يوم السبت 25 أغسطس/آب 2018، على الساعة الرابعة و28 دقيقة بعد الظهر فارق السيناتور الأميركي جون ماكين الحياة عن عمر 81 عاماً، وهو محاط بزوجته سيندي وعائلتهما، بعد معركة قاسية مع سرطان الدماغ، الذي اكتشف الأطباء إصابته به العام الماضي (2017)، كما أعلن مكتبه.
وقبل وفاته طلب جون ماكين ألا يحضر الرئيس دونالد ترمب جنازته فبين الرجلين عداوة مريرة. ترمب وصف الراحل في وقتٍ مبكر من حملته الانتخابية بأنَّه ليس بطل حرب، وأنه يحب الناس الذين لم يتعرضوا للأسر. كان ماكين قد أمضى أكثر من خمس سنوات في سجن في شمالي فيتنام، قضى معظم هذه الفترة إما في انتظار التعذيب، أو في التعافي منه، في حربٍ تجنبها ترمب بسبب عائق صحي. ربما أراد ترمب بقوله هذا الإشارة إلى أنَّ المعاناة غير مفيدة.
وفي يوم الإثنين، زار ترمب فورت دروم في شمالي ولاية نيويورك، للتوقيع على قانون تفعيل الدفاع الوطني بقيمة 700 مليار دولار، الذي سماه الكونغرس على اسم ماكين، الذي كان في منزله بأريزونا مريضاً بشدة من سرطان المخ. لم يذكره ترمب. وبعد ذلك غرَّد مارك سالتر، الذي كان لثلاثة عقود كاتب خطابات ماكين والمؤلف المشارك معه وأحد أقرب مساعديه: "بالنسبة لمن يسألون إذا ما كنتُ قد توقعت أن يكون ترمب وقحاً اليوم، لقد كنتُ متأكداً من ذلك بقدر تأكدي من أنَّ اليوم هو يوم الإثنين".
ردَّ الكثير من الناس على تغريدته، وكتب أحد من ردوا، وهو من المدافعين عن ترمب، مشيراً إلى التصويت الحاسم لماكين لحماية قانون الرعاية الصحية الخريف الماضي: "ثأر ضد الحزب والوطن والشرف". فرد سالتر عليه قائلاً: "أنت مهووس ديني".
بالطبع، فإنَّ سالتر، الذي يسعى إلى تغذية أسطورة ماكين، ينتمي لجماعة دينية من نوعٍ آخر هو أيضاً، وهي جماعة أصغر لكنَّها أيضاً أكثر رومانسية. ذلك أنَّ أعمق مثاليات جون ماكين التي يدخرها للناتو والدفاع عن الغرب، لا يشاركه فيها الكثير من الناس في الحزب الجمهوري الآن، الذي صار يُصنَّف حاليّاً بناءً على أفكار ترمب وتخفيض التكاليف التي تتكبدها الولايات المتحدة في تحالفاتها الخارجية لتركز على قضاياها الداخلية.
رومانسي دائم التمسك بالأمل
انتشرت القصص المليئة بالعاطفة عن ماكين وتكريمه هذا العام، من ذلك وثائقي على HBO، وكتاب سيرة ذاتية نهائية. لكنَّ هذا الاحتفاء كان شخصياً للغاية، إلى درجة أنَّه قد حجب المسائل السياسية التي جعلت الرئيس مستمراً في معاداته، والخسائر التي ستلحق بالمحافظين مع رحيل ماكين.
في إحدى الأمسيات المتأخرة الصيف الحالي، وفي ولاية فيرجينيا، حيث أشجار البلوط القديمة والجميلة، والبيوت ذات الطابق الواحد يقيم سالتر. كان قد أمضى معظم أواخر الربيع في العمل مكان الرجل الذي أتقن أداءه بدقة، فظهر للترويج لآخر كتاب كتبه ماكين، لأنَّ السيناتور كان شديد المرض بحيث لم يستطع القيام بذلك بنفسه.
سالتر في الثالثة والستين من عمره، ذو بنية جسدية قوية وشعر رمادي متموج وكثيف. في موعد الغداء، وفي مطعم صغير في الحي، كان يتابع إلى مباراة دوري واشنطن من خلال سماعة بلوتوث معلقة بأذنه. سالتر رجل ثرثار للغاية ميال للكآبة حتى في الأوقات المشرقة، ولم يكن هذا اليوم مشرقاً. وقال سالتر متحدثاً عن الجولات من أجل الكتاب والسفر من وإلى أريزونا: "لو جلستُ هنا وفكرت في الأمر قليلاً، فسوف أصاب تقريباً بأزمة وجودية. أعني ما الذي سأفعله؟".
الرابطة التي تربط سالتر وماكين أدبية جزئياً. وأضاف سالتر: "الجميع يتحدثون عن مسألة همينغواي، لكنَّه يحب سومرست موم". وعن كيفية ترجمة صوت ماكين على الورق، يحكي أنه عمل لدى جون ماكين لثلاثين عاماً. استمع له كثيراً، إلى درجة أنه أصبح بإمكانه أن يتقمص شخصيته.
وبلغة الثقافة الشعبية فهو مرح ومتحاذق بعض الشيء، لكنَّه يمكن أيضاً أن يكون شاعرياً إلى درجةٍ كبيرة. فهو رومانسي ساخر، يُسمي جون ماكين تضريساً طبوغرافياً صغيراً في مزرعته شلالات الحمار الوحشي، في حين هي كما يصفها سالتر فقط مياه تجري فوق الصخور، لكنَّها مياه تتجاوز طول الخصر، وماكين يتحدث عنها كأنَّها شلالات.
لقد رأى ماكين أسوأ ما يمكن للإنسانية إنتاجه، وهو يتوقعه في أية لحظة. وهذا الأمر منحه حساسيةً ما، وهو السبب الذي من أجله يشعر بهذه القضايا اليائسة في بيلاروسيا أو أي مكانٍ آخر. يعرف كيف يتمسك بالأمل عندما يكون الأمل للحمقى فقط، يضيف مساعده المقرب.
خطَّط ماكين وسالتر لفترة لتسمية كتابهما الأخير "دائماً ما تكون الأمور أكثر ظلاماً قبل أن تصبح سوداء بالكامل"، لكنَّ ماكين غير رأيه، إذ ظن العنوان مبالغاً فيه. ويحكي مساعد السيناتور الراحل أنه نادرا ما يتخلى ماكين عن الأمل.
وحينما يسأل عن "ما هي أسوأ لحظة بالنسبة له فيما يتعلق بصعود ترمب". يرد سالتر: "أسرة خان" في صيف 2016، عندما بدأ ترمب في الهجوم على خيزر وغزالة خان، اللذين قتل ابنهما بينما كان يخدم في العراق، كان سالتر يقود سيارته متوجهاً إلى ماين من نيوهامبشاير، حيث كان يقوم بعملٍ استشاري حول وثائقي حرب فيتنام لكين برنز. واتصل به ماكين. قال سالتر: "كان مذهولاً، قال لي: هل رأيت هذا الوغد؟ عرفتُ حينها أنَّه لن يستمر في هذا الأمر إلى نهايته، إنَّه سوف يقول رسمياً: (لا يمكنني التصويت له)".
فشل في الحد من اندفاع ترامب
ذهب ماكين إلى العراق وأفغانستان عشرات المرات، لكنَّ الحدث الذي علق بذهنه أكثر من غيره بحسب سالتر كان احتفالية للتطوع والتجنيس عقدها ديفيد بيترايوس في العراق، في الرابع من يوليو/تموز عام 2007، للجنود الذين لم يصبحوا مواطنين بعد.
كان ثمة زوجين من الأحذية على كرسيين لشابين كانا على وشك أن يصبحا مواطنين لكنَّهما قتلا هذا الأسبوع. وقد حكا ماكين هذه الحكاية مائة مرة، وكان يبكي كل مرة يحكيها لي. قال بترايوس جملةً في خطابه: "لقد ماتا من أجل بلدهما قبل أن تصبح بلدهما". كان الأمر بمثابة لكمة في المعدة بالنسبة له، كان هذا هو حال ابن أسرة خان.
أمضى ماكين الشهور التي تلت تسلم ترمب منصبه في جولة دولية لطمأنة الحلفاء في الخارج، أخبرهم فيها القصة التي كان بعض الجمهوريين في واشنطن يقولونها لأنفسهم، بأنَّ سلطوية ترمب سوف يحد منها أولئك المحيطين به، وأنَّ هذه مجرد مرحلة سوف تنقضي.
وقال سالتر متحدثاً عن جيمس ماتيس وزير الدفاع: "كان ماكين يعقد الكثير من الآمال على ماتيس". وفي شهر فبراير/شباط 2017، في مؤتمر ميونيخ للأمن، وهو اجتماع سنوي لضباط الجيش الغربيين ومسؤولي الدفاع، انتقد ماكين في كلمته الختامية بوتين وترمب، دون تسميته، وأيضاً السعي لتخفيض التكلفة التي تتكبدها الولايات المتحدة في مصالحها مع الغرب والتركيز على مصالحها. وقال ماكين: "أرفض القبول بأنَّ قيمنا مساوية أخلاقياً لقيم خصومنا. إنَّني فخور ومؤمن بالغرب ولن أعتذر عن ذلك، وأعتقد أنَّه ينبغي لنا دوماً الدفاع عنه".
كان هذا الخطاب فعلاً بمثابة قوله: "هذا الشيء الذي فعلناه معاً هو أعظم شيء قام به حلف للأمم في التاريخ، كونوا فخورين به، إنَّه يستحق الإبقاء عليه، لا تتخلوا عنا". طبعاً فإنَّ هذه الحمائية التي يحتقرها إلى هذا القدر استولت على حزبه السياسي، وكان اختياره لسارة بالين مرشحةً لنائبة الرئيس بمثابة تحول واضح تجاه الترمبية. ولما كان جون ماكين دائماً ما يعد لقتالٍ حضاري، فقد كان يفتقر للمتطرفين في صفوف جيشه.
وجاء السرطان ليضع حداً لآماله
وفي رحلةٍ لأستراليا، في شهر مايو/أيار 2017، أصبح ماكين متعباً ومرهقاً. في البداية افترض الوفد المرافق له أنَّ السبب في ذلك يرجع إلى أنَّ هذا السفر كثير على رجل بعمر الـ81. ثم اتضح أنَّه مصاب بالسرطان.
وفي شهر فبراير/شباط الحالي، بعد العديد من جلسات العلاج، أراد ماكين العودة إلى ميونيخ. رُسِمَت خطط مسهبة ليسافر بمواصلاتٍ عسكرية، لكنَّ أطباءه رفضوا، إذ كان خطر الإصابة بالعدوى عالياً للغاية. وقال سالتر: "أنت محشور في هذا الفندق، يشبه الأمر أن تكون في نفق مترو مع الناس". وتوجَّب على سالتر وريك ديفيد، أحد المساعدين القدماء الآخرين لماكين، إعلامه بذلك: "قلنا له: لو أصبتَ بالإنفلونزا فلن تنجو منها يا جون".
لعقودٍ عاش ماكين ما بدا أنَّه حياة مزدوجة، حياة من الوجود اليومي في لجان مجلس الشيوخ وبين الولاءات والمشاحنات الحزبية، والأخرى مجموعة من اللفتات الكبرى التي تزداد حدة، التي جعلت منه من بين أشهر الشخصيات الأدبية في الحياة العامة الأميركية.
وبحلول نهاية التسعينيات، حدَّد الصحافيون ملامح شخصيته: بطل الحرب الذي تملَّكه الندم. وكتب مايكل لويس عام 1997: "إحدى السمات الأكثر إثارة للجنون التي يجدها العاملون لدى جون ماكين في رئيسهم هي ميله ليحكي للصحافيين عن أسوأ لحظاته فحسب. اسأله عن فيتنام وسوف يحكي لك عن الوقت الذي سرق فيه خرقة تنظيف من الشخص المقيم في الزنزانة المجاورة. اسأله عن زواجه الأول، وسوف يقفز مباشرةً ليحكي عن خيانته لزوجته.
لكن أدق تصوير لشخصية ماكين جاء في كتاب "Faith of My Fathers"، وهو كتاب الحملة الذي نشره ماكين وسالتر عام 1999، ويتضمن حكايةً مفصلة عن تعذيبه ("في الليلة الثالثة، كنتُ مستلقياً وسط دمي وفضلاتي…"). وحكى ماكين أيضاً عن محاولتي انتحار واعتراف كاذب بارتكاب جرائم حرب وقَّع عليه وقرأه مصوراً. إذ كتب ماكين: "لم أستطع تبرير اعترافاتي، كنتُ أشعر بالخجل، كنتُ أشعر بأنَّني غير مخلص، ولم أستطع التحكم في قنوطي.
ويضيف أنه في إحدى الليالي سمع أو رأى في الحلم أنه يعترف في مكبر صوت، شاكراً الفيتناميين الشماليين على العلاج الطبي الذي لم يستحق. يمكن للمحافظين الاحتفال بتطرف وطنية ماكين، ويمكن لليبراليين قول إنَّ الحرب تكسر الرجال. كانت قصة ماكين إحدى الطرق الصغيرة التي تصالح بها الأميركيون مع عبثية وفشل فيتنام، وكان هذا هو التصالح الذي هاجمه ترمب عندما قال إنَّ أبطال الحرب الخاصين به هم أولئك الرجال الذين لم يتعرضوا للأسر. يتخيل ترمب حرباً بلا معاناة، وهو ما لا يترك مجالاً لماكين.
لكنه يبقى أكثر السياسيين رومانسية
أمدت تجربة السجن ماكين بأعمق الولاءات الشخصية. سالتر يؤكد أنَّ الشخص الوحيد الذي يصمت ماكين في وجوده ويتركه يتكلم هو المنشق الروسي اليهودي ناتان شارانسكي، وتذكر دعمه لمنشقي بيلاروسيا الذي استمر عقداً كاملاً من الزمان.
كانت الدكتاتورية هناك شديدة الوطأة، وسيطرتها على البلاد محكمة إلى درجة أنَّ ماكين لم يستطع قط الدخول، لذا فقد التقى بالمنشقين البيلاروس في ريجا أو أية مدينة أخرى من مدن البلطيق، عاماً بعد عام. وقال سالتر: "كان يلتقي بالأشخاص الحزانى المقموعين كل عام. لكنَّهم كل عام يقولون: هذا هو عامنا، هذا هو العام الذي سوف ننجح فيه! ويستمر ماكين، وهذا أمر يصعب التمسك به، لكنَّني أعتقد أنَّه يحترم ذلك أكثر من أي شيء آخر".
وأقرب شيء لمفهوم الوريث بالنسبة لماكين هو السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، من ساوث كارولينا، وهو محامٍ عسكري سابق يشارك ماكين الإيمان بالقوة الأميركية، لكنَّه أيضاً شخصية حزبية أكثر إثارة للجدل، وقد انحاز لترمب في بعض الأوقات (بما في ذلك، مؤخراً حول قرار إلغاء التصريح الأمني لمدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق جون برينان).
سافر كلا الرجلين معاً مراراً. وحينما يسأل سالتر عن مدى إيمان غراهام بقناعات ماكين، يجزم أن ليندسي يؤمن بها حقاً. لكنَّه دائماً ما يمزح حول الأمر قائلاً: "ينبغي لنا الخروج من هنا، إنَّهم سوف يقتلوننا".
وعند محاولة تحديد الفارق بين ماكين وغراهام بشكلٍ واضح، فإن الجواب الوحيد يبقى هو أن السيناتور جون ماكين "أكثر رومانسية" من الجميع.