47 عاماً على عملية ميونيخ.. نفذتها مجموعة فلسطينية واستغلتها إسرائيل لتحقيق مآرب أخرى

أيلول الأسود واحدة من أكثر لحظات التاريخ العربي التباساً ومأساوية، لحظة تواجهت المقاومة مع الدولة، الثورية مع الاستقرار

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/11 الساعة 14:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/25 الساعة 09:19 بتوقيت غرينتش

قبل 47 عاماً وقعت عملية هزت العالم، وأثارت ضجة هائلة وكانت لها تداعيات كبيرة.

إنها عملية ميونيخ التي قامت خلالها منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية، في الخامس من سبتمبر/أيلول عام 1972، باختطاف 11 رياضياً إسرائيلياً، خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية المقامة في مدينة ميونيخ الألمانية.

وانتهت محاولة إطلاق سراح اللاعبين بشكل مأساوي، بعدما قتلوا جميعاً ومعهم 5 من الفلسطينيين الخاطفين.

ولكن ما الذي دفع هذه المجموعة لتنفيذ هذه العملية التي هزت الرأي العام العالمي؟ ومتى وكيف تشكلت هذه المجموعة؟ ولماذا سمت نفسها بهذا الاسم الغريب "أيلول الأسود"؟

والأهم: هل استغلت إسرائيل عملية ميونيخ لتصفية النخب الفلسطينية سواء العسكرية أو الثقافية؟

في الأردن كانت البداية لما سيحدث في ميونيخ

يعبّر اسم أيلول الأسود عن واحدة من أكثر اللحظات التاريخ العربي التباساً ومأساوية، لحظة تواجهت المقاومة مع الدولة، الثورية مع الاستقرار، تداخل فيها رفض الهزيمة مع الفوضى، وانقلبت فيها نشوة النصر في معركة الكرامة الشهيرة  عام 1968 التي التحم فيها الفدائيون الفلسطينيون مع الجيش الأردني إلى واحدة من أسوأ فصول الاحتراب العربي البيني، (بالطبع قبل الاحتراب العربي الذي وقع عقب فشل الربيع العربي) الذي وقع بين الجيش الأردني وفصائل المقاومة الفلسطينية فيما عرف باسم أيلول الأسود.

جذور الخلافات بين المقاومة الفلسطينية والنظام في الأردن تعود لعام 1963 عندما رأى الأردن في قرار الجامعة العربية في هذا العام والقاضي بتأسيس جيش تحرير فلسطيني خطراً أو انتهاكاً لسيادته على الضفة الغربية، وزاد الأمر توتراً بقرار المجلس الوطني الفلسطيني بعد ذلك بعام مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.

هزيمة 67 دفعت بالآلاف من الفلسطينيين للنزوح إلى الأردن
هزيمة 67 دفعت بالآلاف من الفلسطينيين للنزوح إلى الأردن

وعقب هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل عام 1967، توافد عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، من أبناء الضفة الغربية والقدس، إلى الأردن، (إضافة إلى الموجودين أصلاً) بحثاً عن ملاذ.

وسريعاً، تشكلت العديد من حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة، بالإضافة إلى الحركات التي كانت قائمة بالفعل، واتخذوا من الأراضي الأردنية قواعد للقيام بعمليات فدائية ضد إسرائيل. ومن أبرز الجماعات التي تواجدت على الساحة خلال تلك الفترة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير الفلسطينية وحركة فتح.

دولة داخل دولة.. وانقسامات داخل كل دولة!

ساندت القيادة والجيش الأردني في البداية الحركات الفدائية وعملياتها ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن بمرور الوقت خفتت هذه المساندة بعدما تنامى نفوذ الحركات الفلسطينية وأصبحت تشكل ما يشبه الدولة المنفصلة داخل المملكة الأردنية.

وفي هذا الصدد، يروي حسان بكر، الصحافي بجريدة الأهرام المصرية، الذي زار الأردن خلال تلك الفترة، أن "القيادة الفلسطينية كانت تقريباً بمثابة الحاكم الفعلي للعاصمة الأردنية عمّان.

يقول: "أذكر من ضمن الذكريات أنه في يوم من الأيام وصلتُ إلى العاصمة الأردنية عمان قادماً من دمشق، وكان معي جواز السفر لكنني لم أقدم جواز السفر إلى السلطات الأردنية، ولكن كان معي تصريح من قيادة الكفاح المسلح، ودخلت فأعطيته للكفاح المسلح ودخلت إلى العاصمة الأردنية".

تزايد التوتر بين الملك حسين والجيش الأردني من جهة، وبين الحركات الفدائية من جهة أخرى، واندلعت أعمال عنف بين الطرفين راح ضحيتها عشرات القتلى. ووصل الخلاف إلى حد محاولة بعض الحركات الفلسطينية اغتيال الملك حسين أكثر من مرة، وذلك لاعتقادها أن الملك يريد طردهم من الأردن، ويسعى للسلام مع إسرائيل. فيما كانت القيادة الأردنية تعتقد أن الحركات الفلسطينية تسعى إلى قلب نظام حكم المملكة.

وكان الفلسطينيون منقسمون إزاء طريقة التعامل مع الملك، فبينما كان يميل عرفات للتهدئة فإن الجبهة الشعبية كانت تريد إقامة ما وصفته بـ"نظام ديمقراطي وطني" في الأردن، كما أنه داخل النظام الأردني كان هناك مَنْ يتهم الملك حسين بالضعف أمام انتهاكات الفلسطينيين.

وفي 6 سبتمبر/أيلول 1970، قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باختطاف 4 طائرات، ووجهت 3 منها إلى مهبط طائرات داوسون فيلد الأردني، محتجزة العشرات من الركاب، ثم قامت في 12 من نفس الشهر بتفجيرها، بعد مغادرة الركاب، أمام أعين العالم كله.

إنه كان حقاً قتال الأخوة الأعداء.. الأمر ليس مجرد تشبيه  

رأت السلطات الأردنية أن الحركات الفلسطينية تجاوزت الحدود بكثير، فأمرت الجيش بالتحرك. وفي يوم 17 سبتمبر/أيلول شنت القوات الأردنية حملة عسكرية موسعة -ستعرف فيما بعد بحملة أيلول الأسود- هدفها استئصال شأفة منظمات المقاومة الفلسطينية من الأردن.

استمرت المعركة 10 أيام، وتوقفت بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار، توسَّطت فيه دول عربية على رأسها مصر، لكن الاشتباكات عادت مجدداً وتواصلت لنحو 10 أشهر. وفي 19 من يوليو/تموز 1971، أعلن رئيس الوزراء الأردني وصفي التل إنهاء وجود المقاومة الفلسطينية على أراضي الأردن، وترحيلها إلى لبنان.

كانت هذه المعارك تمثل ذروة الاقتتال العربي – العربي حتى ذلك الوقت، بل كانت تعد بشكل آخر اقتتالاً فلسطينياً فلسطينياً، إذ كان الفلسطينيون يشكِّلون 60% من عديد الجيش الأردني، وكثيراً ما كان يتواجد الأخوة قسم مع الفدائيين وقسم مع الجيش.

ومن روح أيلول خُلقت هذه الحركة الانتقامية.. ولكن من أنشأها؟

خرجت حركات المقاومة الفلسطينية من الأردن بخسائر فادحة، بعدما قتل المئات من عناصرها، وهو ما أدى إلى انهيار الروح المعنوية لمقاتليها.

سعت حركة فتح إلى إعادة الروح لرجالها، فقررت خلق منظمة جديدة تكون واجهة لها، بحيث ترتكب من خلالها "الأعمال القذرة"، فيما تظل يدها رسمياً نظيفة. ومن هذا ولدت "أيلول الأسود"، بحسب القيادي السابق بالمنظمة محمد داوود عودة المعروف باسم "أبوداوود".

جمع صلاح خلف "أبوإياد"، القيادي بـ"فتح" وقائد أجهزتها الأمنية، مجموعة منتقاة من مقاتلي الحركة، وشكّل منهم نواة المنظمة الجديدة. ومن هؤلاء جواد أبوعزيزة، وزياد الحلو، ومحمد خير، ويوسف النجار، وعلي حسن سلامة، وأحمد القيعي "بن بيلا"، وأبوالوليد العشي.

قررت بعض المجموعات الفلسطينية أن تكون أولى عمليات "أيلول الأسود" موجهة إلى الأردن للرد على ما فعلته بحق المقاومة، وتم اختيار وصفي التل ليكون الهدف. وكما هو مخطط، اغتال 4 من عناصر المنظمة الوليدة الرجل خلال زيارته للقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1971. وكانت هذه شهادة ميلاد منظمة أيلول الأسود التي خرجت للعالم بهذه العملية المدوية.

عملية ميونيخ.. سنطارد الإسرائيليين في كل مكان

في فجر 5 سبتمبر/أيلول 1972 قامت فرقة قوامها 8 أشخاص من منظمة "أيلول الأسود" باقتحام مقر البعثة الرياضية الإسرائيلية في القرية الأولمبية بميونيخ خلال انعقاد الأولمبياد في ألمانيا. قتل المهاجمون اثنين من أعضاء الفريق الإسرائيلي واختطفوا 9 آخرين، ثم بدأوا في التفاوض من أجل إطلاق سراحهم.

أبو أياد الذي يُعتقد أنه مؤسّس مجموعة أيلول الأسود مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات/يسار الصورة
أبو أياد الذي يُعتقد أنه مؤسّس مجموعة أيلول الأسود مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات/يسار الصورة

طالبت منظمة "أيلول الأسود" الحكومة الإسرائيلية بإطلاق سراح 232 معتقلاً فلسطينياً، بالإضافة إلى الألمانيين أندرياس بادر وألريكه ماينهوف أعضاء منظمة الجيش الأحمر اليسارية، والياباني كوزو أوكاموتو عضو منظمة الجيش الأحمر  الياباني، الذي شارك في عملية مطار اللد بإسرائيل في 30 مايو/أيار 1972.

استمرت المفاوضات على مدى 20 ساعة، لكن الحكومة الإسرائيلية رفضت الموافقة على طلبات "أيلول الأسود"، واتفقت مع الحكومة الألمانية على محاولة تحرير المخطوفين، وهي المحاولة التي انتهت بشكل كارثي بعد مقتل جميع الرياضيين الإسرائيليين، بالإضافة إلى 5 من أعضاء "أيلول الأسود" وشرطي ألماني.

ولكن ما دوافع منفذي العملية؟ وماذا كان مصير مَن تبقى منهم أحياء؟

احتجزت الشرطة الألمانية الثلاثة الأحياء من عناصر المنظمة، ثم أفرجت عنهم في أكتوبر/تشرين الأول 1972، بعد قيام مجموعة فدائيين باختطاف طائرة تعود لشركة لوفتهانزا الألمانية.

كانت عملية الأولمبياد من تخطيط "أبوإياد" و"أبوداوود" وفخري العمري "أبومحمد" ويوسف نزال "تشي" ومحمد مصالحة. وشارك في تنفيذها إلى جانب تشي ومصالحة 6 فلسطينيين من أبناء مخيمات لبنان تلقوا تدريباً عسكرياً مكثفاً في ليبيا. وكان الهدف منها، إلى جانب الإفراج عن بعض الأسرى، الاستفادة من حضور وسائل الإعلام الدولية طوال فترة المسابقات لإعطاء صدى عالمي للقضية الفلسطينية، حسبما ذكر أبوداوود في كتابه "فلسطين من القدس إلى ميونيخ".

عملية غضب الرب.. إسرائيل تقرر الرد في كل مكان

أوجعت عملية ميونيخ الإسرائيليين كثيراً، فأرسلت طائراتها الحربية لضرب "القواعد العسكرية" الفلسطينية، فقتلت العديد من المقاتلين، كما قصفت العديد من المدنيين الأبرياء والأطفال.

رأت تل أبيب أن رد الفعل هذا غير كافٍ، لذا أذنت لجنة إسرائيلية سرية برئاسة رئيسة الوزراء غولدا مائير، ووزير الدفاع موشيه ديان، باغتيال كل من تورَّط في العملية بشكل مباشر وغير مباشر، وعليه شُكلت فرقة اغتيالات أُطلق عليها اسم "غضب الرب"، وتم إرسالها إلى أوروبا لتنفيذ المهمة.

بدأت فرقة الاغتيالات مهمتها بقتل وائل زعيتر، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في إيطاليا وابن عم  ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقوا النار عليه في بهو مبنى شقته في روما في أكتوبر/تشرين الأول 1972 .

واستهدفت بعد ذلك محمود الهمشري، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، بزرع قنبلة في هاتفه أدت إلى مقتله. كما اغتال الفريق 4 آخرين، هم: باسل الكبيسي وحسين عباد البشير وزيد موسشي ومحمد بودية.

ولكنه يبدو ليس مجرد انتقام بل هو محاولة لاستغلال العملية لتصفية النخبة الفلسطينية

وفي نيسان/أبريل 1973، قام فريق "غضب الرب" مع وحدة من النخبة في جيش الاحتلال الإسرائيلي بالهجوم على مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان، ونجحوا في اغتيال القيادات بالجبهة محمد يوسف النجار "أبويوسف"، وكمال عدوان، وكمال ناصر.

إسرائيل استغلت العملية لتصفية قيادات فلسطينية
إسرائيل استغلت العملية لتصفية قيادات فلسطينية

في عام 1973، قتلت الفرقة رجلاً بريئاً في النرويج على اعتبار أنه علي حسن سلامة، قائد عمليات حركة فتح وسبتمبر الأسود والمعروف لدى الموساد باسم "الأمير الأحمر".

أدى التحقيق في الجريمة من قبل السلطات النرويجية إلى اعتقال وإدانة 5 من عملاء الموساد، وكذلك إلى تفكيك شبكة الموساد الواسعة من العملاء في جميع أنحاء أوروبا.

بعد هذا الحادث أوقفت إسرائيل البرنامج لنحو 6 سنوات، ثم أعادت تفعيله عام 1979، عندما اغتيل الفريق على سلامة في بيروت عبر سيارة مفخخة وضعت في طريق كان يتردد عليه.

ورغم أن أياً من هذه الأسماء لم يذكر "أبوداوود" في كتابه أنهم شاركوا في عملية ميونيخ، إلا أن إسرائيل اعتبرتهم ضالعين فيها بشكل أو بآخر وقامت بقتلهم.

ويعتقد أن إسرائيل استغلت عملية ميونيخ لتبرير قيامها باغتيال مفكرين وسياسيين وشعراء فلسطينيين على مدى العقدين التاليين لها.

وبقيت العملية ماثلة بالعقل الغربي.. سبيلبرغ يُغضب الفلسطينيين والإسرائيليين.. فهل كان سطحيا حقاً؟

أنتجت العديد من الأفلام حول عملية ميونيخ، لكن أبرزها هو فيلم "ميونيخ" المنتج عام 2005، للمخرج اليهودي الأميركي المشهور ستيفن سبيلبرغ، الذي قام بأداء أدوار البطولة فيه إيريك بانا ودانيال كريغ وسياران هيندز.

فيلم ميونيخ
فيلم ميونيخ

ويقوم الفيلم على كتاب "الثأر" الذي نشر لأول مرة في عام 1984، للكاتب الصحافي الكندي والروائي جورج جوناس. الكتاب لا يتحدث عن عملية ميونيخ بقدر ما يتحدث عن تبعاتها وأهمها بالطبع تشكيل فرقة الاغتيالات "غضب الرب"، التي جالت في أوروبا وبعض دول الشرق الأوسط لتحقيق هدفه بالانتقام لعملية ميونيخ.

وينحاز الفيلم بشكل مبدئي لوجهة النظر الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، ويتعمد إبراز الجوانب الإنسانية في حياة أعضاء فرقة الاغتيال، وعلى رأسهم قائدها اليهودي الإسرائيلي إيفنر (إيريك بانا). لكن مع وصول الفيلم إلى منتصفه يبدأ سبيلبرغ في عرض وجهة النظر الفلسطينية تجاه ما يحدث، وهو ما يتجسد في حوار البطل مع شاب عربي فلسطيني من أبناء الشتات.

وأثار الفيلم غضب الحكومة الإسرائيلية، وعملاء الموساد السابقين، إذ أوضح مسؤولون في تل أبيب أنهم يعتقدون أن الفيلم "سطحي". ويعتقد أن به العديد من الأخطاء والنواقص، مثل عدم ذكر غارات سلاح الجو الإسرائيلي على المخيمات الفلسطينية عقب عملية ميونيخ.


اقرأ أيضاً

كارلوس الثعلب.. ألَّف كتاب "الإسلام الثوري" وتسلل من المعسكر الشيوعي لدعم القضية الفلسطينية.. تعرف على الفنزويلي الذي حكمت عليه فرنسا بالسجن مدى الحياة

 

لماذا اشترط محمود عباس وجود إسرائيل في اتحاد الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين؟

 

بعد ثلاث حروب مدمرة حماس تتبنى "المقاومة السلمية".. استراتيجية جديدة لكسب التعاطف وإفشال محاولات عزلها

علامات:
تحميل المزيد