«في الحقيقة أنا طبيب»: متطوعون ليبيون يحاربون الجريمة في مدينةٍ بلا قانون

زوارة لم تكن خاليةً من الجريمة قبل ثورة 2011، لكنَّ الأمور تدهورت كثيراً منذ ذلك الحين

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/07 الساعة 16:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/07 الساعة 16:24 بتوقيت غرينتش

في إحدى المداهمات التي شنَّتها وحدةٌ متطوعة لمكافحة الجريمة بمدينة زوارة الليبية، صاحت مجموعةٌ من الرجال المُلثمين المتشحين بالسواد وهم يدفعون رجلين إلى داخل شاحنةٍ صغيرة: "هيا هيا، ادخلا".

تعمل هذه الوحدة التي تتخذ من أحد المستودعات المنعزلة مقراً لها على استهداف المجرمين كتجار المخدرات ومُهرِّبي البشر منذ خمس سنوات في هذه المدينة الساحلية، التي تُركِت بلا حسيبٍ ولا رقيب في ظل تفسَّخ الدولة الليبية من حولها.

وبينما كان المجندون يدفعون أحد الرجلين إلى الشاحنة، كان الآخر يخضع للتفتيش. ثم نُقِل الرجلان اللذان ضُبطا وبحوزتهما كميات كبيرة من مُخدِّر الحشيش إلى المستودع المهجور الذي تستخدمه الوحدة كسجنٍ مؤقت.

كانت هذه واحدة من عشرات المداهمات التي تشنها الوحدة. فمنذ أن بدأت في إجراء دورياتٍ بالمدينة عام 2013، صادر أفرادها كمياتٍ كبيرة من المخدرات والأسلحة وغيرها من المواد المهربة.

زوارة الأمازيغية بين مؤيدي القذافي

تُعرَف مدينة زوارة التي تضم ميناءً بشواطئها النقية ومجتمعها المترابط المنظم، فضلاً عن أنَّها المنطقة الأمازيغية الساحلية الوحيدة في ليبيا، وهي محاطةٌ بقوسٍ من القرى العربية حيثُ ما زال الموالون للرئيس الليبي الراحل معمر القذافي يسيطرون على مقاليد الأمور.

وصحيحٌ أنَّ زوارة لم تكن خاليةً من الجريمة قبل ثورة 2011، لكنَّ الأمور تدهورت كثيراً منذ ذلك الحين.

فبعد الثورة، استغل مهربو البشر حالة انعدام القانون في البلاد، فحوَّلوا الشواطئ الهادئة إلى نقطة مغادرة للعديد من زوارق المهاجرين المتجهة إلى أوروبا. وفجأة، صارت جثث المهاجرين واللاجئين مشهداً مألوفاً على الرمال البيضاء الشهيرة في المدينة.

وفي الوقت نفسه، أسفرت الاضطرابات عن أزمات اقتصادية عمَّت أنحاء البلاد، ولجأ العديد من شباب المدينة إلى تهريب الوقود والبنزين عبر الحدود القريبة مع تونس لتلبية احتياجاتهم.

وبينما عارض بعض السكان أنشطة مهربي البشر، لم تكن لدى سلطات إنفاذ القانون المحلية القدرة على إيقافهم. وكثيراً ما كان ضباط الشرطة المحلية يتجنَّبون التدخل في مثل هذه الجرائم خوفاً من رد فعل المهربين.

ولكن مع ارتفاع معدلات الجريمة، شعر أفراد الوحدة بعدم وجود خيار آخر سوى تولِّي الأمر بأنفسهم.

وعلى مرِّ خمس سنوات، خاطر أعضاء المجموعة -المعروفة رسمياً باسم وحدة مكافحة الجريمة في زوارة، أو "الرجال الملثمين" كما يُطلق عليهم سكان المدينة وهو الاسم الأكثر شيوعاً- بحياتهم "لحماية مجتمعهم"، وفقاً لما ذكره بعض المتطوعين.

تتكون الوحدة ذاتية التنظيم -التي تشكَّلت بعد أقل من عامين من الإطاحة بالقذافي في ثورة 2011- من مجموعة من المتطوعين المقيمين في المدينة الذين يهدفون إلى استعادة القانون والنظام في المدينة.

وقال أحد المتطوعين المؤسسين ورئيس الوحدة الحالي لموقع Middle East Eye البريطاني طالباً طلب عدم الإفصاح عن هويته: "لقد ضحينا بحياتنا المهنية على أمل أن تتاح للجيل القادم فرصةٌ لعيش حياة أفضل، وأن تتحسن أوضاع البلاد".

وأضاف: "بعد الثورة، لم تكن هناك دولة. إذ ازداد معدل الجريمة، ولو كانت الأمور قد بقيت على حالها في عام 2012، لرأينا الكثير من القتلى في مدينتنا".

وذكر الرئيس أنَّ عدد المتطوعين في الوحدة عند بدايتها كان نحو 70 شخصاً، لكنَّ هذا العدد ارتفع إلى الضِعف.

المهاجرون يغادرون منها

جديرٌ بالذكر أنَّ زوارة كانت واحدةً من نقاط المغادرة الرئيسية للمهاجرين الذين يتجهون إلى أوروبا من ليبيا، ومركزاً لمُهرِّبي البشر. إذ غرق مئات الأشخاص بعد الخروج من شواطئها في قوارب صغيرة غير صالحة للاستخدام الآدمي لعبور البحر الأبيض المتوسط ​، ودَفَن سكان المدينة 2000 شخص من الغارقين الذين لم يصلوا إلى أوروبا.

ولكن منذ بدأت الوحدة عملياتها ضد المهربين، شهدت المدينة الساحلية انخفاضاً حاداً في عدد المغادرين من شواطئها، وهو أمرٌ يُسعِد معظم السكان.

إذ قالت مَلَك -وهي أمٌّ تربي بمفردها أطفالها الثلاثة لموقع Middle East Eye: "كان من المُخجِل جداً معرفة وجود مُهرِّبين في مدينتنا".

وأضافت: "هؤلاء الناس كانوا موجودين في زمن القذافي، ولكن بعد الثورة، بدا الأمر كما لو أنهم يعرفون أنَّهم لن يتعرضوا للمُحاسبة لأنَّ البلاد كانت بلا حكومةٍ مستقرة.. لكنَّهم كانوا مُخطئين، فلقد حاسبناهم، وهؤلاء الشُبان الشجعان (متطوعو الوحدة) هم الذين ضمنوا إيقاف أنشطة المُهرَّبين".  

ومع أنَّ الوحدة كانت تعتزم في البداية العمل لمدة ستة أشهر، فما زالت مجتمعةً بعد مرور خمس سنوات، وتقيم نقاطاً تفتيشية في المدينة وتقدم دعمها لسلطات مراقبة الحدود.

حين بدأت المجموعة عملها لأول مرة، كان جميع المتطوعين يرتدون أقنعة لإخفاء هوياتهم، وهو ما أكسبهم لقب "الرجال المُلثمون" بين سكان المدينة. وبينما صار العديد من أفراد المجموعة معروفين الآن للسكان المحليين، ما زال الكثيرون يُفضِّلون إخفاء هوياتهم.

ففي البداية كان أفراد الوحدة يشعرون بالقلق من سعي المجرمين للانتقام ويخشون على سلامة أسرهم، ولكن بعد وقت قصير من بدء أنشطتهم في مكافحة الجريمة، حازوا دعماً واسعاً من السكان.

المتطوعون يوسعون أنشطتهم

ينتمي المتطوعون انتماءً غير إلزامي إلى مبادرات مكافحة الجريمة الحكومية، وهم خليطٌ من شرطيين سابقين وأطباء ومعلمين ومدنيين آخرين يجمعهم شيء مشترك: الرغبة في الحفاظ على أمن مدينتهم.

ويشمل عمل المجموعة مكافحة السرقة وتجارة المخدرات والأسلحة والتخريب والمخالفات الأخرى. وبمرور الوقت، صارت مكافحة تهريب البشر أولويةً في ظل بداية تزايد عدد جثث ضحايا الهجرة غير الشرعية.

الميليشيات في زوارة تقوم بتهريب البشر من ضمن العديد من الجرائم الأخرى
الميليشيات في زوارة تقوم بتهريب البشر من ضمن العديد من الجرائم الأخرى

وبعد بضعة أشهر، أصبح معروفاً في المدينة أنَّ من يتورط في أي من هذه الأنشطة غير الشرعية، فمن المُرجَّح أن يقبض عليه الرجال الملثمون.

إذ قال هادي، وهو طالب جامعي في المدينة، لموقع Middle East Eye: "كانت المجموعة تُلقي القبض على أي شخص يرتكب مخالفاتٍ مثل ضبطه بأسلحة بلا تصريح، أو مخدرات. وبدأ الناس يعرفون أنَّهم إذا أطلقوا النيران، سيُلقى القبض عليهم وتُصادَر أسلحتهم".

ولكن حين حوَّل الرجال الملثمون انتباههم إلى مهربي البشر، صار الأمر أصعب، على حد قول رئيس المجموعة.  

إذ قال: "كانت مكافحة التهريب هي المشكلة الحقيقية. لقد واجهتنا العديد من التحديات. إذ كُنَّا نُسلِّمهم للمحاكمة، ثم نجد أنَّهم خرجوا بكفالةٍ في اليوم التالي. لذا لم نتمكن من الاستمرار في فعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً".

مُهرِّبون ذوو نفوذ

أصعب اختبارٍ واجه المجموعة حتى الآن هو مُهرِّبو البشر الأثرياء ذوو النفوذ.

إذ قال رئيس الوحدة: "حين بدأنا نتدخل في شؤونٍ من شأنها أن تضر هؤلاء المهربين الكبار، صار الأمر خطراً للغاية". وفجأة، أصبح المجرمون يتركون ندباتٍ وعاهاتٍ مستديمة على أجساد الرجال الملثمين.

وقال متطوعٌ آخر: "هناك متطوعون ضحوا بأنفسهم حق التضحية، إذ فقد البعض بصرهم أو أحد أطرافهم في الهجمات التي نُفِّذت على المجموعة"، مضيفاً أنَّ الدولة لم تفعل شيئاً لمساعدتهم.

ومع التيقن من أنَّ مراكز الاحتجاز التابعة للشرطة المحلية غير جديرة تماماً بالثقة، بدأ الرجال الملثمون يستخدمون مقراتهم الخاصة كسجونٍ مؤقتة.

ويتمثَّل أحد هذه المقرات في منشأةٍ كانت تستخدمها شركة إنشاءات صينية فرَّت من ليبيا في عام 2011، وتضم الآن مكاتب مهجورة ومخازن تستخدمها المجموعة كأماكن لاحتجاز المعتقلين، وتشن منها عملياتها، وتراقب البحر لضبط أي قوارب مهاجرين تحاول العبور.

لكنَّ المنشأة لا تسع احتجاز الأشخاص لفترات طويلة، لذا يقول المجندون إنَّهم يحتجزون المتهمين بارتكاب جرائم لأيام أو أسابيع على الأكثر.

وقال المتطوع: "وصلنا في زوارة إلى انعدام حالات تهريب البشر في المدينة. وقد حققنا ذلك كله بجهودنا الذاتية، ولم نتلق أي مساعدةٍ من الدولة".

وفي ظل تزايد الاضطرابات في البلاد التي جعلت إنفاذ القانون أصعب من أي وقتٍ مضى، يشعر معظم سكان مدينة زوارة بالامتنان لوحدة مكافحة الجريمة ذاتية التنظيم. لكنَّ الوحدة لم تحظ بحُب بعض الناس.

إذ تعرَّضت لانتقادات بسبب الأساليب التي تستخدمها لتأديب مرتكبي الجرائم الذين تقبض عليهم، إذ يزعم بعض أفراد عائلات المحتجزين أنَّ أفراد الوحدة ضربوا أقرباءهم، وهددوهم بمزيدٍ من العنف إذا قُبِض عليهم مرة أخرى.

الوحدة تلقن المجرمين دروسًا

وقالت مَلَك الأم التي تربي أطفالها: "لقد لقَّنت وحدة مكافحة الجرائم الكثير من هؤلاء المجرمين درساً. نعرف أنَّ (مهربي البشر) يجب أن يُسجنوا في سجنٍ مناسب بسبب ما فعلوه بالمهاجرين الأفارقة الذين لا حول لهم ولا قوة، لكن من الأفضل أن يُرهبهم الرجال الملثمون ليتوقفوا عن أنشطتهم بدلاً من أن يضعوهم في أحد السجون فيخرجوا بكفالة".

وقال هادي: "هؤلاء المهربون لا يهتمون بحياة المهاجرين. بصراحة، قد لا يكون الضرب أفضل طريقةٍ للتعامل معهم، لكنَّهم يستحقونه أكثر من أن يخرجوا بكفالةٍ ويُرسلوا النساء والأطفال المهاجرين إلى الموت".

ولكن على الرغم من نجاح الوحدة في الحد من الجريمة والدعم الساحق التي تتلقاه من سكان زوارة، فقد اضطر متطوعوها إلى العمل لفتراتٍ طويلة بلا أجر.  

إذ قال رئيس الوحدة: "العمل في الوحدة لا يصلح لكسب العيش. فهؤلاء المتطوعون تخلوا عن وظائفهم لأداء هذا العمل. وحتى في الأوقات التي كُنَّا نحصل فيها على تمويل، كان التمويل كله يأتي من المجلس المحلي، وليس من طرابلس".

بينما قال المتطوع الآخر: "في الحقيقة أنا طبيب.. أريد أن أعود إلى حياتي الطبيعية وأكمل دراستي وأتخصص في مجالي.. لكننا وجدنا أنفسنا عالقين في أداء هذه المهمة ولا يوجد من يُؤديها سوانا".

علامات:
تحميل المزيد