بيوتٌ دمرّتها القناة: الحياة على خط مواجهة التغير المناخي في مصر

سكّان "فينيسيا الصغيرة" في الإسكندرية يعيشون حياتهم في انتظار الغرق

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/04 الساعة 15:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/04 الساعة 15:27 بتوقيت غرينتش

على ضفاف قناة المكس الواقعة في مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر، يحل أحد الرجال عقد شبكات الصيد في قاربه المطلي باللون الفيروزي، بينما يتردد صوت المطرقة إذ تضرب الطوب في الممر المائي.

قناة المكس.. الإسكندرية لم تعد كما كانت

ويميل آخرون من نوافذهم المطلة على إحدى ضفتي القناة، محدقين في الأكوام المتزايدة من حطام ما كان يوماً ما صفاً من بيوت الضفة المقابلة. من سبق أن قطنوا البيوت المهدومة وأولئك الناظرون من النوافذ هم طليعة الآلاف الذين سوف يجبرون على مغادرة منازلهم بسبب التغير المناخي.

تقول عبير محمد عبد السلام، لصحيفة الغارديان، إنَّها لا تتذكر على وجه التحديد متى ارتفعت مياه القناة للمرة الأولى إلى مستوى نافذتها الأمامية، لتتسرب داخل منزلها. وتقول: "كانت المياه تصل إلى مستوى طولي". تتصاعد الأدخنة السوداء من مصنع البترول المجاور للمنازل.

ولما كان الفيضان، لسنوات، حدثاً اعتيادياً، باتت عبير تحفظ، عن ظهر قلب، استجابة الطوارئ التي ينبغي لها القيام بها.

سكُان قناة المكس ينتظرون الغرق بسبب التغيرات المناخية التي أثرت على قناتهم
سكُان قناة المكس ينتظرون الغرق بسبب التغيرات المناخية التي أثرت على قناتهم

قالت عبير: "أول ما أفعله هو إرسال من يغلق المضخات، ثم بعد ذلك نبني حصناً داخل منزلنا باستخدام الأثاث" في إشارة إلى محطة الضخ القريبة المصممة لمنع الفيضان عن طريق ساحلي مجاور، يمر به المصريون الأثرياء في طريقهم إلى بيوتهم الصيفية.

شكلت الطبقات الثلاث من البيوت الإسمنتية المتهالكة في المكس العمود الفقري لمجتمع الصيَّادين القوي وقوامه ألف صياد. لكن منذ شهر مارس/آذار، أجبرت السلطات المحلية نصف السكان على ترك بيوتهم والسكن في أبراج كئيبة تشرف على القناة التي كانوا يعتمدون عليها يوماً ما للحصول على قوت يومهم. أما من بقوا فإنهم ينتظرون هدم منازلهم، ويحدقون في الأنقاض على الضفة المقابلة لتذكرهم بما ينتظرهم.

ومستقبل المدينة يبدو مقلقاً مع التغير المناخي القادم

تقع مدينة الإسكندرية على خط المواجهة الأول مع التغير المناخي. فبحسب الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة، فحتى لو ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار 50 سنتيمتراً لا غير، فسوف يدمر هذا الارتفاع شواطئ المدينة بالكامل، في الوقت الذي تعد فيه "الأراضي المنخفضة في الإسكندرية، والتي نشأت المدينة على أكتافها في الأساس، عرضة للغرق، والتشبع بالمياه، وزيادة الفيضانات والملوحة في ظل الارتفاع المتسارع في مستوى سطح البحر".

وكانت اللجنة الحكومية الدولية المعنيّة بالتغير المناخي، التابعة للأمم المتحدة، قد قالت إنَّه من المتوقع أن ترتفع مستويات سطح البحر العالمية بمقدار يصل إلى 68 سنتيمتراً بحلول عام 2050، ما سوف يغرق أجزاء من الإسكندرية ويتسرب إلى المياه الجوفية. وسوف يتسبب هذا أيضاً في انهيار المباني وإقحام المياه المالحة على أراضٍ زراعية حيوية في منطقة دلتا النيل القريبة، وهو الأمر الذي من شأنه تدمير سبل المعيشة وإحداث المزيد من النزوح الداخليّ.

وتدق محنة سكان المكس ناقوس خطر مبكر، إذ يعد أولئك السكان الموجة الأولى من آلاف الناس الذين سيجبرون على الانتقال من بيوتهم بسبب تأثيرات التغير المناخي على المنطقة، ولا سيما بحيرة مريوط المجاورة.

وقال عالم المناخ السكندري، محمد الراعي: "هناك الكثير من المناطق حول البحيرة تقع على مستوى 3 أمتار على الأقل تحت سطح البحر. سيكون من اللازم إخلاء تلك المناطق وإعادة توطين سكانها. سوف يتأثر مئات آلاف الناس في هذه المناطق المنخفضة بالفيضانات". ويقدر الراعي أنَّ الحكومة سوف تكون مجبرة على نقل السكان في أقل من 10سنوات.

وسوف يشكل أولئك النازحون جزءاً من مشكلة عالمية متزايدة. إذ تقدرالأمم المتحدة أنه منذ عام 2009، ينزح إنسان واحد كل ثانية بفعل كارثة مرتبطة بالتغير المناخي.

أما منطقة المكس فإن وضعها أسوأ كثيراً

وتعد المكس ركناً غير مطروق من المدينة بالنسبة للكثير من أبنائها، نظراً لأنَّها مدسوسة بعيداً عن الأنظار بين ممرات إسمنتية متشابكة، وأسطح مستوية من المكبات الصناعية الملوَّثة، والشوارع المختنقة بالغبار تكسوها سحب سوداء من المصانع القريبة وتغطي كل سطح ظاهر. بل إنَّ معظم المناطق المحيطة بالمكس تبدو وكأنَّ لديها شيء من العداء للحياة البشرية، رغم موقعها بين دلتا النيل الخصبة وساحل البحر المتوسط.

يُطلِق سكان الإسكندرية على هذه المنطقة "فينيسيا الصغيرة"؛ إذ تضم مجموعة من الناس يعتمد أسلوب حياتهم على المياه وصفوف من المنازل فاتحة الألوان كانت مصدر رزقهم في يومٍ من الأيام. وتعتبر الحكومة المحلية هذه المساكن غير الرسمية التي يعود عمرها لعقود خلت "عشوائيات". وظهرت المنطقة أيضاً في فيلم مصري بصفتها مكاناً للعصابات والتجارة غير المشروعة، ما ولَّد شائعات عن احتضان هذه المنطقة للمجرمين في أرض الواقع.

بسبب ارتفاع منسوب المياه، يتوقع الخبراء أنَّ الحكومة المصرية سوف تكون مجبرة على نقل السكان في أقل من 10سنوات
بسبب ارتفاع منسوب المياه، يتوقع الخبراء أنَّ الحكومة المصرية سوف تكون مجبرة على نقل السكان في أقل من 10سنوات

قال أحمد صابر ضاحكاً، وهو يوجِّه دفَّة قاربه عبر مياه القناة البُنيِّة السميكة: "أنت في المكس، فينيسيا الشرق!". حوَّل التلوث الخارج من المصانع القريبة القناة إلى أوحال سميكة، مما أدى إلى موت الكثير من الأسماك التي يحتاج إليها الصيادون ليقيموا معيشتهم. يقول صابر، بينما قاربه يمر بقارب آخر مرسوم على مقدمته صفوف من الأسنان ليشبه القرش: "تبدو مثل فينيس–لدي قارب كما أنّ الناس هناك يستخدمون القوارب. لكنَّ كل ذلك على وشك الدمار".

وكان صابر، كغيره في المكس، قد تجاهل مراراً وتكراراً الإشارات التي تنذر بقرب وقوع فيضان، والمحيطة بهم في كل مكان، بدءاً من طبقات الصدأ على قضبان النوافذ والأبواب، إلى العتبات التي بليت بفعل المياه التي تجري بين البيوت. ويبدو أنَّ الاعتراف بالمشكلة كان يعني الوقوف في صف السلطات المحلية، التي يقولون إنَّها تهددهم بطردهم من المنطقة منذ سنوات عديدة.

وبحلول شهر يونيو/حزيران، من العام الجاري، عندما أُجبر نصف الصيادين من قاطني المنطقة على الخروج منها، وكان بعض السكان أكثر استعداداً للتعامل مع مسألة الفيضان بشكل أكثر انفتاحاً.

بحيرة مريوط.. بحيرة الصرف الصحي!

ويشرح الراعي كيف أنَّ المشكلة الرئيسية تكمن في بحيرة مريوط: "تقع البحيرة على بُعد حوالي 3 أمتار تحت سطح البحر، لذا فإنَّ مياه الصرف التي تصب فيها تسبب تقلبات في القناة. والبيوت المقامة على طول القناة تقع هي الأخرى تحت مستوى سطح البحر". ويبلغ الموقف أسوأ حالاته في فصل الشتاء، عندما ترتفع مستويات سطح البحر.

وقال د. خيال زهرة، من محطة بحوث الشواطئ المصرية، إنَّ معدل هطول الأمطار السنوي على السواحل المصرية وصل إلى مستويات غير مسبوقة مؤخراً، كما كان الحال عام 2015. وقال د. زهرة: "تعني المشكلات المتعلقة بالتغير المناخي أنَّ كمية الأمطار قد تجاوزت 227 ميلليمتراً في يومين". وقد كان متوسط الأمطار السنوية 250 ميلليمتراً للسنوات المئة الأخيرة. وتفاقمت الأمطار الزائدة من المستويات المرتفعة من المياه الملوثة في المكس، ما يثقل كاهل محطة الضخ القريبة ويرفع مستويات المياه في القناة حتى تفيض على منازل السكان.

الأفقر سيكونون الأكثر تأثراً بارتفاع منسوب المياه

لكنَّ ارتفاع المياه على خط الساحل المصريّ لن يكون له نفس التأثير على الجميع: فأفقر أهل مصر، من يسكنون على حافة المياه أو يعتمدون على مواردها، معرضون للموجات الأولى والأسوأ من التغير المناخي، فضلاً عن أنَّهم الهدف الدائم للسلطات لإجبارهم على خطط إعادة التوطين التي تستهدف البناء غير القانوني المزعوم في المناطق التي تسعى الدولة لاستعادها.

بحسب أرقام الأمم المتحدة، لو ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار 50 سنتيمتراً فقط، فسوف تُدمّر شواطئ الإسكندرية بالكامل
بحسب أرقام الأمم المتحدة، لو ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار 50 سنتيمتراً فقط، فسوف تُدمّر شواطئ الإسكندرية بالكامل

يقول محمد سلطان، المتحدث باسم محافظ الإسكندرية، في إشارة إلى مبادرة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي على مستوى الدولة للقضاء على الإسكان غير الرسمي، المعروف بالعشوائيات–وهي مراكز حضرية للطبقة العاملة عادة ما ترتبط بالفقر والسخط الاجتماعي على حد السواء: "إنَّ الدولة تعمل للقضاء على مشكلة العشوائيات بحلول عام 2022". ومع أنَّ أجيالاً متعاقبة مرت على المكس ويسدد قاطنوها الإيجارات المستحقة عليهم منذ عقود، تزعم الحكومة أنَّ هذه المنازل بُنيت بشكل غير قانوني وأنَّ الحل الوحيد في إعادة التوطين القسري والهدم.

وقال سلطان، في إشارة إلى مجموعة من الأبراج البسيطة من الطوب الأحمر والرمل: "لقد بدأت المحافظة بالفعل نقل السكان إلى منطقة أكثر أمناً". ولما كانت هذه المباني أقرب إلى الشاطئ المجاور، فإنها تضعهم على طريق المد المرتفع في المستقبل. يقول سلطان: "مثلت البيوت السابقة خطورة على حياة السكان، بسبب ارتفاع مستوى المياه ودخولها إلى المنازل، بما يعرض حياة من يقطن هذه الأماكن للخطر".

والمياه حجة الحكومة لتهجير الناس!

تصر المحافظة على أنَّ بناء الميناء الجديد سوف يسمح للسكان بالصيد، وتخزين معداتهم. لكنَّ أحداً من السكان الذين تحدثت إليهم صحيفة The Guardian البريطانية بدا واعياً بهذه الفرصة، ورأى هذه الخطوة ضربة لأسلوب حياتهم ودفعة في طريق البطالة المحتملة. ويستدل أولئك السكان أيضاً بارتفاع شديد في الإيجار، من أقل من دولار ونصف سنوياً إلى قرابة 12 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ يتعذر على الكثيرين توفيره. ويعني هذا الأمر تكدّس عدد أكبر من أعضاء الأسرة في بيوت يجدها سكان مثل عبد السلام صغيرة مقارنة بالبيوت التي كانوا يسكنونها من قبل.

يقول عمّ علي عبد الرحمن، صياد يبلغ من العمر 63 عاماً، يجلس داخل كوخ صغير مطلي بالأزرق والأبيض، يخزن فيه معدات صيده: "المياه حجة الحكومة لإخراج الناس من بيوتهم". كانت تفوح من الغرفة رائحة المياه المالحة، ومعظم الأسطح مغطاة إما بالملح أو الصدأ. يطهو عبد الرحمن خارج الغرفة أحياناً ما اصطاده على شواية صغيرة، ويدردش مع جيرانه. ويتعامل مع وعود الحكومة بتهكمٍ وازدراء.

عمّ علي عبدالرحمن، صياد ستيني لا يعرف عملًا سوى الصيد. لكنه الآن يُهجّر من قبل الحكومة بعيدًا عن مكان رزقه
عمّ علي عبدالرحمن، صياد ستيني لا يعرف عملًا سوى الصيد. لكنه الآن يُهجّر من قبل الحكومة بعيدًا عن مكان رزقه

يضيف عبد الرحمن بمرارة: "أنا أبلغ من العمر 63 عاماً. ولا أحسن شيئاً سوى الصيد. يقولون إنهم يبنون لنا بيوتاً جديدة، لكنَّ هذه المنازل ليست بيوتاً، إنها مجرد مكاتب".

لا شك لدى عبد الرحمن، وعبد السلام، وغيرهما في أنَّ حياتهم في الأبراج الجديدة ربما تكون مهرباً من الفيضانات، لكنَّ هذه الخطوة سوف تنتزعهم من نمط الحياة الذي اعتادوه.

يقول عبد السلام: "هناك، لدينا إطلالة على البحر، ولا شيء غير ذلك".

 

تحميل المزيد