من أفسد الأخبار؟ عقدان من الزمن غيّرا الصحافة إلى الأبد

ألان روسبريدجر: صحفي بريطاني ورئيس صحيفة The Guardian البريطانية في الفترة من 1995 إلى 2015.

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/03 الساعة 14:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/03 الساعة 14:44 بتوقيت غرينتش
الأخبار الكاذبة

في بداية عام 2017، استيقظ العالم على مشكلة كان الصحفيين قد توقعوا قدومها منذ زمن، بمشاعر مختلطة من العجز وعدم الفهم والتهيّب. لقد فسدت الأخبار التي تساعد الناس على فهم العالم من حولهم، وتسيِّر عجلات المجتمع، وتُخصِّب المجتمعات، وتجعل ذوي النفوذ يلتزمون بالمصداقية.

أُطلِقَت على الأزمة مسمياتٌ عديدة، وشُخِّصَت بأشكالٍ مختلفة. فقد رأى البعض أننا غارقون في كمٍّ هائلٍ من الأخبار، فيما تخوَّف آخرون من أن نواجه خطر أن نصبح بلا أخبار. يعتقد البعض أننا نملك الكثير من الأخبار المجانية، بينما يظن آخرون أن الأخبار مدفوعة الثمن تترك خلفها طابوراً طويلاً من الجهل.

لكن أغلب الناس قد يتفقون على هذا: نحن غارقون في محيط هائج من المعلومات؛ بعضها حقيقي وأغلبها خاطئ. أصبح هناك الكثير جداً من الأخبار الكاذبة ، والقليل من الأخبار التي يمكن الاعتماد عليها. وقريباً قد تصبح هناك مجتمعاتٌ بالكامل من دون أخبار، أو من دون أخبار يمكن الوثوق بها.

فكيف وصلنا إلى ذلك؟ وكيف نعود لما كنَّا عليه ذات يوم؟

على مدار 20 عاماً عملت على تحرير إحدى الصحف في خضم هذه الثورة المضطربة. الصحيفة التي توليت العمل عليها عام 1995 لم تكن تتألَّف من أكثر من كلماتٍ مطبوعة على ورق صحف بتقنياتٍ لم تتغيَّر كثيراً منذ العصر الفيكتوري. كانت الصحافة في ذلك الوقت- بأشكالٍ عديدة- عالماً مُنظَّماً بشكلٍ رأسي. كنَّا نحن- أجهزة المعلومات- نملك مطابع، ونملك من خلالها القوة- حصرياً- لنقل الأخبار التي نكون قد جمعناها. يدفع القراء الأموال، وكذلك المُعلِنون الذين لم يكن أمامهم سوى القليل من الطرق الأخرى التي يمكنهم من خلالها الوصول لجمهورنا. لكن اليوم، بإمكان المُعلِنين عادةً الوصول إلى المُستهلِكين بشكلٍ أكثر فاعلية بكثير من خلال قنواتٍ أخرى. وأصبح الناس يتردَّدون في دفع الأموال مقابل الوصول للأخبار. وأياً كانت طريقتك في تقييم الأمر، هناك شكٌّ والتباسٌ وغيابٌ للثقة منتشر على نطاقٍ واسع في ما يتعلَّق بالصحافة السائدة.

بعد بضع أعوام من تولي رئاسة تحرير صحيفة The Guardian البريطانية، دُعيت لإلقاء كلمة عقب تناول العشاء في Thirty Club، في تجمُّعٍ خاص لشركاتٍ تجارية عملاقة في عالم الدعاية ومجال الإعلام. كان ذلك في شهر مارس/آذار من عام 2003، أي قبل ثلاث سنوات من إطلاق موقع تويتر وإنشاء الـ "نيوز فيد" بموقع فيسبوك، أي قبل انهيار النموذج الاقتصادي الذي بُنِيَ عليه مجال الصحافة على مدار قرنٍ من الزمن.

موضوع الكلمة التي ألقيتها كان الثقة، ومعدلاتها السيئة للغاية تجاه الصحف. كنَّا نعتبر أنفسنا محظوظين إن كان 13% إلى 18% من السكان يثقون في الصحف، حسب استطلاعات الرأي والعام الذي جرت فيه.

حين وقفت لألقي كلمتي، كنت أدرك تماماً أن فريق News International جالسٌ على الجانب الآخر من الطاولة. كان ليز هينتون، الرئيس التنفيذي لمجلس إدارة مجموعة صحف روبرت مردوخ، وهو لطيف لكنه خطرٌ بعض الشيء، يجلس أمامي مباشرة، وسط ريبيكا بروكس، رئيسة تحرير صحيفة The Sun البريطانية، وأندي كولسون، رئيس تحرير صحيفة News of the World البريطانية أيضاً. حاولت أن أتفادى النظر بأعين زملائي وأنا أشير في حديثي إلى كون الصحف الشعبية المصغرة هي الأكثر مبيعاً، لكنها لا تحظى بكثيرٍ من الثقة.

ألان روسبريدجر
ألان روسبريدجر

شبَّهتُ الصحفيين الإنكليز بمُشجِّعي نادي ميلوول لكرة القدم، بهتافهم الشهير "لا أحد يحبنا، ولا نهتم". كنت أعرف ما يدور في فكر كولسون وبروكس: نحن نستمع إلى خطبةٍ واعظة من شخص بالكاد يجني شيئاً، ومبيعاته ضئيلةٌ بشكلٍ مُخجِل. كنت أستطيع سماع حديث بيرس مورغان الساخر، الذي كان في ذلك الوقت رئيس تحرير The Mirror، في كلِّ مرةٍ يراني فيها، يكاد يقول: "أنا أبيع نسخاً في كورنوول أكثر ممَّا تبيعه أنت في بريطانيا كلها".

أسهبت في الحديث أكثر عن الثقة؛ كيف خسرناها، وكيف نسترجعها، ولماذا ستكون أهم بكثير في العالم الرقمي. كانت أموراً مهمة وحقيقية. وفي ما بعد، كان الزملاء الثلاثة العاملين لدى مردوخ ودودين جداً. اقترحوا أن نذهب إلى إحدى الحانات. وانتهى بنا الأمر في Soho House، حيث جلسنا نحتسي المشروبات حتى الساعات الأولى من الفجر. حاسبوا هم على الشمبانيا، ولم تُذكَر كلمتي على الإطلاق. كانت أمسيةً لطيفة، فصُحبة بروكس وكولسون رائعة، وبدت على هينتون مودةٌ ولطفٌ شديدان. في النهاية كنَّا جميعاً صحفيين.

بعد أحد عشر عاماً من ذلك اليوم، أصبح الوضع كالتالي: كولسون في السجن، وهينتون استقال من منصبه، وبروكس تعاني من تبعات محاكمة صعبة في المحكمة الجنائية المركزية، وكل ذلك بسبب الكتابة في صحيفة The Guardian. تلك الليلة في Soho House تبدو الآن ذكرى ضائعة وسط براءة شارع فليت، واستخدام كلمة "براءة" هنا مع شارع فليت مضحك. لكن بالتأكيد جميعنا لم نكن نعرف ماذا سيحدث، بأي شكل من الأشكال.

عندما بدأت حياتي المهنية كصحفي عام 1976، كان المسار الشائع للدخول في هذا المجال هو أن توضع في صالة التحرير الخاصة بإحدى الصحف المحلية، كي تتعلَّم بشكلٍ عملي. بعد أسبوع من انتهائي من اختبارات نهاية العام، ابتعدت عن جامعتي- التي تأسَّسَت عام 1428- وتوجَّهتُ إلى مكاتب الستينيات المملة الخاصة بصحيفة Cambridge Evening News، الواقعة على بعد ميلٍ نحو الشرق. لم يكن هناك الكثير من الخريجين من بين العشرين شخصاً العاملين بصالة التحرير الخاصة بالجريدة، التي كانت مبيعاتها في ذلك الوقت أقل بقليل من 50 ألف نسخة في اليوم الواحد. وكان يُنظر لخريجي الجامعات بريبة- في محلها- باعتبارهم دخلاء مغرورين، يستغلون الخبرة التي حصلنا عليها في المقاطعات لتأمين وظائف برواتب أفضل في أحد مكاتب شارع فليت.

كانت الصحيفة ملك أحد نبلاء عائلة إليف، مِن بلدة يتوندون، وقد كان قليل الظهور معظم الوقت، ويملك قطعة أرض تبلغ مساحتها 9 آلاف فدان وتبعد مائة ميل عن بيركشاير. الأهم بالنسبة لي كان فولتون جيليسبي، كبير المراسلين، والمعروف باسم جوك -وهو رجل من غلاسكو جهور الصوت وذو شعر رمادي، يرتدي نظاراتٍ قاتمة، ودائماً يحمل سيجاراً بين شفتيه المُحاطتين بشاربٍ ولحية.

كان جوك يرى أن من واجبه أن يقسو علينا لنتعلَّم. كنَّا نبدأ يومنا بإجراء بعض الزيارات -نذهب في رحلة تتضمَّن أقسام الشرطة وهيئة الإسعاف ومركز الإطفاء. وفي اجتماعٍ مُصغَّر قبل انطلاقنا من المكتب، كان يملي علينا واحدةً من المجموعة الصغيرة من المواعظ حول عملنا: "إن كتبت من أجل الدوقات، لن يفهمك سواهم، لكن إن كتبت من أجل عامل النظافة، سيفهمك الاثنان. اجعل كتابتك قصيرة ومُبسَّطة، واكتب بلغةٍ قد تستخدمها وأنت تحكي الخبر لأحد والديك".

شَرَحَ لنا كيف أن عمل الشرطي يتضمن الترفع والانحطاط في ذات الوقت. تكتسب احترام الشرطة بأن توجه إليهم ضربات موجعة بين الحين والآخر، لأنه على المدى البعيد، هم يحتاجوننا أكثر مما نحتاجهم نحن. وأكَّدَ أن هذه نصيحةٌ جيدة تنطبق على كلِّ من هم في السلطة. وقد زُرِعَت في وجدانه من قبل الصحفيين القدامى في صحيفة Falkirk Herald، وستظلُّ حقيقةً واقعة. كان يُكرِّر ذلك على مسامعي كثيراً في حال لم أستوعبه: هم يحتاجوننا أكثر مما نحتاجهم. نحن نملك المطابع، وهم لا. إلى آخره.

وفي الوقت نفسه تقريباً، تعلَّمت درساً شخصياً أكثر حول أساليب ووساوس الصحافة. عندما كنت مراسلاً شاباً لدى صحيفة Cambridge Evening News، وقعت في الحب. لم تتخطى مدة العلاقة عامين. كنت أنا مراسلاً صغيراً، وكانت هي مُحاضِرةً بالجامعة. سبَّبَت العلاقة بعض مشاعر السعادة وبعض التعاسة لمجموعةٍ صغيرة من الأشخاص، ليس أكثر من ستة أشخاص على كلِّ جانبٍ منها. وانتهت القصة، تقريباً، فقد كان والدها (المتوفي حالياً) قد ظهر على التلفاز قبل علاقتنا ببضعة أعوام، لذا كان بإمكانك أن تستغل هذه العلاقة لكتابة خبر قد يجذب القراء: "ابنة رجل مشهور جداً متورِّطة في علاقة عاطفية".

في ليلة أحد أيام الجمعة، دقَّ جرس الباب. كان الطارق مراسلاً ومُصوِّراً من صحيفة Sunday Mirror، وكانا يودان نقل "قصة حبنا" -كما قال المراسل- للأربعة مليون قارئ الذين كانوا في ذلك الوقت يشترون الجريدة كل أسبوع. كان المراسل، ويُدعى ريتشارد، وسيماً وجذاباً، لكن عندما رفضنا بتهذيب استقباله، تغيَّرَت لهجته. قال فجأة: "يمكننا أن نفعل ذلك بلطفٍ، أو نفعله ببذاءة"، ثم بدأ يشرح الفرق بين اللطف والبذاءة. اللطف هو أن نجلس على الأريكة ونخبر العالم عن قصة حبك، ونُظهِر الأمر بشكلٍ مثيرٍ للتعاطف. أما البذاءة فهي أن نطرق على أبواب منازل الجيران ونتواصل مع أقاربنا لصياغة قصة ستكون إجمالاً أقل لطفاً.

كان عرضه للأمر جيداً، لكننا كنَّا نشعر أن الأمر خاصٌّ بعض الشيء. كنَّا نعيش معاً، ولم نكن نحاول إخفاء علاقتنا عن أصدقائنا أو عائلاتنا، لكننا لم نود أن نخبر العالم كله. فرفضنا طلبه.

جلس ريتشارد والمُصوِّر المُصاحِب له خارج منزلنا لمدة 24 ساعة أخرى. ومن حينٍ لآخر كان يأتي إلى الباب ليرى إن كنَّا قد غيَّرنا رأينا. وبعد أسبوع، ظهر الاثنان للمحاولة مرة أخرى. في النهاية طلبنا منهما الدخول لتناول فنجان من الشاي، واقترحت أن أتصل بمُحرِّر قسم الأخبار الذي يرأس ريتشارد، لأوضِّح له أننا لن نتحدَّث في الأمر. ويبدو أن ذلك قد أتى بنتيجة؛ فالقصة لم ترَ النور، سواء بلطف أو بذاءة.

كنت أقضي حياتي في ذلك الوقت في تعلُّم الكتابة عن اجتماعات المجالس، والمحاكم، وتوقُّعات الطقس، وعروض الأزهار. وهذا ما كنت أعتقد أنه يُمثِّل كلَّ ما في الصحافة، تسجيل الأحداث العامة التي تتفاوت في الأهمية. عندما دقَّ جرس باب منزلي في ذلك اليوم، كانت تلك هي المرة الأولى التي أدرك فيها بوضوح أن الصحافة تعني أشياءً كثيرة مختلفة لأشخاصٍ مختلفين، وأن هناك نماذج عمل كثيرة مُتنوِّعة لمجال "الصحافة".

انضممت لصحيفة The Guardian عام 1979، في اليوم نفسه الذي انضم فيه نِك ديفيز، الذي انطلق ليصبح أحد مراسلي التحقيقات الأجرأ والأكثر إنتاجاً من بين أبناء جيله. تقاطعت مساراتنا طيلة 35 عاماً، هو كمراسلٍ وأنا كمُحرِّر. عندما أتى لمقابلتي عام 2005 ليخبرني بأنه سوف ينهي مشواره المهني بكتابة سلسلة كبيرة -وأخيرة- حول السلطة، وتحديداً سلطة الصحافة غير المُراقَبة، كنت أعرف أن ذلك سيودي به إلى وضعٍ صعب. كان نِك أشبه بالصاروخ الحراري الذي ينجذب للأماكن الساخنة. فإذا قضى العام ينقب عن شيء ما، يمكنك أن تثق أنه سوف يأتي بشيءٍ مميز. دائماً ما يأتي بشيءٍ مميز.

أساس الفكرة أتت من حرب العراق ودور الصحافة في مساعدة وتحريض حدوث نزاع بناءً على ما يمكننا تسميته الآن بالأخبار الكاذبة . لكن كبار شارع فليت لم يفرحوا بالجهود الحثيثة لصحافة التحقيقات عندما انقلبت عليهم. في صحيفة The Guardian، أنشأنا منذ زمن قسماً إعلامياً ليوم الاثنين -ومؤخراً موقعاً إلكترونياً إعلامياً. بمرور الوقت، لم يهددني كلِّ ناشرٍ ورئيس تحرير موجود في لندن، لكن مجموعةً كبيرة منهم هددتني بالفعل.

رئيس التحرير رقم 1: "دائماً سأرد. يُفتَرَض أن نتكاتف معاً، لا أن يكتب كلُّ مِنَّا عن الآخر".

رئيس التحرير رقم 2: "عجلة العمل لدينا أسرع منك بثلاث مرات. ستكتب عني، فأكتب عنك. وفي النهاية ستتوقَّف أنت".

رئيس التحرير رقم 3: "أنا أكره الكتابة عن الإعلام.. لكنني أستثني من ذلك صحيفة The Guardian".

الناشر رقم 1: "كلانا يملك الكثير ليكتبه يا ألان.. تذكَّر ذلك".

الناشر رقم 2: "سأفتح عليك أبواب الجحيم. يجب أن تتوقَّف عن الكتابة عنَّا".

وحاول البعض الوصول لاتفاقاتٍ ثنائية: "لا تكتب عنَّا، ولن نكتب عنك". بشكل عام، كانوا ملتزمين بكلامهم. فإن ضايقت صحيفة The Guardian أحد رؤساء التحرير أو الناشرين المنافسين، كن متأكِّداً أنك ستلقى جزاءك في غضون أيام. قد يكون ذلك في صورةِ فقرةٍ مُزوَّرةٍ من مذكراتك، أو تهديدٍ بكشفِ معلوماتٍ مُشوَّهة عن حياة الموظفين الخاصة لدى الجريدة، بما في ذلك حياتي أنا. وقد تكون نقرة صغيرة على بعض "المشكلات" داخل الجريدة. أحياناً يكون لهذه القصص جانبٌ من الحقيقة، لكن في أحيانٍ أخرى تكون مُفتَعَلَة. في البداية كنت مصدوماً من كون حتى الصحف المنافسة من النوع التقليدي ستنشر القصص الكاذبة عنَّا من أجل "الانتقام". وبعد فترةٍ، بدأت أفهم أنه يتعيَّن علينا جميعاً النظر لذلك باعتباره اللعبة الكبرى المُحرِّكة لمجال العمل هذا.

لم يكن لدي أيُّ فكرةٍ عمَّا سيكتشفه نيك، لكن لم يبد من الصواب أن تتحقَّق رغبة كبار شارع فليت في أن يظل ما يقومون به في الصحافة منطقة لا يُسلَّط عليها الضوء. إذا كانت الصحافة سلطةً لها تأثير شديد -وأعتقد أنها كذلك، ويجب أن تكون- فهي بكلِّ تأكيدٍ تستحق التدقيق فيها.

إنَّ الصحافة الاستقصائية من هذا النوع بطيئةٌ للغاية، ومُكلِّفة، وأحياناً لا تُحقِّق سوى القليل من العائد المباشر. ليس ثمة مستشار إدارة في العالم سوف يقول إنَّ هذه الصحافة تُمثِّل استثماراً معقولاً في الوقت والموارد: لا يمكن لغرفة أخبار تعمل كما ينبغي أن تُبرِّر هذا الأمر. فالتحقيقات الكبيرة (مثل تحقيق ووترغيت على سبيل المثال) عادةً ما تعمل من خلال عمليات كشف تدريجية عن مواد أحياناً لا تكون مناسبة لأن تكون عنواناً للأخبار. ويمكن بالكاد قياس نسبة قراءة كل من القصص العديدة الأصغر خلال هذه العملية. وكان المُحرِّر العظيم هارولد إيفانز كثيراً ما يقول إنَّ التحقيق لا يكون ذا جدوى إلا عندما يشعر القراء، بل وحتى الصحفيون، بالملل منه.

كيف، إذن، تبرر هذه الكتابة الهوسية التي ليس لها منطق مالي واضح، وربما حتى لا تكون مثيرة لاهتمام القراء؟ إنَّ إجابة هذا السؤال تكمن في قلب فكرة الصحيفة. لو كانت الصحافة، بمعنى من المعاني، خدمة عامة، فإنَّ على المُحرِّر أن يفهم روح الخدمة العامة، التي أحياناً ما تكون ذات قيمة للمجتمع دون أن تعود بنفعٍ مادي مباشر. ويعني هذا الأمر التفكير في هذا النوع من الصحافة بالطريقة ذاتها التي قد تفكر فيها في خدمة الشرطة أو الإسعاف أو المطافئ. سوف تتوقَّع، بصفتك مواطناً، أن تعمل مثل هذه الخدمات بكفاءة، لكنك لن تتوقَّع منها أن تُبرِّر نفسها على أساس الربح.

في الواقع، ثمة فائدة مالية للتحقيقات، لكنها فائدة طويلة المدى. فالقراء، على مستوى ما، يريدون من صحفهم أن تكون شجاعة وجادة وباسلة وذات إصرار. يريد القراء كشف الفساد، وتحدي السلطة المُتغطرِسة، والكشف عن الفضائح الخطيرة. يذكرهم هذا الأمر بالهدف من وجود الصحافة. ويعجبهم ذلك، حتى أنهم يكونون مستعدين للدفع مقابله.

فالصحيفة التي تنشر تحقيقات بثباتٍ سوف تبني علامة تجارية (مع الاعتذار لكارهي هذه الكلمة). وقد كانت لصحيفة The Sunday Times في عهد هارولد إيفانز "علامة" بلا شك. وحتى اليوم، يُنظَر إلى هذه الصحيفة بصفتها واحدة من أعلى العلامات التي تتحدَّى صحافة القرن العشرين. للعلامات التجارية قيمة. فالصحيفة التي لا تدافع عن شيء سرعان ما تفقد بريقها، ثم الهدف من وجودها، ثم قراءها. لكن هذه الحجة ليست دائماً حجة رابحة فوراً لو كانت الأمور المالية متوتِّرة ولديك مستثمرين مُتعجِّلين.

أسفر مسعى ديفيز لاستكشاف سلطة الصحافة عن كتاب شديد الإحكام يدعى Flat Earth News، سجل فيه كيف أنَّ الكثير من الغرف الإخبارية، المهووسة بعدد قراء الصحيفة والميزانيات المتناقصة على الدوام، قد بدأت في ممارسة ما سماه Churnalism أو صحافة المضاربة. انتشرت هذه الكلمة، لأنَّ الكثير من مُوظَّفي التحرير الذين يعملون تحت ضغوط انكماش الموارد والمخرجات الأسرع من أي وقتٍ مضى قد تعرَّفوا على الحقيقة الكامنة في هذا المصطلح. لكن اتضح أنَّ تساؤلات نِك لم تكن سوى البداية. إذ جاء نِك لرؤيتي في شهر مارس/آذار 2009 ليخبرني قصةً جديدةً صادمة. لاحقاً، سوف نشير إلى هذه المحادثة باسم "محادثة الأزمة القلبية".

كان الخبر عن مراسل صحيفة News of the World، كليف غودمان، الذي سُجِنَ عام 2007، مع المرشد الخاص الذي ساعده على تتبُّع البريد الصوتي لثلاثة أشخاص كانوا يعملون في قصر باكنغهام. استقال المُحرِّر، آندي كولسون، لكنه أصبح الآن مدير الاتصالات لحزب المحافظين، وبعد ذلك بوقتٍ قليل سوف يشق طريقه إلى شارع داوننغ، عندما أصبح ديفيد كاميرون رئيساً للوزراء عام 2010. كان البيان الرسمي من شركة نيوز إنترناشونال أنَّ غودمان ثمرة فاسدة: وأنَّ اختراقه لتلك الهواتف كان حادثةً غير مسبوقة في الصحيفة.

أخبرني ديفيز أنَّ هذه القصة ليست حقيقية. إذ اتصل به أحد المصادر وأخبره أنَّ فكرة أنَّ غودمان هو الشخص الوحيد الذي اخترق الهواتف فكرة سخيفة. فالكثير من الصحفيين يفعلون الأمر ذاته: وتلك هي الطريقة التي كسبت بها الصحيفة الكثير من الجوائز. كان اختراق الهواتف هو القاعدة لا الاستثناء.

عرفت الشرطة ذلك في وقته، لكنها لم تفعل شيئاً حيال الأمر. لكن أحد الضحايا الآخرين للاختراق، وهو جوردون تايلور، المدير التنفيذي لرابطة اللاعبين المحترفين لكرة القدم، التجأ للقضاء، وكان يحاول اكتشاف من عرف بذلك الأمر، ومتى عرف به.

ما عدد الضحايا الذين نتكلم عنهم هنا؟ التقى نِك شخصية بارزة في الشرطة البريطانية (سكوتلاند يارد). وكان الجواب: العدد يقدر بالآلاف. لذا، فلم يكن غودمان مجرد ثمرة فاسدة.

عرضت الصحيفة التي هزها هذا الإجراء القانوني، أن تدفع لتايلور مبلغاً ضخماً هو 400 ألف جنيه إسترليني (حوالي 520 ألف دولار أميركي) بالإضافة إلى النفقات التي بلغت 300 ألف يورو (حوالي 390 ألف دولار أميركي). وهكذا فإنَّ الشركة بهذا المبلغ بالإضافة إلى دفع المال لزملاء تايلور كانت تعرض ما لا يقل عن مليون جنيه إسترليني (حوالي مليون و300 ألف دولار أميركي) لدفع هذا الإجراء القانوني.

وقد أُخبر نِك أنَّ ضحايا الاختراق تضمنوا نائب رئيس الوزراء، جون بريسكوت. وتورط في هذا الأمر عشرات من صحفيي نيوز أوف ذا وورلد وموظفيها. وكان لدى نِك إمكانية الوصول إلى رسائل إلكترونية تفيد بأنَّ صحفيين ومحررين (مذكورين بالاسم) في نيوز أوف ذا وورلد ناقشوا ما ورد في 35 رسالة صوتية تم اختراقها. وهكذا فقد مُزقت حجة "الصحفي المارق" إرباً.

وبحسب مصادر نِك، فقد وافق على هذه الصفقة جيمس موردوخ، ابن روبرت ورئيس شركة نيوز إنترناشيونال، على دفع ثمن الإسكات، وأغلقت وثائق المحكمة. لو كان نِك على صواب، فإنَّ أكبر المديرين التنفيذيين لمردوخ في المملكة المتحدة قد وافق على دفع مليون جنيه إسترليني (حوالي مليون و300 ألف دولار أميركي) للتستر على سلوك إجرامي في شركته.

روبرت وجيمس مردوخ
روبرت وجيمس مردوخ

كانت هذه قصة رهيبة. وكانت عملية مردوخ، بشكل إجمالي، قاسية. لو جرحت الشركة فحسب، فسوف تسعى للقضاء عليك. كنا نعرف بالفعل أنَّ الشرطة، لأسباب معروفة لهم وحدهم، لن يريدوا التورط في هذا الأمر. لن يكون لنا الكثير من الأصدقاء من السياسيين أو بقية الصحافة. سوف نكون بمفردنا.

بدأت قصتنا في منتصف يوم الأربعاء الـ8 من شهر يوليو/تموز 2009. فصلت القصة مؤامرة التستر على سلوك إجرامي. وورطت المتحدث الرسمي باسم زعيم المحافظين. واتهمت المديرين التنفيذيين لمردوخ بتضليل البرلمان. وأشارت بأصابع الاتهام إلى مراقب الصحافة وتساءلت عن سبب تجاهل الشرطة لهذا الأمر.

أظهرت الصحافة البريطانية اهتماماً خفيفاً فحسب بهذه القصة. أصدرت نيوز إنترناشونال بياناً من ثلاث صفحات انتقدت فيه عملنا بشدة وبرأت فيه نفسها. كان قسم العلاقات العامة للشركة يعمل وقتاً إضافياً في وستمنسر. قالوا إنَّ جميع هذه الادعاءات كاذبة. كتبت ريبيكا بروكس إلى رئيس اللجنة المختارة قائلة إنّنا قد ضللنا الرأي العام البريطاني عامدين. ونشرت التايمز مقالاً لضابط سابق في الشرطة البريطانية (يعمل الآن لدى مردوخ) صب فيه الماء البارد على قصة الغارديان. وأعيد طبع هذه القصة في الصحيفة الشقيقة، ذا نيوز أوف ذا وورلد، في صفحة تحريرية كاملة تهاجمنا.

كان هذا درساً في "كيف ترد منظمة مردوخ". وقد وعد مدير تنفيذي كبير في صحيفة ذا صن، لاحقاً، باستخدام صفحات الصنداي تايمز ليظهر كيف أنني "أكبر منافق لعين في العالم". بدا لو أنَّ عناوين هذه الصحف الشقيقة يمكن أن تستبدل لاستخدامها في استهداف أي شخص يمتلك جرأة الهجوم على المنظمة. بدا كما لو أنَّ منظمة صحف مردوخ في المملكة المتحدة بأكملها قد جرى حشدها لتكذيب الخبر والترويج للأخبار الكاذبة على أنها الحقيقة.

وخلال العامين التاليين، جرى الدفاع عن تقاريرنا بالتدريج وبشكل مؤلم. وفي الـ15 من شهر يوليو/تموز 2011، استقالت بروكس من نيوز إنترناشيونال. بعد ذلك بيومين، ألقي القبض عليها. بُرئت في النهاية، لكنَّ ظهور مردوخ أمام أعضاء البرلمان- "أكثر أيام حياتي تواضعاً"- أظهر أن المنظمة تعاني من محنة أخلاقية وتنظيمية.

كانت هاتان السنتان اللتان تطلبهما الأمر لرد غضب صحافة مردوخ ولإثبات أنَّ نِك كان على صواب، سنتين من الوحدة. حين يعيش المرء في ديمقراطية فإنه يفترض أنَّ ثمة العديد من الضوابط والموازين لمنع أصحاب النفوذ من ارتكاب أفعال ملتوية. وللمرة الأولى في حياتي الراشدة، شككت في أن هذا الأمر ينطبق على بريطانيا.

كنا قد عرضنا دليلاً قوياً على وجود مؤامرة إجرامية في واحدة من أقوى شركات الإعلام في العالم، لكن لم يرد أحد أن يعرف. لا البوليس. ولا المراقب. ولا البرلمان، على الأقل في البداية. ولا الصحافة البريطانية.

في نهاية المطاف، وجدت الشركة نفسها في المحاكمة- أو على الأقل، تحت الوهج القاسي للتحقيق القضائي- وبدأ تحقيق ليفنسون في ثقافة وممارسة وأخلاقيات الصحافة البريطانية، التحقيق الذي مثّل استجابة الحكومة البريطانية لتقرير نك ديفيز، وقد بدأ التحقيق في الـ14 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2011.

كان التحقيق المكون من جزأين قد بدأه رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، في أعقاب اكتشافات القرصنة على الهاتف. وحتى هذه اللحظة، كانت الصحافة البريطانية تمول جهازها التنظيمي الذاتي بنفسها، وهو "لجنة الشكاوى الصحفية". وقد دافعت الصحافة البريطانية عن هذه المنظمة معتبرين إياها صارمة ودقيقة، حتى شهر يوليو/تموز 2011، عندما اعترف قدامى المحررين أنَّ المنظمة بلا سلطات في النهاية، وأنه ينبغي استبدالها بشيء أقوى وأكثر صرامة.

لكن كان ثمة قضية ينبغي الإجابة عنها. فالإجرام غير المُراقب داخل غرف الأخبار كان كارثة أخلاقية للصحافة البريطانية ودورها في ديمقراطيتنا. كانت مثل فضائح EnronوVolkswagonوDeepwater، كانت بمثابة أزمة رهن عقاري الخاصة بنا. كان من المحزن أن نشاهد بعض الزملاء ينسحبون إلى المخابئ ويستخدمون صفحات التنمر خاصتهم لإنهاء جدل من خلال الهجوم العنيف على أي شخص يعرض حتى المساعدة البناءة لإعادة بناء الثقة في الصحافة. كرهتُ التهديدات والإساءة الموجهة إلى أي شخص كان يجرؤ على الاعتراض.

كانت الاستجابة الأولية لليفنسون، في الحقيقة، مدروسة. وبدا عموماً، أنَّ ثمة شعوراً بالارتياح أننا قد نجحنا في الإفلات نسبياً. لكنَّ بعض التبعات جرى التعامل معها بسوء كامل، ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً للصحافة البريطانية لكي تتحد وتهاجم، فرفضت بمرارة حتى المحاولات الأصدق نية والرامية إلى شكل أكثر مصداقية من التنظيم المستقل.

إنَّ ازدرائهم الشديد للـ"نخبة اللبرالية" أو مفهومهم المفترض للـ"مصلحة العامة" كان الجانب المر لحروب ثقافية أعمق. لكن ليفنسون وتداعياتها قد أوضحت كيف أنَّ معظم الارتباك، أو بشكل أكثر دقة الخلاف المباشر، موجود الآن حول طبيعة وغرض ما فعلناه.

لقد أصبح من الواضح أكثر فأكثر أنه لم يكن ثمة اتفاق واضح حول دور الصحافة في المصلحة العامة. وظفت صحيفة The Daily Mail الكثير من الصحفيين البارزين، لكنَّ الروح التحريرية القاسية والمؤلمة أحياناً لتلك الصحيفة لم يكن لديها الكثير من القواسم المشتركة مع هيئة BBC أو صحيفة The Financial Times، مثلها في ذلك مثل Fox News التي لا تجمعها قواسمٌ مشتركة مع New York Times أو Washington Post.

حتى بين أوساط ما يسمى بمنظمات تراث الصحافة، كان ثمة تباين حاد في الموقف حول ما ينبغي للصحافة أن تكونه أو ما يمكن لها أن تكونه. وقلما يمر أسبوع دون هجوم شديد من صحيفة The Daily Mail على المعايير أو الروح التحريرية لـBBC. ودورياً، يوبخ مُحرِّر The Daily Mail صحيفة The Guardian أو القناة الرابعة أو Financial Times، إما بشكل شخصي، أو دون ذكر أسماء أو عبر وكلاء. لم يكن ثمة وميض من السخرية او التواضع في نظر الصحيفة الأكثر تعرُّضاً للشكوى (1214 شكوى للجنة شكاوى الصحافة عام 2013) وهي تزدري أكثر المنظمات الإخبارية ثقة في البلاد (حظيت Financial Times على 7 شكاوى للجنة شكاوى الصحافة عام 2013).

إنَّ غضب الكبار من تحقيق ليفنسون تخفى في دعوات كوبيت أو سويفت لكن بدا أنه ليس ثمة الكثير مما يقترحه ليفنسون نفسه في ذلك الوقت- في مقابل التشاحن السقيم الذي تلاه- والذي قيّد أي تعليق قوي أو تحقيق في أمور ذات أهمية أصيلة للجمهور. فما الذي كانوا يخشون منه إذن؟ إنَّ الغضب الحقيقي، وهو أيضاً ظاهر في شجب اختصاص المحكمة الأوروبية فيما يتعلق بالخصوصية، كان الغضب الحقيق منصباً على القضاة الذين وقفوا في طريق هذه الصحف في سعيها للربح جراء نشر الفضائح الجنسية.

لدى الصحافة الصفراء نموذج تجاري ينطوي، جزئياً، على التدخل في خصوصية الناس في نظر العامة. ومقارنة بنماذج تجارية أخرى، فإنَّ هذا لا يعد نموذجاً سيئاً. ذلك أنَّ شهية الجمهور للفضائح تفوق شهيته لتغطية أخبار السياسة. إن لم تنشر عن الفساد والجنس فلن يقرأ أحد عن ويستمينستر. هذه هي حجتهم.

لكن كان من الصعب ألا نتعجَّب من كل هذا الغضب المُثار. هل كان الفريق التحريري لصحيفة The Sun خالياً من "الغسيل القذر" أو "السلوكيات الرخيصة" أكثر من أي غرفة أخبار أخرى؟ إنَّ الصحفيين- وحتى بعض المُلَّاك- لم يكونوا معروفين بعيش حياة القديسين، أكثر من لاعبي كرة القدم.

هل كان الأمر مهماً؟ يمكن لصحيفتيّ The Sun وThe Daily Mail بالطبع أن يكون لهما أولوياتهما الاقتصادية وأخلاقياتهما، ويمكن للنيويورك تايمز والفاينانشيال تايمز أن يكون لهما ذلك أيضاً. وكذا فوكس نيوز وبي بي سي. فالأمر كله "صحافة". يمكننا تدبير أمورنا في تعايش سلمي. كانت هذه هي الطريقة التي اعتادت بها الأمور أن تسير، في زمن ألطف قبل أن تبدأ الصحف باستخدام تقنيات الشرطة السرية للتجسس على أهدافها.

لكنَّ الصحافة الآن تواجه خطراً اقتصادياً وجودياً في صورة إعادة تقييم غاضبة لمكاننا في العالم. وعلى كلا الجانبين من الجدل الذي يزداد خشونة حول الإعلام والسياسة والديمقراطية، ثمة تردد حول ما إذا كانت لا تزال ثمة فكرة مشتركة لما تعنيه الصحافة، وسبب أهميتها.

في الثالث من شهر ديسمبر/كانون الأول 2013، قدمت إلى قاعة لجان برلمانية في وستمنستر للدفاع عن الصحافة. لم يكن ذلك محاكمة، لكنها بدت كما لو كانت كذلك. في الغرفة المجاورة كان اثنان من أبرز ضباط الشرطة في البلاد ينتظران، وكانا يحققان فيما إذا كان ينبغي محاكمتي. كان بعض الأعضاء المحافظين في اللجنة عازمين على سحب اعترافات مني وكنت متأكداً أنهم سوف يحبون رؤيتي في السجن.

نظرياً، كانت لجنة الشؤون الداخلية تنظر في مكافحة الإرهاب. لكنهم في ذلك اليوم كانوا يريدون أن يعرفوا عن إدوارد سنودن، العميل السابق بوكالة الأمن القومية الأميركية الذي سرّب للغارديان وصحفٍ أخرى وثائق فائقة السرية من وكالة الأمن القومي الأميركية ومكتب الاتصالات الحكومية البريطانية، تكشف عن مدى أنشطة مراقبة الدولة للمواطنين. لم يحدث مثل هذا التسريب من قبل قط.

كان رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية، الدبلوماسي اللبق السابق السير جون ساورز قد أخبر أعضاء البرلمان أنَّ خصوم بريطانيا كانوا "يفركون أيديهم سعادة. والقاعدة على وشك الفوز". وقد أدلى بسلاسة بعناوين أخبار اليوم التالي.

الصحافة البريطانية، خلافاً للأغلبية الساحقة من الصحفيين في جميع بلدان العالم تقريباً، لم تسعى لدعم الغارديان في نشر اكتشافات سنودن. بل كانت بعض الصحف معادية لنشرها بشكل علني. وكتب مُحرِّر سابق في إحدى الصحف الكبرى أنَّ الصحف ليس لها الحق في تحديد المصلحة العامة عندما يتعلق الأمر بالأمن. وقال أحد كتاب الإيكونوميست إنه كان سيسلم سنودن للشرطة لو كان قد أحضر هذه القصة له. مرة أخرى، لم تتفق الصحافة البريطانية على معنى المصلحة العامة.

لم يبدُ أعضاء البرلمان الجالسون أمامي على شكل نصف دائرة، في المجمل، ودودين. كنت وحدي. افتتح رئيس اللجنة، عضو البرلمان المُتمرِّد عن حزب العمال، كيث فاز، الأسئلة. كان "فاز" سليل عائلة من غوان وقد استقر في إنكلترا عندما كان بعمر السادسة بعد فترة قضاها في عدن. لم يمض وقت طويل قبل أن يلقي فاز ما بدا كأنه قذيفة في اتجاهي. قال: "ولد كلانا خارج هذا البلد، لكنني أحب هذا البلد. هل تحبها أنت؟".

لجزء من الثانية كنت عاجزاً عن الكلام. أفقت لأقول إنَّ وطنيتي متجذرة في فكرة أنَّ بريطانيا تسمح بصحافة حرة يمكنها الكتابة عن هذه الأمور. كانت هناك بلدان تخبر الأجهزة الأمنية فيها المُحرِّرين بما يمكنهم الكتابة عنه وما لا يمكنهم. هذه الدول ليست ديمقراطيات. كنت فخوراً لأنني أعيش في دولة لم يكن هذا سلوكها.

إذا لم يكن بإمكان الصحفيين الاتفاق على فكرة مشتركة للمصلحة العامة- عن الخدمة العامة التي نزعم أننا نقدمها- فإنَّ ذلك يعقد الدفاع عما نفعله. وفي عصر الإعلام الجماهيري الحر الأفقي، من الأكثر أهمية بالنسبة لنا أن نكون قادرين على تحديد قيمنا، وغايتنا واستقلالنا وإعلانها. وهو ما يشمل الاستقلال عن الدولة.

لكن بعد خمس سنوات من اكتشافات سنودن، من الواضح الآن أنَّ الدول أنفسها تعاني من الاضطراب الرقمي الذي مزق في البداية وسائل الإعلام الراسخة وهو يعيد الآن صياغة السياسة. إنَّ الشركات الرقمية العملاقة لم تطلق العنان لفوضى المعلومات فحسب، بل إنها أصبحت، في غمضة عين، أقوى المنظمات التي شهدها العالم على الإطلاق.

إنَّ كلمة "العامة" بالنسبة لبعض الناس في القرن الـ21، كلمة صعبة. إننا نقدر الخدمات العامة، والمساحة العامة والسلع العامة لكننا أحياناً ما نكافح لمعرفة كيفية مناقشتها، أو إنشائها، أو إدارتها أو تمويلها أو تنظيمها أو دعمها أو قياسها. نتكلَّم عن المنافع العامة و"المصلحة العامة" دون أن نعرفها قط تعريفاً مُرضياً. نحن في المملكة المتحدة نقدر الخدمة الصحية العامة لكن ليس إلى درجة تمويلها بشكلٍ كاف. نحن نثق في خدمة إذاعة عامة فوق جميع مقدمي الأخبار الخصوصيين، لكننا نلعنها بانتظام.

إنَ الدفاع النهائي عن الصحافة يتمثل في أنها ما تزال منفعة عامة. لكن كيف يمكن أن نقيس أو نقيم مثل هذه البضاعة العامة في وقت "أصبحت فيه الأسواق، وقيم السوق، تحكم حياتنا كما لم يحدث قط من قبل … تترك الأسواق أثرها. أحياناً، تدفع قيمُ السوق قيماً غير سوقية جديرة بالاهتمام"، وذلك بحسب الفيلسوف السياسي مايكل ساندل.

قبل عقد من الزمان، كان هذا الكلام عن الأخبار بهذه الطريقة من شأنه أن يُرفض بصفته شكوى الليبراليين- الـ"تابعون" المحتقرون الذين لم يكونوا تجاريين بما يكفي لإنتاج صحافة مناسبة يريد الجمهور قراءتها (كما زعم جيمس مردوخ عام 2009 "إنَّ الضامن الوحيد المعتمد والمستمر والدائم للاستقلالية هو الربح"). لكن الآن، في مواجهة النطاق الواسع والشعبية والقوة التجارية الهائلة لجبابرة وادي السليكون، ثمة صرخة عبر الإعلام ضد الفوضى التي ألحقتها الأسواق الحرة بالصحافة التقليدية.

بعد عقدين من التشويش، قد يكون من الممكن ألا يتمكَّن أي من نماذج الأعمال التقليدية في الاستمرار في دعم الأخبار الجادة التي تصب في المصلحة العامة. لكن التحديات لم تكن قط بمثل هذا الإلحاح: فنحن بحاجة إلى العمل الصحفي الأساسي، أن تكون الصحافة صرخة ينبغي لها أن تُفرِّق، بأعلى صوت، بين الحقائق والأكاذيب.


اقرأ أيضاً

ترمب ما بين الفضيحة والكوميديا.. هل تكون نهاية الامبراطورية الأميركية على يديه؟!

تختار طريقتها الخاصة للرد عليه فتجعله حديث الصحافة بالملابس التي ترتديها.. كيف تحرج ميلانيا زوجها ترمب بأزيائها؟