«بالاو في مواجهة الصين»! جزيرة صغيرة تدافع عن نفسها أمام عملاق

لماذا ضايقت هذه الجزيرة الصغيرة الدولة الأكبر في العالم؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/15 الساعة 09:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/15 الساعة 09:57 بتوقيت غرينتش

في عصر يوم أحد هادئ، يجلس أونغرونغ كامبس كسولي مرتدياً قميص هاواي، ومحتسياً الشاي المثلج، تحت المراوح التي تنشر ببطء الهواء الرطب في حانة عبارة عن شرفة تطل على مسبح فندق.

لكن هدوء المشهد خادع، إذ يوضح كسولي أنَّ جزيرة بالاو الصغيرة التي تعد منزلاً له -وهي تظهر على الخريطة كنقطة في الزاوية الشمالية الغربية من المحيط الهادئ ويبلغ عدد سكانها أكثر من 20 ألف نسمة بقليل- قد أثارت غضب إحدى أقوى الدول في العالم، وهي الآن في خضم نزاع سياسي-جغرافي.

وقال كسوليوهو رئيس تحرير إحدى الصحيفتين اللتين تصدران في بالاو، لصحيفة الغارديان البريطانية: "إنَّهم (الصين) يريدون إضعاف تساي إنغ-ون (رئيسة تايوان)، وهنا يأتي دور بالاو".

تُعتبر بالاو إحدى الـ17 دولةً التي رفضت التخلي عن العلاقات الدبلوماسية مع تايوان وتحويل ولائها للصين.

أقامت بالاو، التي كانت خاضعة لإدارة الولايات المتحدة حتى استقلالها في عام 1994، علاقات دبلوماسية مع تايوان في عام 1999، بعد بضع سنوات مما وصفه كسولي بـ "التودد" من كل من بكين وتايبيه. والصداقة التي دامت قرابة العشرين عاماً قوية، إذ قال كسولي: "لدى كل شخص في بالاو قصة" عن التفاعل مع تايوان، سواء كان السفر إلى هناك لقضاء العطلة أو للتعليم أو لتلقي العلاج الطبي.

لكن حلفاء تايوان ينسحبون تدريجياً، مع ممارسة الصين الضغط عليهم، وسعيها لفرض عقوبات على من يعترفون بتايوان كدولة تتمتع بالحكم الذاتي، التي تعتبرها بكين أرضاً صينية. حولَّت السلفادور ولاءها الشهر الماضي، وقطعت بوركينافاسو وجمهورية الدومينيكان العلاقات مع تايوان في وقت سابق من هذا العام.

أما البلدان التي تواصل الاعتراف بتايوان -ولا سيما الحلفاء التايوانيين الستة الموجودين في المحيط الهادئ، حيث تسعى الصين إلى زيادة نفوذها- فتشعر بالضغط.

حكومات تتحارب فيما بينها

بالنسبة إلى بالاو الصغيرة، حيث تمثل السياحة 42.3% من إجمالي الناتج المحلي، فقد جاء هذا الضغط في شكل ما يطلق عليه السكان المحليون "حظر الصين".

تشكل السياحة الصينية المصدر الرئيسي للدخل في بالاو
تشكل السياحة الصينية المصدر الرئيسي للدخل في بالاو

في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أمرت الحكومة الصينية مسيّري الجولات السياحية بالتوقف عن التسويق وحجز رحلات منظمة إلى بالاو، مع ظهور تقرير يفيد بأن مخالفة ذلك الأمر قد تؤدي للتعرض لفرض غرامات.

يصرُّ البعض على أن بالاو لطالما كانت إحدى الوجهات المدرجة بالقائمة السوداء، لكن الحكومة الصينية غضَّت الطرف عن ذلك حتى وقت قريب.

يقول إيفان ريس، محلل مختص في الشأن الآسيوي والمحيط الهادي في مركز دراسات ستراتفور للدراسات الاستراتيجية والأمنية الأميركي، إنَّ الصين تستخدم مثل هذا الحظر -إلى جانب منح وحجب تأشيرات السفر للخارج (ADS)- باعتباره "جزءاً من مجموعة أدوات أكبر للسلوك القسري".

في العام الماضي، كانت كوريا الجنوبية تواجه حظراً مماثلاً، بعد خلاف حول نشرها لنظام دفاع صاروخي أميركي على أرضها، وقد كان لهذا الحظر تأثير مدمر على السياحة في البلاد خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيونغ تشانغ.

وقال ريس إنَّ الحظر يؤثر على الرحلات المُنظمة التي تُحجز عن طريق وكالات الطيران والسفر، التي تمثل حوالي 45% من جميع السياحة الصينية، غير أن المسافرين الصينيين المستقلين لا يزالون قادرين على زيارة الوجهات "المحظورة".

قال رجل أعمال صيني يتخذ من بالاو مقراً له، إنَّ كلمة "بالاو" قد حُظرت كذلك من محركات البحث على الإنترنت في الصين.

وكان تأثير الحظر المفروض على بالاو قاسياً

انخفض عدد السائحين القادمين من الصين بشكل هائل، لدرجة أنََّ أحد خطوط الطيران التي تسير رحلات جوية عارضة بين الصين وبالاو، أوقفت عملها في نهاية أغسطس/آب؛ لأن "الحكومة الصينية جعلت بالاو وجهة سياحية غير قانونية، وأغلب الظن أنَّ ذلك قد حدث ربما بسبب ضعف الوضع الدبلوماسي".

أظهر مسيرو الجولات السياحية في بالاو، وكذلك المسؤولون الحكوميون غضبَهم إزاء التلميحات بأنَّ الحظر دمّر بالاو تماماً -إذ كان لا يزال هناك 9 آلاف زائر في يوليو/تموز- لكن معدلات إشغال الفنادق انخفضت، مما عاد بالضرر كذلك على الأعمال التجارية.

معدل انخفاض السياحة الصينية إلى بالاو

كان الضرر الناجم عن الحظر بالغاً، إذ سبق هذا الحظر مباشرة ازدهار مذهل في السياحة الآتية من الصين، فقد ارتفع عدد السائحين الوافدين من البلاد من 634 عام 2008، أي أقل من 1% من مجموع الزوار، إلى أكثر من 91 ألف زائر في 2015، وهو ما يعادل 54% من جميع الزوار.

في مطعم Elilai، الذي يُروَّج له بكثافة على لوحات الإعلانات في جميع أنحاء الجزيرة باعتباره "المطعم الأفضل في بالاو"، كنت أجلس وحدي أتناول الطعام في مطعم يمكنه استيعاب 50 شخصاً بشكل مريح.

وقد بدت النادلة دونيتا روز كاجوان-تيباي آسفة على خلوّ المكان من الزبائن، قائلة إنَّ ذلك نتيجة لـ "الحظر الذي تفرضه الصين"، رغم أنَّها تقول إنَّها لا تعرف عن الأمر أكثر من ذلك.

وتوضح دونيتا: "سألت صديقي الصيني الذي يعمل مرشداً سياحياً، وقال بالاو والصين، الحكومات تتحارب فيما بينها".

موجة انتعاش

في عامي 2014 و2015 لم تكن المطاعم فارغة على الإطلاق، كان ذلك حينما بدأت رحلات الطيران العارضة القادمة من الصين تهبط يومياً محملة بمئات السياح.

تقول ليلاني ركلاي، رئيسة غرفة شركات السياحة في بالاو، إنَّ أثر ذلك على الجزيرة كان ساحقاً، مضيفة: "كان الجميع في المدينة منشغلين بالتبضّع، فقد كانوا يحملون أموالهم في حقائب لشراء كل شيء يقع في مرأى بصرهم".

ليلاني تعمل في السياحة في بالاو
ليلاني تعمل في السياحة في بالاو

كانت ليلاني تمتلك قاربين لنقل المجموعات السياحية إلى جزر روك، أشهر المعالم الجاذبة للسياح في بالاو، وقد كان القاربان يبحران بمعدل أربعة أيام أسبوعياً، خلال موسم الذروة، قبل موجة الانتعاش التي حفّزتها الصين.

تتابع ليلاني: "لكن لمدة عام تقريباً كان القاربان يبحران سبعة أيام في الأسبوع".

وتضيف: "كان بعض الناس يقولون: هذه هي الاستراتيجية الصينية، وهذا ما يفعلونه، سيضخّون الكثير من المال هنا، حتى يجعلوك تدمن الأمر كالكوكايين، ثم بعد ذلك سيغلقون ذلك الصنبور. لكن بالطبع، كان المال أكثر تأثيراً لذا لم يستمع الناس لما كان يُقال".

بعد بلوغه سن السبعين عاماً، كان فرانسيس توريبيونغ قد شغل كل الوظائف تقريباً في مجال السياحة. يقول توريبيونغ إنَّ ذلك التراجع أثّر على "الجميع". اضطُر توريبيونغ لبيع نُزُله الذي يضم 25 سريراً، لكنه يقول إنَّه تفادى تلك الأزمة على نحوٍ هيَّن نسبياً.

اضطُر توريبيونغ لبيع نُزُله الذي يضم 25 سريراً، لكنه يقول إنَّه تفادى تلك الأزمة على نحوٍ هيَّن نسبياً
اضطُر توريبيونغ لبيع نُزُله الذي يضم 25 سريراً، لكنه يقول إنَّه تفادى تلك الأزمة على نحوٍ هيَّن نسبياً

يقول توريبيونغ: "هناك الكثير من الشباب الذين ذهبوا إلى بنك التنمية واقترضوا مئات الآلاف من الدولارات لشراء قوارب". الآن، قد انخفض الطلب إلى حد كبير، لدرجة أنَّهم سيكونون محظوظين إن استطاعوا توفير ما يكفي لتغطية الوقود وتسديد القروض.

هل هي نعمة بزي نقمة؟

رغم كل ما يعانونه، يتفق معظم الناس على أن موجة الانتعاش كانت غير مستدامة.

في ذروة موجة الانتعاش عام 2015، وصل إلى مدينة بالاو 169 ألف سائح، وقد حاولت أنظمة الكهرباء والمياه والصرف الصحي في البلد بشق الأنفس تقديم الخدمات لهذا العدد، إذ كانت هناك زيادة هائلة في الاستهلاك، مما تسبب في ارتفاع أسعار الغذاء والإيجارات.

يقول نغيرابيلاس تمتاتوشل، رئيس هيئة Palau Visitors Authority، وهي ذراع تسويق للسياحة تابع للحكومة: "كان هناك غضبٌ شديدٌ، ارتفعت أسعار سرطان البحر، وارتفعت أسعار الأسماك والإيجارات، وتشرّد الناس. إذ كانت هناك شقة كانت تساوي 500 دولار، فهي الآن تساوي 1200 دولار. كما كان هناك نقص في الغرف. لذا تحوّلت الشقق إلى الفنادق".

يقول كيفن ميسبلو، مدير مكتب السياحة، إنَّ الحظر الذي فرضته الصين قد يكون "نعمة بزي نقمة"؛ إذ إنَّ ذلك يمنح بالاو فرصة لإعادة تقييم نهجها في مجال السياحة.

وأضاف: "كان الرئيس واضحاً للغاية بشأن التوجه: سياحة مستدامة منخفضة التأثير وعالية القيمة".

في الواقع، كانت البلاد تتجه نحو هذا المسار قبل أن يُفعّل الحظر. في عام 2015، أعلن رئيس بالاو، تومي ريمنغساو، انخفاض عدد الرحلات الجوية العارضة بين الصين وبالاو، استجابةً للمخاوف البيئية والاجتماعية.

يعتقد ركلاني أنَّ هذا القرار، الذي دخل حيز التنفيذ تدريجياً، يعني أن بالاو نجت من مشكلة مالية أكثر خطورة. إذ كما يقول: "لقد خرجنا في الوقت المناسب بالتأكيد، وهذه المتاعب التي نمر بها كان يمكن أن تكون أسوأ بكثير".

منذ حظر الصين، أعاد ريمنغساو التأكيد على ولائه لتايوان، إذ قال لصحيفة Nikkei Asian Review الاقتصادية، إنَّه في حين كانت الصين "شريكاً مهماً"، فبالاو "لديها أمور أكثر مشتركة تجمعها بتايوان".

وقد أظهر بيان صادر عن المتحدث الرسمي باسمه درجة أكبر من التحدي، إذ أُشير فيه إلى أنَّ بالاو لن ترضخ للضغوط: "بالاو بلد تحكمه القوانين، هي دولة ديمقراطية، ونحن من نتخذ قراراتنا الخاصة".

رغم ذلك، هناك آخرون لا يمانعون رؤية بالاو تبدّل ولاءاتها الدبلوماسية.

ووفقاً لصحيفة Island Times التي تصدر في بالاو، فقد صرّح رئيس مجلس الشيوخ، هوكونز باولز، في يوليو/تموز في حفل وضع حجر الأساس لمنتجع تدعمه الصين، قائلاً: "لقد حان الوقت لأن نركز مصالحنا ورؤانا تجاه جمهورية الصين الشعبية".

يتوقع أن تكون القضية الصينية-التايوانية قضية رئيسية في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2020. لكن السفير التايواني لدى بالاو، والاس تشاو، يقول إنَّه ليس قلقاً بشأن هذه العلاقة، واصفاً إياها بكونها "قوية للغاية".

في حديثه لصحيفة The Guardian أثناء حدث نظم لـ25 من السفراء الشباب التايوانيين، حيث كانوا يقضون عدة أيام في بالاو كجزء من إحدى مهمات "قوة الإقناع"، يقول تشاو إنَّ هذا النهج "المتواضع والقريب للشعب، الذي يهتم بمصالح الشعب" هو ما سيُبقي على بالاو إلى جانبنا.

لكن قد يسهم ذلك في إقناع سكان بالاو بالمساعدات التي تقدمها تايوان إلى بالاو كل عام، التي تفوق الـ10 ملايين دولار، وهي أموال تُذكّر بها اللافتات المنتشرة في أنحاء الجزيرة، معلنة عن مشروعات طرق أو مبانٍ تُموّل عن طريق المنح التايوانية.

قال تشاو: "أنا واثق تماماً من أنَّ شعب بالاو يعرف من هو شريكه الحقيقي، وإلى أي جانب يجب أن ينحاز لتحقيق مصالحه".

تحت حركات المراوح البطيئة، يقول كسولي إنَّه لا يتوقع حدوث تحوّل دبلوماسي قريباً، مضيفاً: "إنَّه جزء من ثقافتنا أن نكون شديدي الولاء لأصدقائنا".

كما أن شعب بالاو يفضّل الصورة التي يظهر فيها باعتباره دولة تقف في وجه قوة عظمى.

يقول كسولي: "البعض في دوائري الاجتماعية يستمتعون بمثل هذه الشهرة (التي تحظى بها بالاو الآن). بالاو في مواجهة الصين! هذا الشيء الصغير ضد أكبر بلد في العالم! يقول بعض أصدقائي: إذا كانت لدينا القدرة على اتخاذ القرار، فلنقف مع تايوان حتى وإنْ تخلى عنها الجميع، ستتأمل الدول الأخرى حقيقة أننا لا نبدل ولاءنا ببساطة، بل نقف مع أصدقائنا حتى النهاية".

علامات:
تحميل المزيد