تغريدة كانت كفيلة بإشعال أزمة كبيرة بين السعودية وكندا.. لفهم ما جرى نظرية هوفستيد تشرح سبب العداء الذي حل بين البلدين

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/31 الساعة 13:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/01 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش

على مدار الأسابيع القليلة الماضية، تحوَّلت تغريدةٌ لوزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند إلى صدامٍ دبلوماسي ضخم بين كندا والسعودية.

والتغريدة التي نُشرت في 2 أغسطس/آب 2018، دعت فيها فريلاند إلى إطلاق سراح اثنين من النشطاء السعوديين المسجونين وهما رائف وسمير بدوي، وقبل ذلك كثيراً ما عبَّر المسؤولون الكنديون عن قلقهم إزاء نهج السعودية في ما يتعلَّق بحقوق الإنسان.

ولكن رغم أنّ السعودية اعتادت مقابلة هذا النقد بعدم اتخاذ أي خطوة، هذه التغريدة تحديداً في هذا اللحظة بالذات دفعت الرياض إلى الرد بمجموعةٍ من الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية القاسية.

وحتى الآن، سحبت المملكة ما يقرب من 8300 طالب في المرحلة الجامعية من كندا، وأعادت بعض المرضى الذين كانوا يخضعون للرعاية الطبية هناك، وطردت سفير كندا لديها، وجمدت العلاقات التجارية، وأعادت مبالغ تقدر بالملايين من الاستثمارات الكندية في صندوق الاستثمارات العامة، وعلَّقت الرحلات الجوية إلى كندا على متن الخطوط الجوية الحكومية.

وكل هذا لأجل تغريدة واحدة ناقدة. وذلك تساءل مركز stratfor الأميركي في تقرير نشره أمس الخميس 30 أغسطس/آب 2018، ما الذي دفع السعودية إلى الدخول في عِراكٍ دبلوماسي مع كندا؟ ولماذا أثارت تغريدة فريلاند شعوراً بالإهانة لدى الرياض إلى هذا الحد؟ ولماذا أصلاً نشرت فريدلاند التغريدة في المقام الأول حول هذا الموضوع؟

صدام القيم الوطنية

رغم وجود خلافات إستراتيجية بين السعودية وكندا، بما في ذلك انتقاد الحكومة الكندية لسلوك السعودية في اليمن، وامتعاض السعودية من الدعم الكندي للاتفاق النووي الإيراني، ثمة مساحات من التوافق الاستراتيجي بين البلدين تفوق نقاط الاختلاف.

سعوديون اضطروا لمغادرة كندا بعد أزمة بلدهم مع أوتاوا
سعوديون اضطروا لمغادرة كندا بعد أزمة بلدهم مع أوتاوا

فلدى الدولتين رؤيتان متكاملتان لإنتاج النفط، وتمدان بعضهما البعض بنسبةٍ جوهرية من السياح، كما أنهما شريكتان في مكافحة الإرهاب. وبحسب تقرير المعهد الأميركي فإن تغريدة فريلاند ورد الفعل السعودي عليها كلاهما تفتقران إلى الحصافة الاستراتيجية ولا يمكن اعتبارهما تحركين استراتيجيين، إذا ما أُخذ في الاعتبار أن كلتا الدولتين ستخسران على المستوى الاقتصادي.

ولكن ثمة طرقاً يمكن من خلالها فهم أسباب سير الأحداث إلى ما آلت إليه، إذا ما طبقنا نظرية جيرت هوفستيد للأبعاد الثقافية، وبناء عليها فإن معركة التغريدة بين السعودية وكندا يمكن أن يُنظر إليها باعتبارها تتعلق بصدام القيم الوطنية بين البلدين.

عُرفت نظرية هوفستيد التي انتشرت في أول الأمر عام 1948، واستمد هوفستيد الإلهام بشأنها من تجربته الشخصية في الانتقال من هولندا إلى المملكة المتحدة.

وتعرف النظرية القيم الوطنية من خلال تقسيمها إلى ستة أبعاد مختلفة من الثقافة، يتم التعبير عنها في عددٍ من السلوكيات. ومن الناحية العملية، تسمح هذه النظرية بفحص السلوكيات وتحديد القيم الثقافية الدافعة لها. ثم بعد ذلك يمكننا بسهولة المقارنة بين قيم الدول وإدراك نقاط الاختلاف بينها (وكان المقصود من نظرية هوفستيد تحديد التوجهات السلوكية في المجموعات الكبيرة، وليس التكهن بالتصرفات المحددة للأفراد).

كثيراً ما تستخدم الشركات والمؤسسات التعليمية العالمية إطار عمل النظرية لتحقيق فهم أفضل لكيفية إدارة تلك الثقافات المختلفة والتعرف عليها. غير أن تطبيق هذه النظرية على العلاقات الجيوسياسية يمكن أن يساعدنا أيضاً في تحقيق فهم أعمق للدوافع الداخلية التي تقف وراء تصرفات أوتاوا والرياض مؤخراً.

كندا والسعودية: نقيضان في نظرية هوفستيد

تعد تغريدة كندا التي تدين وضع حقوق الإنسان في السعودية مثالاً على المواقف المتناقضة بين البلدين في ما يخص ثلاثة من الأبعاد الثقافية التي يستخدمها هوفستيد: مؤشر المسافة من السلطة (كيف تنظر الحكومة إلى السلطة)، والفردية مقابل الجماعية (كيف تنظر الدولتان إلى الأفراد مقابل الجماعات) ومؤشر تجنب عدم اليقين (كيف تنظر الدولتان لعدم اليقين في ما يخص المستقبل).

كيف تبدو السلطة في منظور ثقافتيّ البلدين؟

في كندا، كانت تغريدة فريلاند مثالاً على أحد الطقوس السياسية التي تؤكد على القيم الجوهرية لكندا في ما يتعلَّق بالسلطة ومعاملة الأفراد. أما في السعودية، نُظر إلى التغريدة باعتبارها هجوماً مباشراً على نهج المملكة في التعامل مع السلطة والفردية.

وتضع السلطة نفسها في السعودية في برج عاجيّ ولا تخضع للمساءلة إلا في ظروفٍ بالغة الدقة والتحديد. ويوجد في المملكة تدرج هرمي صارم في السلطة، وفي حين يمكن للمواطنين السعوديين تقديم الالتماسات إلى الملك وحكومته، لا يمكنهم أبداً الافتئات على حكمهم.

لكن في كندا، لا ينأى رئيس الوزراء وغيره من الساسة بنفسهم عن الشعب، بل هم في مرتبة شبه متساوية بمن يحكمونهم. وبالنسبة للكنديين، ترد السلطة بشكل فوريّ ومفتوح على أي نقدٍ يوجه لها من أي جانب.

كيف تبدو الفردية مقابل الجماعات في كلتا الثقافتين؟

تتبع الدولتان أيضاً مقاربة مختلفة في كيفية ارتباط الأفراد بالجماعات. يولي السعوديون أولوية قصوى لحقوق الأفراد ومسؤولياتهم باعتبارهم جزءاً من مجموعة؛ ويُدفع الأفراد الذين يحاولون تغيير السلوك الجميع دون الحصول على إجماع على هذا التغيير أولاً إلى هامش المجتمع.

أما كندا، فهي كغيرها من العديد من الدول الغربية، تقف على النقيض تماماً: فالأفراد لا يُنتظر منهم تحدي المجموعة بل والانفصال عنها أيضاً، مع التأكيد على مبدأ الفرديّة كلما أمكن.

كيف يبدو عدم اليقين في منظور الثقافتين؟

أخيراً، لا تزال الاحتمالات مفتوحة أمام حدوث تغيير كبير في الثقافة الوطنية في كلٍّ من السعودية وكندا، فمن جهة يرحب الكنديون بشكلٍ واسع بالتغيير الثقافي وما يصحبه من عدم يقين بل ويكافئون عليه؛ إذ ينظرون إلى التقاليد باعتبارها سمة أقل أهمية في تجربتهم الثقافية.

أما في الثقافة السعودية فتؤكد على التقاليد واستمراريتها مع انفتاح أقل على عدم اليقين. وأشارت فريدلاند، بتغريدتها لإطلاق سراح الناشطين، إلى إدخال السعودية في حالة من عدم اليقين، وهي حالة ليست محل ترحيب لدى الحكومة السعودية الحالية، التي تعمل بالفعل على إدخال تغييراتها الخاصة على المجتمع السعودي.

ما الذي يمكن أن يجعل تغريدة تدمر العلاقات بين بلدين؟

كان الدافع الفوري لنشوب الخلاف هو إدانة التغريدة لأسلوب معاملة النشطاء في السعودية. غير أن الخلاف تصاعد بفعل اختلاف منهجيات الدولتين في التعامل مع القيم الثلاث المذكورة أعلاه، بحسب ما ذكره تقرير معهد stratfor.

وكانت تصرفات النشطاء، والحكومة السعودية، والحكومة الكندية بمثابة تقاطع لتلك القيم، وكانت النتيجة حدوث اضطراب هائل في العلاقات الدبلوماسية، إذ تنظر كندا إلى النشطاء باعتبارهم "أبطال"، وفقاً للمصطلحات التي يستخدمها هوفستيد للتعبير عن الثقافة.

سمر بدوي إحدى الناشطات المعتقلات بالسعودية
سمر بدوي إحدى الناشطات المعتقلات بالسعودية

ولكن في السعودية، يقول تقرير المعهد الأميركي: "تقتضي القيم الثقافية، بشكل عام، النظر إلى معظم النشطاء باعتبارهم أعداءً للدولة، أو أوغاداً"، بحسب تعبير هوفستيد. وفي هذه الحالة، ينطبق هذا الوصف على النشطاء؛ لأنهم تحدوا بشكل مباشر، نهج السعودية في التعامل مع السلطة والفردية.

ويمكن النظر إلى كندا، بانتقادها قرار الحكومة السعودية، بأنها ترد على الفجوة بينها وبين السعودية؛ أما رد فعل الرياض فقد كانت استجابة من النوع نفسه. خرج كلا الجانبين بتأثير قومي وهما يدافعان عن قيم دولتهما، وأرسلت الرياض أيضاً إشارات إلى الدول الأجنبية بأنها لن تتسامح مع التدخل في الشؤون الداخلية السعودية، خصوصاً تلك التي تجري على نحو يمكن أن يقلب الموازين الاجتماعية، حتى وإن كان ذلك على حساب العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية.

ويمكن أن تساعدنا قيم هوفستيد الثقافية في فهم سبب اعتقال ناشطات حقوق الإنسان لدعوتهن السماح للمرأة بقيادة السيارة، حتى في الوقت الذي كانت فيه الحكومة السعودية تجهز لمنحهن هذا الحق. لم يكن الأمر يتعلَّق بما يطالبن به؛ بل كان يتعلَّق بتحديهن لبنى السلطة التي يقودها وليّ العهد محمد بن سلمان وخرقهن القيم الثقافية المقبولة.

كيف يمكن إنقاذ العلاقات بعد صدام بين القيم؟

ليس كل اختلاف قيمي سيؤدي إلى عِراكٍ أو صدام، خصوصاً في حال وجود توافق في أبعاد ثقافية أخرى. على سبيل المثال، منعت فرنسا ارتداء النقاب عام 2011، وهو رمزٌ ثقافي مهم في السعودية، ولكن هذه الخطوة لم تسبب أزمة دبلوماسية مع فرنسا. لماذا؟

إذا طبقنا نظرية هوفستيد للإجابة على هذا السؤال، يمكننا القول إن السبب في هذا يعود جزئياً إلى أن الحظر، رغم أنه لم يكن بالضرورة محل ترحيب من السعوديين، كان أمراً يمكن للحكومة السعودية أن تتفهمه على الأقل، لأنه في حين يمكن أن تختلف الدولتان في ما يتعلَّق ببعض الجوانب، فإنهما قد اتفقتا في قيم ثقافية وطنية رئيسية أيضاً: مثل الرغبة في تجنب مستقبل غير مؤكد، وما يصحب ذلك من رغبة في تجنب تغيير في التقاليد.

أبعاد هوفستد الستةللثقافة الوطنية: مقارنة بين فرنسا والسعودية وكندا
أبعاد هوفستد الستةللثقافة الوطنية: مقارنة بين فرنسا والسعودية وكندا

نظرت فرنسا إلى النقاب باعتباره بدعة ثقافية في بلدٍ لا يُرحب بالتغيير بسهولة. لذا كان من المنطقي أن تتخذ فرنسا خطوات ليس لتقليص حجم هذا التغيير فحسب، وإنما لحظر وجوده من الأساس.

وأوضحت فرنسا أيضاً أن الحظر كان أمراً فرنسياً خالصاً، وليس دعوةً عالمية لإنهاء وجود النقاب. كان بوسع المواطنين السعوديين فهم هذا الموقف؛ إذ تُخضع المملكة الوجود الثقافي الأجنبي داخل حدودها للرقابة أيضاً، ولسبب نفسه: عدم استحباب الابتكار وعدم اليقين. لذا فإن الاتساق في القيم الجوهرية بين البلدين جعل القرار أقل إثارة للجدل مما كان متصوَّراً.

استخدام القيم لفهم القرارات الجيوسياسية

وتقدِّم نظرية هوفستيد أيضاً وسيلة لفهم السلوكيات الجيوسياسية للدول، والزعماء، والمنظمات الدولية. وتقل احتمالية نشوب خلاف بين الدول التي تملك قيماً وطنياً متشابهة حول اختلافات سطحية بين ثقافاتها، حتى عند التصرف بطريقة تبدو وكأنها ستشكِّل إهانة للدولة الأخرى.

ولكن عند وجود اختلاف كبير في الأبعاد الثقافية، تزيد احتمالية الصدام حول المأثورات الثقافية. حيث يمكن للدول أن تدير تلك الصدامات، خصوصاً إذا كانت بينها مصالح استراتيجية مشتركة كافية، كما هو الحال مع السعودية وكندا.

وأخيراً، ثمة مخاطرة في تجاهل الحكومات لقيمها في محاولة لرعاية علاقاتها، خصوصاً مع شريك أكثر منها قوة. فيمكن أن يؤدي الضغط الداخلي المتزايد إلى إجبار الحكومة على تغيير سياساتها، أو حتى إلى عقد انتخابات مفاجئة أو ثورة أو انقلاب. وهذا إلى حد بعيد ما أطاح بشاه إيران محمد رضا بهلوي عام 1979: حين حاول مواءمة حكومته مع قيم أكبر حلفاء إيران مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، أدى تنامي مشاعر الرفض الداخلية لذلك إلى اندلاع الثورة.

احتساب القيم كعاملٍ في تقييم المخاطر

وتعد القيم عامل مخاطرة إضافي في العلاقات الدولية، إذ تُدخِل في المعادلة عنصراً دائماً من عدم اليقين حتى في ما يتعلَّق بالعلاقات المتاوئمة إستراتيجياً بشكل قوي. يمكن أن تمر بعض الدول الحليفة بحالة من الجفاء تبدو غير مبررة، ولكنها تنبع في الأصل من صِدام القيم.

ويمكن أيضاً أن تتبدل أولويات الحكومات أو تتخلى عن مواقف كانت مصرة عليها من قبل رداً على تعبير قوي في الداخل عن قيم الدولة الثقافية. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتخلى بعض الحكومات عن مبادئها الوطنية، لتكون بذلك عرضة للسخط في الداخل أو حتى الإطاحة بها من السلطة.

ويسمح الوعي بدور القيم في اتخاذ القرارات الجيوسياسية لمن لديهم شيء ما يمكن أن يكون عرضة للخطر في حال تدهور العلاقات بين الدول، مثل الدبلوماسيين والشركات والسائحين والطلاب، إلى تقديم تقييم أفضل للوضع والتهيؤ لمدى تأثير خلافات من هذا النوع عليهم. ويمكن أن يسمح هذا المستوى من فهم الدوافع التي يمكن أن تقف خلف بعض القرارات الدولية المهمة للمنظمات والأفراد بالتكهن بتلك التغييرات والاستجابة لها بشكل أنجح.

علامات:
تحميل المزيد