يتمثَّل السؤال وثيق الصلة الذي لم يُجَب عنه بعد بشأن تركيا وهو ما إذا كان الاضطراب الاقتصادي الموجود في البلاد الآن حدثاً معزولاً ومُقتصراً في الغالب على تركيا نفسها، أم أنه يُنذِر باضطراباتٍ اقتصادية أكبر تهز الأسواق حول العالم؟
وبحسب صحيفة The Washington Post الأميركية فإنه لا يوجد توافق بين الاقتصاديين والخبراء الآخرين على إجابة هذا السؤال، فالبعض يتوقع انتقالاً للعدوى وانتشار مشكلات تركيا. في حين يتصور البعض الآخر حدوث اضطرابٍ عابر داخل تركيا وحدها.
أيهما الإجابة؟
من الواضح أن الإجابة مهمة، تقول الصحيفة الأميركية، إذ يواجه الاقتصاد العالمي بالفعل عقباتٍ في طريق نموه، فأسعار الفائدة الأميركية في ازدياد في ظل محاولة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منع ارتفاع التضخم. والحروب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي ترمب تشكل تهديدات. وإذا ما أضفنا الآن تباطؤ اقتصاديات "الأسواق الناشئة" (الصين، والبرازيل، والدول الشبيهة "متوسطة الدخل")، فإنَّ النمو العالمي قد يضعف أو يتوقف.
وتجربة تركيا وثيقة الصلة بهذا. إذ تراجعت عملتها (الليرة) بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة. فكانت تُتداول في بداية عام 2018 بسعر 4 ليرات مقابل الدولار تقريباً، لكنها تُتداول الآن عند مستوى 6 ليرات مقابل الدولار تقريباً.
يجعل هذا مهمة الشركات والمستهلكين الأتراك أصعب في سداد الديون، التي غالباً ما تكون مقومة بالدولار أكثر مما هو الحال في الكثير من البلدان الأخرى. فسداد تلك الديون يفرض على الشركات التركية كسب المزيد من الليرات، التي يمكن بيعها لتحويلها إلى دولارات. وكلما زادت الليرات المُخصصة لسداد الديون، قلَّت الليرات المتبقية لشراء الأشياء الأخرى. فيتباطأ النمو الاقتصادي. وإن لم يتمكَّن المدينون من جمع الدولارات اللازمة لسداد قروضهم، يتعثَّرون. وبعد حدوث الكثير جداً من حالات التعثُّر، يتوقف النمو.
مشكلات الديون التركية مُقلِقة
ويلفت الاقتصادي هانغ تران من معهد التمويل الدولي، وهي مجموعة بحثية وداعمة لصناعة التمويل الدولي، إلى أنَّ مشكلات الديون التركية مُقلِقة على نحوٍ لا يمكن إنكاره.
فمن الآن وحتى نهاية عام 2018، ستواجه تركيا مدفوعات ديون -أصول ديون وفوائد- بنحو 120 مليار دولار، ويصل الإجمالي في 2019 إلى نحو 200 مليار دولار. وبالمقارنة، فإنَّ الاقتصاد التركي (الناتج المحلي الإجمالي) يبلغ تقريباً 850 مليار دولار. ومن الممكن أن تُرحَّل آجال سداد بعض تلك القروض، ولو أنَّ عدد تلك القروض ليس واضحاً.
تتحمَّل البنوك والشركات الخاصة جزءاً كبيراً من الديون، وشجَّعها في ذلك سياسات المال السهل. كانت الحكومة التركية قد ضخَّت أموالاً في الاقتصاد عقب انقلابٍ فاشل عام 2016 وقبيل الانتخابات الأخيرة.
ونما الاقتصاد التركي العام الماضي 2017 بنسبة 7.4%، مقارنةً بنسبة 3.2% في 2016.
وهناك نزاعٌ الآن بين تركيا وإدارة ترمب بسبب احتجاز تركيا لقسٍّ أميركي متهم بممارسة أنشطة معادية للدولة يُدعى أندرو برونسون، وهو ما يُعقِّد الأمور أكثر.
ليس كل الاقتصاديين متفائلين
الآن يحين الحساب. يعتقد كثيرٌ من المراقبين أنَّ ما حدث في تركيا سيبقى داخل تركيا فقط. فاقتصادها (الذي يبلغ 1.4% من الناتج الإجمالي العالمي وفقاً لبعض التقديرات) ببساطة أصغر من أن يؤثر على بقية العالم. ويقول الاقتصادي سي فريد بيرغستن من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: "إنَّها بالأساس مشكلة تركية".
ولا يتوقع بيرغستن آثار امتداد كبيرة، مثل حدوث تباطؤ للنمو في أوروبا أو هروب رؤوس الأموال من بلدان "الأسواق الناشئة" الأخرى مثل البرازيل أو الهند.
لكن ليس كل الاقتصاديين بمثل هذا التفاؤل. إذ كتب ديزموند لاشمان من معهد إنتربرايز الأميركية مقالاً في صحيفة The Hill الأميركية يتوقع فيه أنَّ "تركيا ستتعثر في سداد دينها وتفرض ضوابط على الصرف الأجنبي". (ضوابط الصرف هي قيود قانونية على حركة المال داخل وخارج بلدٍ ما). ويتوقع حدوث انتقالٍ للعدوى -هروب رأس المال من الدول المُثقلة بالديون- من شأنه إضعاف التعافي العالمي والإضرار بالاقتصاد الأميركي.
ويعتقد الاقتصادي تران من معهد التمويل الدولي أنَّ بلدان الأسواق الناشئة التي لديها مشكلات شبيهة بمشكلات تركيا -سوء السياسات، والديون مستحقة السداد، والعجز الكبير في الحساب الجاري- هي الأكثر عُرضة لهروب رأس المال. وتتضمن هذه البلدان جنوب إفريقيا وإندونيسيا ومصر. لكنَّ الشواهد مطمئنة حتى الآن؛ فآخر دراسة أعدَّها معهد التمويل الدولي لحركة رؤوس الأموال لم ترصد أي تحركاتٍ مفاجئة كبيرة للأموال منذ التراجع الكبير الأخير لليرة.
وقد يثير أثر "سيكولوجية الحشود" حالة ذعر. ففي حال توقَّع المستثمرون قيام المستثمرين الآخرين بالبيع، قد تظهر حالة من التدافع الجماعي للهروب.
لم تنتهِ المسألة بعد
فالأمر الذي لا خلاف عليه، على الأقل بين العديد من الاقتصاديين هو أنَّ تركيا سيتعين عليها اللجوء لصندوق النقد الدولي لإنهاء الأزمة الحالية.
ويقول جاكوب فونك كيركيغارد من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي إنَّ الصندوق قد يُقدِّم قرضاً ضخماً (من المشكوك أن تُقدِّمه أي جهة أخرى) ويفرض "سياسات تقشف صارمة" تهدف لتحسين أداء الاقتصاد.
وهذه السياسات، بحكم طبيعتها، لن تحظى بشعبية، خصوصاً لدى أردوغان؛ لأنَّها "قد تُضعِف قبضته على السلطة"، على حد وصف كيركيغارد.
ويبدو مُرجَّحاً أنَّه سيستاء منها ويقاومها ما دام يمكنه ذلك. وهذا قد يُغيِّر كل شيء. ابقوا مُترقِّبين.
اقرأ أيضاً
مع استمرار أزمتها مع واشنطن.. تركيا تقترب من أوروبا وتلغي منع سفر صحافية ألمانية تُجرى محاكمتها