كيف تستعد السعودية والإمارات لمواجهة الهبوط «المحتوم» للبترول؟.. الموانئ الكبرى، مفتاح الخليج لاقتصاد ما بعد النفط

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/27 الساعة 19:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/27 الساعة 19:13 بتوقيت غرينتش

تملك السعودية والإمارات الاقتصادين الأول والثاني على التوالي في الخليج العربي بفضل احتياطيِّهما الهائل من البترول. لكن كلتا الدولتين تنظر نحو المستقبل، في ترقُّبٍ لهبوط قيمة البترول الذي قد يكون في المستقبل البعيد، ولكنه محتومٌ رغم ذلك. ولذلك، تنفذ الإمارات والسعودية خططاً اقتصاديةً تنويعيةً كجزءٍ من مساعٍ كبرى نحو التحديث الاجتماعي، وبالنظر إلى موقعهما على الطرق التجارية، رأت الدولتان إمكانية كسب الأموال من أعمال الموانئ.

ولكن مع أن الموانئ والوظائف المقترنة بها هي -وستظل- رهانٌ مالي مضمون، يوضح تقرير لموقع مركز Stratfor الأميركي، أن الحكومتين السعودية والإماراتية قد تميلان إلى استغلال نفوذهما السياسي الاجتماعي المتعارض مع ممارسات الأعمال المربحة.

لماذا موانئ دول الخليج مثمرة؟

ويضيف تقرير المركز الأميركي أنه في المواقع الملائمة للتجارة بين أوروبا والصين، لعبت الدولتان الواقعتان على شبه الجزيرة العربية دور محطتين ضروريتين على كبرى الطرق العالمية بين الشرق والغرب منذ قرونٍ. لذا، فهي خطوةٌ طبيعيةٌ وسديدةٌ اقتصادياً أن تركزا على تنمية صناعة الشحن على سبيل جني الثروات من قطاعاتٍ غير البترول.

لذلك، تَظهر عشرات شركات الشحن الجديدة في الموانئ وما حولها. وعكس الصناعات غير البترولية الأخرى، مثل السياحة والبناء، فصناعة الشحن مستقرةٌ ودائمةٌ طوال العام، وتحتاج إلى مديرين وموظفي ياقاتٍ بيضاء، لا عمالٍ يدويِّين فحسب.

والموانئ الخمسة الكبرى في السعودية والإمارات هي محاور نقلٍ عابرٍ (أي من سفينةٍ إلى أخرى) وكذلك جهات إرساء. والمَحاور، التي هي في الأساس محطات على الطرق التجارية الأطول، تتيح فرصاً اقتصاديةً أكثر حتى من الموانئ النهائية، حيث المنتجات إمَّا يجري تفريغها وإما تصديرها؛ لأنها تسمح بتنمية الشركات التي توفِّر التأمين، وتقدِّم خدمات الاستيراد والتصدير، وتتقاضى رسوم الإرساء، بالإضافة إلى أمورٍ أخرى.

جبل علي وميناء خليفة في الإمارات العربية المتحدة

جبل علي في دبي وميناء خليفة بأبوظبي هما أكبر ميناءين إماراتيَّين. وجبل علي هو الأبرز إقليمياً كمحورٍ للنقل العابر، بسعة بضائع تصل إلى 22.1 مليون وحدة حاوية 20-قدم-إيزو. (عدد وحدات الحاوية 20-قدم-إيزو هو طريقة فعالةٌ لقياس الحجم وتأثير الصناعة). وانتهى تشييد جبل علي أول مرةٍ في 1979، وهو متَّصِلٌ بأكبر محطَّتي نقلٍ جويٍّ في المنطقة: مطار دبي الدولي ومطار آل مكتوم الدولي.

ميناء جبل علي هو الأبرز إقليمياً كمحورٍ للنقل العابر
ميناء جبل علي هو الأبرز إقليمياً كمحورٍ للنقل العابر

وهو ميناءٌ عصريٌّ يحتوي على تكنولوجياتٍ حديثةٍ كالرافعات الآلية وتكنولوجيا البلوكتشين blockchain. وبمساعدة التمويل الحكومي، تطوِّر الشركات الخاصة خطةً لبناء حلقةٍ فوقيةٍ تصل بين جبل علي وميناء خليفة.

وبدأ ميناء خليفة العملَ عام 2012، ويملك سعة 2.5 مليون وحدة حاوية 20-قدم-إيزو فقط. وهو يورِّد السلع إلى أبوظبي في المقام الأول، لكنه صُمِّم لاستيعاب كبرى سفن العالم، ولدى الحكومة خططٌ طموحةٌ لأن يصبح من محاور النقل العابر بسعة 35 مليون وحدة حاوية 20-قدم-إيزو بحلول عام 2030.

الملك عبد العزيز وميناء جدة في المملكة العربية السعودية

تركِّز السعودية أيضاً على توسيع أكبر موانئها. وميناء الملك عبد العزيز في الدمَّام على الخليج العربي هو أكبر محاور التصدير السعودية للصادرات الصناعية والبترول والغاز الطبيعي. وطالما يحتفظ البترول بقيمته، لا تنوي الحكومة تغييره إلى محورٍ للنقل العابر. ولكن لأجل سدِّ احتياجات السعودية من البضائع بصورةٍ أفضل في المنطقة الشرقية والمنطقة المركزية السعودية، نمَّت سلطات الموانئ سعة وحدات الحاوية 20-قدم-إيزو في ميناء الملك عبد العزيز إلى 1.5 مليون وحدة.

وعلى البحر الأحمر يقع ميناء جدة، الذي يستوعب 4.15 مليون وحدة حاوية 20-قدم-إيزو، وهو أكبر المراكز اللوجيستية السعودية. ويتولَّى الواردات من والصادرات إلى منطقتي الحجاز وجازان المأهولتين في غرب المملكة، إلى جانب العاصمة الرياض. لكنه أيضاً متَّصلٌ بمنشأة البضائع، البالغة سعتها 35 ألف مترٍ مربعٍ قرب مطار الملك عبد العزيز الدولي. وبمساعدة الحكومة السعودية، تعتزم سلطة الميناء جعل ميناء جدة محوراً قيِّماً للنقل العابر.

ميناء الملك عبد العزيز بمدينة الدمام
ميناء الملك عبد العزيز بمدينة الدمام

ولكن في الوقت الحاليِّ، لا يملك الميناء وسائط نقلٍ بالسكك الحديدية. ولا توجد خططٌ لإحياء السكة الحديدية بالحجاز المهجورة منذ زمنٍ، وما زال مشروع الحكومة للمعبر الأرضي الممتد من الرياض إلى البحر الأحمر في مرحلة المناقشة.

وأخيراً، هناك ميناء الملك عبد الله، أحدث موانئ الدولة وأعلاها طموحاً. وهو ملحقٌ بمدينة الملك عبد الله الاقتصادية الضخمة، التي لا تزال قيد البناء (ومتأخرةٌ عن جدولها الزمني كثيراً). الميناء هو محورٌ حديثٌ للنقل العابر بسعة 1.7 مليون وحدة حاوية 20-قدم-إيزو، وتعتزم الحكومة زيادة ذلك الرقم إلى 5 ملايين وحدةٍ في غضون السنوات القادمة.

والدولتان تعولان على هذه الموانئ لتحقيق "نمو هائل"

تملك كل هذه الموانئ الخمسة -وهي الكبرى في المنطقة- القدرة على إحداث نموٍّ هائلٍ، بالأخص إذا ساندتها الحكومتان والاستثمارات الخاصة من مصادر محليةٍ وأجنبيةٍ. وتنوي الحكومتان السعودية والإماراتية أن تزيدا من خلال الموانئ عدد فرص العمل للمواطنين، وهي نقطة ذات أهميةٍ بالذات في السعودية، حيث يبلغ معدل البطالة 12.9%. وتعوِّل الحكومتان كذلك على أن تجتذب الموانئ الموسَّعة مزيداً من الاستثمار الأجنبي المباشر؛ وبذلك تنتج رأس مالٍ أكبر للمواطنين. وبينما هذه الاستراتيجية منطقية، فالقول أسهل من الفعل في تحقيق هذه الأهداف.

وتحاول السعودية والإمارات الابتعاد تدريجياً عن نظامهما الحالي، الذي يُكسِب الدولتين ثروةً هيدروكربونيةً ويجعلهما تشرفان على توزيع تلك الثروة على المواطنين في مقابل الاستمرارية الاجتماعية والسياسية. فتريد الدولتان الانتقال إلى نظامٍ جديدٍ باقتصادياتٍ متنوعةٍ قادرةٍ على توصيل الثروة إلى المواطنين توصيلاً مستقلاً عن الدولة، وتسمح للحكومة بالإشراف على القيم الاجتماعية والسياسية بدلاً من الاستقرار الاقتصادي. ولكنهما احتفظتا بالبنية السابقة وقتاً طويلاً جداً حتى صار من الصعب على الحكومتين التخلي عن السيطرة، حتى في ظلِّ تطبيقهما خططاً تتطلَّب منهما فعل ذلك.

غير أن هذا النمو لا ينعكس على المواطنين "المتوسطين"!

مع أن الموانئ السعودية والإماراتية تعمل مستقلةً ظاهرياً، فهي تعتمدُ على مزيجٍ من الاستثمار الخاصِّ والحكوميِّ لأجل تأدية أعمالها ونموِّها، أي إنها جميعاً يقع عليها خطر خفض الذروة أو الخضوع لمرسومات التعيين الحكومية غير العملية.

على سبيل المثال، مع أن الموانئ -بالأخص محاور النقل العابر- توفِّر فرص عملٍ كثيرةً، فغالباً ما تذهب هذه الوظائف التقنية إلى عمالٍ أجانب، ويُعزى هذا بنسبةٍ كبيرةٍ إلى الفارق بين مستويات تعليم العمال المحليين والمهارات المطلوبة للعمل في الصناعات المرتبطة بالشحن. لذا، فمن الأرجح أن يؤول المطاف بالأرباح الناتجة من الموانئ الناجحة مالياً في جيوب العمال الأجانب، والمستثمرين الأجانب والنخبة المحلية، بدلاً من جيوب المواطنين المتوسطين السعوديين والإماراتيين. وقد تحثُّ تلك الحقيقة الرياض وأبوظبي على فرض قيودٍ على تعيين العمال الأجانب، ولن تملك الشركات داخل الموانئ وحولها سلطةً كافيةً لرفض تلك القيود، وحتى وإن نتجت عنها خسائر في الإنتاجية والأرباح.

كما أن الاستمرارية تتطلب ضخ المزيد من الاستثمارات

فضلاً عن أن النجاح المالي لهذه الموانئ يعتمد على استمرار التركيز الحكوميِّ على توسيع الموانئ وبنائها. وتحاول الحكومتان السعودية والإمارتية بجدٍّ جلب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر؛ لذا وضعتا العديد من مشاريع التعصير عالية المستوى، مثل الخطة الإماراتية لتشييد حلقةٍ فوقيةٍ واصلةٍ بين جبل علي وميناء خليفة ومدينة الملك عبد الله الاقتصادية في السعودية.

وحالياً، ثمة تدفقٌ للأموال والنوايا الحسنة، لكن تستغرق هذه المشاريع الضخمة سنواتٍ لإتمامها. وإذا تحوَّلت الأولويات الاقتصادية الحكومية إلى اتجاهٍ آخر، فقد يُترَكُ المستثمرون في هذه المشاريع غير المكتملة عالقين، وهو ما يؤكده القرار المشترك مؤخراً الذي اتخذته دول الخليج بتأجيل مشروع بناء سككٍ حديديةٍ يهدف إلى الربط بينها جميعاً.

ما يجعل هذه الموانئ "معرَّضة للمخاطر"

وميناء الملك عبد الله بالذات معرَّضٌ للخطر، بما أن كثيراً من البنية التحتية المحيطة به واللازمة لنجاحه لم يكتمل بناؤها بعد. إنه ميناءٌ بلا مدينةٍ. وإذا تحوَّل اهتمام السعودية نحو تطوير مشاريع أخرى، مثل المدينة العالمية والمنطقة الاقتصادية "نيوم"، التي هي قيد العمل، فربما لا يحقِّق ميناء الملك عبد الله أبداً الأهداف التي صُمِّم لتحقيقها. وعلى نحوٍ مشابهٍ، مع أن ميناء جدة يملك البنية التحتية اللازمة لتأدية دور نقطة استيرادٍ وتصديرٍ، فتطويره إلى محورٍ عالميٍّ متوقِّفٌ على بناء خط السكة الحديدية للمعبر الأرضي.

وفي الإمارات، قد يتعطَّل النمو الاقتصادي لجبل علي وميناء خليفة؛ بسبب مرسومات التعيين الحكومية وعواقب الطاقة الزائدة. فهدف جبل علي بالوصول إلى 55 مليون وحدة حاوية 20-قدم-إيزو بحلول 2030 هو بالفعل هدفٌ طموحٌ، وإذا بلغت سعة ميناء خليفة 35 مليون وحدةٍ بحلول العام ذاته، فقد تشرع الإمارات في إلغاء الخطط (وفَصلِ العمالة) لأجل استيعاب كل تلك السعة. ويُذكر أن استخدام سعة وحدات الحاوية بالدولة هو بالفعل في حالة هبوطٍ؛ إذ انخفض من 84% في عام 2015 إلى 68% في 2017.

في المقابل، فإن أكثر الموانئ المضمونة للاستثمار قصير الأمد بها هو -على الأرجح- ميناء الملك عبد العزيز في الدمام السعودية؛ لأن لديه غرضاً أساسياً -وهو صادرات البترول- من غير المرجَّح أن يتغير في العقود القادمة. فتكمن الخطورة الواقعة على ميناء الملك عبد الله في احتمال عدم إتمام مشاريع توسيعه، لكن سيظل الميناء مع ذلك ناجحاً من الناحية المالية ومستقراً على المدى القصير.

وفي النهاية، لدى كل هذه الموانئ القدرة على أن تكون مثمرةً للجهات المعنيّة بها: العمال، والمستثمرين الأجانب، والنخبتين السعودية والإماراتية. لكن في هذه المنطقة، تحقيق الأرباح الضخمة لا يضمن بالضرورة أن تتجنَّب المشاريع الخاصة التوجيهات الحكوميةَ الأقل ملاءمةً لممارسة الأعمال، التوجيهات التي محرِّكها الرئيسيُّ هو المبادرات القومية الاجتماعية.

__________________

اقرأ أيضاََ

ليس من أجل التنافس الاقتصادي فقط، بل مناكفة في تركيا وقطر.. الإمارات تحاول السيطرة على موانئ إفريقيا

أشد مناطق العالم تقلباً وأكثرها استراتيجية تشتعل.. صراع خفي بين دول خليجية وقوى عظمى يشهده "مفتاح البحر الأحمر"

تحميل المزيد