أعمار 6 و18 خارج المدارس

عبثاً احتجت البنت. تقول مايا: "لم يكن بيدي فعل شيء؛ لذا بدأت الصف الـ7، لكنهم كانوا يدرسون مستوى متقدماً من الرياضيات وأحداثاً تاريخية لم أكن أعرفها، فلم أستطع المتابعة إلا 3 أشهر، ثم في صباح اليوم التالي عدت إلى الشوارع".

أما لماذا اعتقدت السلطات التركية خطأ أن البنت أكبر من عمرها الحقيقي بـ5 سنوات، فالسبب فظيع حسبما روت إيريشيك لموقع "ميدل إيست آي"، ذلك أن العائلة لدى دخولها البلاد أعلمت المسؤولين أن كل بناتها القُصر أكبر من عمرهن الحقيقي، تقول المرأة التركية، ويراودها شك في أن سبب هذا التلاعب قد يكون محاولة من العائلة لمراوغة القوانين التركية التي تمنع زواج القُصر الأصغر من 17 عاماً.

وفقاً لصندوق السكان الأممي، فإن الزواج المبكر يتحول إلى "آلية تأقلم مادي" لدى العائلات اللاجئة التي تمر بضائقة مالية، وإن كانت هذه الآلية تعود على الصغيرات بتبعات ونتائج عصيبة؛ إذ يصبحن عرضة أكبر للاستغلال والإساءة وللمخاطر المضاعفة في أثناء الحمل، كما تجد هؤلاء أنفسهن محرومات من متابعة التعليم.

ومع أن حجم ظاهرة الزواج المبكر في تركيا غير معروف، إلا أن البلاد صُعقت واهتزت في وقت سابق من هذا العام (2018)، عندما انتشر أن مستشفى في إسطنبول قد شهد أكثر من 100 حالة حمل بين المراهقات، منهن 39 بنتاً سورية، في غضون بضعة أشهر فقط، وتزداد المفاجأة عند العلم أن هذه المنطقة يندر فيها حمل خارج إطار الزواج.

كفاح للوصول إلى الجامعة

في حين تظل مايا عازمة على العودة إلى المدرسة ذات يوم لتكمل مشوارها من حيث تركته في الصف الـ3، فإن بعض الشابات السوريات اللاجئات تمكنَّ من متابعة تحصيلهن الدراسي حتى وصلن إلى مرحلة التعليم الجامعي في تركيا رغم كثرة العقبات التي شابت نجاحهن، منهن فاطمة عبد الرزاق ذات الـ22 عاماً.

في عام 2012، غادرت فاطمة مدينتها، اللاذقية السورية، مع أمها وأختيها، في حين ظل الأب هناك حتى عام 2015، عندما اجتمع شمله بعائلته في مدينة غازي عنتاب التركية الحدودية.

تقول فاطمة لـ"ميدل إيست آي": "كانت غازي عنتاب أفضل مدينة ليكسب السوريون فيها المال عام 2012، فمكثنا فيها. كنت أعلم أن عليَّ الذهاب إلى المدرسة، كنت أتممت نصف المرحلة الثانوية في سوريا، ولكن لم نستطع التفكير في هذا الأمر؛ لأننا لم نكن نعلم حتى إن كنا سنبقى في تركيا أم نعود إلى الوطن عما قريب".

وبعمر الـ16، قالت إنها كانت تعمل 12 ساعة يومياً في أحد المتاجر. فبعد عام في غازي عنتاب، بدأت العائلة تتقبل فكرة أن الحرب في سوريا لن تنتهي عما قريب.

القليل منهن استطعن إكمال الدراسة والوصول إلى الجامعة
القليل منهن استطعن إكمال الدراسة والوصول إلى الجامعة

استمرت أمها وأختاها بالعمل، في حين أصرت فاطمة على الذهاب إلى المدرسة. في ذلك الوقت، لم يكن مسموحاً للسوريين بدخول المدارس التركية الحكومية، فسجلت عبد الرزاق في ثانوية حديثة الافتتاح بغازي عنتاب تدرس المنهاج السوري، وهناك في تلك المدرسة تخرجت.

ولأنها سورية من أصل تركماني، فقد كانت تعرف أساسيات اللغة التركية، بيد أنه كان لا يزال عليها تعلُّم الأبجدية والقواعد لكي تصل إلى مستوى الطلاقة الذي يؤهلها للالتحاق بالجامعة.

بعدما سجلت في دورات تعليم اللغة التركية جاء قبول عبد الرزاق بجامعة سلجوق في مدينة قونية وسط الأناضول بمنحة دراسية.

في وقت سابق من هذا العام (2018)، حازت عبد الرزاق درجة في الصحافة من الجامعة المذكورة، وهي الآن تعمل بدوام حر في الإعلام الأجنبي بتركيا وسوريا، وتنسب نجاحها في الوصول هنا إلى دعم عائلتها.

تقول: "لو كانوا عاملوني مثلما يعامل كثير من السوريين بناتهم، فلربما كنت ظللت أعمل في ذلك المتجر نفسه لقاء حفنة قليلة من النقود. لكنني الآن أستطيع دعم القضية السورية، وأن أكون صوت السوريين، وأدافع عن حقوقنا حول العالم. الدراسة كانت الخيار الوحيد لي كي أبقى على قيد الحياة خارج وطني، ولكي أعود إليه عند الإمكان".

أكبر مشكلة للفتيات السوريات في تركيا هي التعليم بالنسبة لفاطمة، فالعائلات لا تراه أولوية؛ نظراً إلى الفقر، وتفضل العائلات تزويج بناتها في سن مبكرة حتى قبل بلوغهن الـ17، ولكن إن رغبن حقاً فثمة فرص كثيرة لهن للعودة إلى المدرسة.

التعليم سلاح السوريات لتفادي الزواج المبكر

نورهان علو شابة سورية أخرى، قالت إنه من حسن حظها أن حظيت بدعم والديها في متابعة دراستها بعدما فرّوا من عفرين عام 2013 متجهين إلى هاطاي التركية الحدودية.

بعدما تركت نورهان عام 2012  جامعة حلب التي كانت تدرس الاقتصاد فيها بسبب الحرب، انضمت إلى منظمة أجنبية غير حكومية بهاطاي تقدم المساعدات للأطفال السوريين.

وفي عام 2014 وبعدما بدأت تتأقلم مع فكرة أنها لن تتمكن من العودة إلى وطنها قريباً، قررت "علو" العودة إلى دراستها.

قبلت "علو" في النهاية بجامعة METU جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة، والتي هي واحدة من أفضل جامعات تركيا، وكانت "علو" واحدة من السوريات قليلات العدد وسط السوريين بالجامعة، البالغ عددهم 30 طالباً فقط.

لطالما أخبرها والداها بأن التعليم أهم ما في حياتها، وكانت تشعر بالظلم لأنها حُرمت من متابعة الجامعة وُأجبرت على ترك أصدقائها فيها. بعضهم غادر الوطن، وبعضهم مات، "ينبغي أن تكون المرحلة الجامعية واحدة من أكثر مراحل حياة الإنسان هدوءاً وروعة، بيد أنها لم تكن كذلك بالنسبة لنا، فحياتنا قسمت إلى نصفين؛ ولهذا السبب لطالما أردت المتابعة والتخرج، وشعرت بالسعادة تغمرني عندما عدت إلى الجامعة بتركيا"، تضيف الشابة.

 نورها واحدة من السوريات القليلات في جامعة الشرق الأوسط التقنية
نورها واحدة من السوريات القليلات في جامعة الشرق الأوسط التقنية

من خلال عملها مع المنظمات الأجنبية غير الحكومية في هاطاي، شاهدت "علو" بأُمّ عينها العوائق والعقبات التي تواجه الكثير من الشابات والفتيات السوريات اللاتي يرغبن في متابعة تعليمهن.

"الكثيرات من السوريات يضطررن؛ إما إلى العمل وإما إلى الزواج المبكر، وبكثرة! عندما رأيت الأطفال السوريين الذين ساعدناهم بالمنظمة غير الحكومية، حوامل بعمر الـ14 والـ15، شعرت شعوراً سيئاً. بالطبع، الزواج المبكر كان يحدث في سوريا قبل الحرب، ولكن أوضاعهم المادية زادت سوءاً بعد المجيء إلى تركيا، والفتيات أُرغمن عليه أكثر، فبالنسبة للفتيات السوريات، الأعراف الاجتماعية التي كانت صعبة في سوريا باتت أصعب في تركيا؛ لأنهن أغراب"، تضيف الشابة.

نورهان كلها إيمان بفائدة التعليم للفتيات السوريات، وتعتقد أن الفتاة إن حصلت على التعليم، فهذا يحميها من الزواج المبكر ومن الاستغلال، "يحميك من نفسك؛ لأنك تتنورين أكثر. هذا هو سلاحك"، تضيف الشابة بحماسة.

وبهذه الأفكار التي تتملّكها وتؤمن بها، رفعت نورهان لافتة في حفل تخرُّج جامعتها، مكتوباً عليها "إن كنتُ أنا أستطيع… فكل فتاة سورية صغيرة تستطيع".

علامات:
تحميل المزيد