تدق طبول الحرب مؤذنة بقرب اندلاع معركة إدلب، آخر معاقل المعارضة في الحرب الدائرة في سوريا منذ أكثر من 7 سنواتٍ. أوشكت الحرب على أن تضع أوزارها، ويبدو أن معركة إدلب -التي تبدو بالفعل مروِّعٌة- ستكون تتويجاً لكل ما هو سيئ في تلك الحرب، بحسب تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
إدلب خلال سبع سنوات من الحرب
كانت إدلب، التي تقع شمال غرب سوريا، إحدى أوائل المدن التي انتفضت ضد آل الأسد. وبعد أن سيطر عليها النظام عام 2012، استولى عليها تحالفٌ قويٌّ بين جبهة النصرة الموالية للقاعدة، وأحرار الشام، وهي فصيل إسلامي يتلقى الدعم من تركيا.
وأصبحت إدلب العام الماضي واحدةً من بين "مناطق خفض التصعيد" الأربع، التي أعدتها روسيا بالتنسيق مع إيران وتركيا. وظلت المقاومة في هذه المناطق قويةً واحتاج نظام الأسد إلى متنفَّسٍ، بسبب قلة المقاتلين لديه. ثم صارت المناطق ستاراً دبلوماسياً للزحف المتجدِّد للنظام إلى جانب الميليشيا الإيرانية على الأرض والقوات الجوية الروسية في السماء.
استعاد التحالف الموالي للأسد، في خطوة أبعد ما تكون عن خفض التصعيد، درعا في الجنوب، حيث بدأت المعارضة، والغوطة الشرقية قرب دمشق. وهُجِّر من نجا من المقاتلين واللاجئين المدنيين من أطلال تلك المناطق شمالاً نحو إدلب، ليظلوا حبيسي ما أطلق عليه سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، "المرتع الأخير للإرهابيين" في سوريا، الذي صار الآن جاهزاً للاجتثاث.
ما هو حجم القوة العسكرية للمعارضة في إدلب؟
وتتباين تقديرات أعداد المقاتلين في محافظة إدلب، غير أنّ العدد يُعتقد أنَّه يتراوح ما بين 30 ألفاً و70 ألف مقاتلٍ. وتعد هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، هي أقوى الفصائل، نظراً لاستقطابها كثيراً من مقاتلي أحرار الشام المتحالفين مع تركيا إلى صفوفها. وقد أعادت أنقرة تنظيم صفوف الجماعات الموالية لها في سوريا لتصبح "الجبهة الوطنية للتحرير"، لتكون في مواجهة هيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى 12 "نقطة مراقبة" تابعة للجيش التركي في إدلب يُفترض أن تفصل بين الأطراف المتقاتلة.
لكن هناك كذلك ما يزيد عن 3 ملايين مدنيٍّ في المنطقة، نصفهم لاجئون من معاقل المعارضة الأخرى، يتكدسون جميعاً في مساحة أقل من 1500 كم مربعٍ. ولم تعد أمامهم مناطق خفض تصعيد أخرى للفرار إليها.
يعرف من هُجِّر من قبلُ ما هي المؤشرات التي سبقت الهجمات التي شُنَّت ضد مدنهم، فقد كانت: غارات جوية دورية لاختبار رد الفعل العالمي، استهداف المستشفيات والأسواق، والإدانة الاستباقية لمحرِّضين جهاديين أشيع أنَّهم يجهزون لشنِّ هجماتٍ كيماويةٍ وإلصاقها في الحكومة السورية (التي استعملت الغاز السام في دوما في عملية الغوطة).
تركيا تريد شيئاً، وروسيا تريد شيئاً آخر
ولم تتمكن روسيا وتركيا وإيران في قمة طهران الجمعة الماضي 7 سبتمبر/ أيلول من الوصول إلى اتفاقٍ بشأن طريقة إنقاذ إدلب وأهلها اليائسين من الدمار. واختلف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم التركي رجب طيب أردوغان على الملأ.
تريد أنقرة إيقاف الهجوم؛ لأنه سيسفر عن كارثةٍ إنسانيةٍ تؤدِّي إلى موجةٍ جديدةٍ من اللاجئين. وقد أغلقت تركيا حدودها، بعد أن استضافت بالفعل 3.5 مليون لاجئٍ سوريٍّ. ولكنّ هذا ببساطةٍ سيوجِّه تدفق اللاجئين نحو منطقتين مكتظَّتين بالفعل واقعتين تحت سيطرتها في شمال غرب سوريا، وهما عفرين وجرابلس. وقد سمح بوتين باستيلاء أردوغان على هاتين المنطقتين خلال العامين الماضيين، لكن من منطلق أن تتكفَّل تركيا بخطر الجهاديين في إدلب. والآن تعتزم موسكو تصفية هذا التهديد، ومنه أعدادٌ كبيرةٌ من المقاتلين الأوزبكيين والشيشان الذين يمكن أن يعودوا من سوريا إلى روسيا.
فماذا عن القوات الغربية التي تمنت سقوط نظام الأسد؟
عدد من القوى الغربية على رأسها أميركا تمنَّت سقوط نظام الأسد، لكنها لم توفر الوسائل اللازمة للمعارضة السورية لتحقيق هذا، متعلِّلة بأنَّ الأمر شديد التعقيد.
وتعمل القوات الأميركية على إخراج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) -الجماعة الجهادية الناجمة عن التهوُّر الغربي في العراق والتقصير في سوريا- من آخر معاقله في وادي الفرات جنوب شرق إدلب. وجد الرئيس دونالد ترمب وقتاً ليُغَرِّد أنّ روسيا وإيران ترتكبان "خطأً إنسانياً فادحاً" بالتحريض على حمام دم.
أما القوى الأوروبية منشغلةٌ بمحاولة رفع أيديها عن سوريا، بل وتجاهلها عند الإمكان. ولا يبدو أنها مستعدة للتعامل مع كارثة اللاجئين القادمة التي تهدِّدُ بتجديد هستيريا "المهاجرين" التي اجتاحت أوروبا في 2015 و2016.
وتحاول روسيا إقناع ألمانيا وفرنسا بقدرتها على تسهيل عودة 6 ملايين لاجئٍ سوريٍّ تقريباً، لكن في حالة تصالح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع حكم الأسد بغرض الاستقرار، وتوفير الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا بعد ما سوِّيت بالأرض.. وهذا وهمٌ.
ما الأمر الذي لن يسمح به النظام؟
لن يسمح نظام الأسد أبداً بإعادة خلق التوازن الديموغرافي الذي كان موجوداً قبل الحرب، والمتمثل في الأغلبية السُنِّية بنسبة 70%، وهو توازنٌ كاد يُسقِط نظام الأسد المنتمي إلى الأقلية.
ويعرقل النظام عودة الرجال والفتيان السنَّة العرب ممن هم في سن يسمح لهم بالقتال. وأصدر مراسيم -أبرزها القانون رقم 10 سيئ السمعة أو قانون أملاك الغائبين- لنزع ملكية عقارات اللاجئين وأصولهم.
تملك روسيا وسيلة ضغطٍ على أوروبا، التي تخشى موجة فزع أخرى يسبِّبها اللاجئون. لكن الأوروبيين يملكون شيئاً يريده بوتين: القدرة على تطبيع العلاقات مع سوريا والأموال اللازمة لإعادة بنائها. وقد يكمن في خضمِّ هذا الابتزاز المتبادل مفتاح تدخُّلٍ دبلوماسيٍّ لمنع وقوع هجوم إدلب.
المؤكَّد هو أن الأزمة السورية لن تنتهي بالتمنِّي. فإدلب توشك على إعادة وضع الصراع على الأجندة الدولية، على نحوٍ بدأت فظاعته تتكشَّف.