رصدت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأميركية، في تقرير لها، مقارنة ذات مغزى، بين شواطئ الساحل الشمالي ومنتجع مارينا التي يرتادها أبناء الطبقة الغنية في مصر، ومدى اهتمام الحكومة بها، والشواطئ التي يرتادها الفقراء وإهمال السلطات إياها.
وتقول Los Angeles Times، إن الكوكتيلات الكحولية في الحانات الموجودة على أحد الشواطئ يصل سعر الواحد منها إلى 14 دولاراً على سبيل المثال.
وتقدّم حانة Kiki's Beach Bar، المطلّة على الشاطئ، مشروبات مثلّجة منعشة من صنع شركة Cool Breeze الأميركية، وكوكتيلات كحولية فاخرة، لكنّه مكان لن تستطيع دخوله إلّا لو كنت مشهوراً، أو فضلاً عن ذلك، إن كنت على معرفة بأحد العاملين في مدخل الحانة، حسبما قال تقرير الصحيفة الأميركية.
وتشير الصحيفة إلى أن هذه الحصرية هي ما يجذب، بالطبع، شباب الطبقة العليا القاهرية (أو كما تلقّب Beau monde؛ أي حرفياً: الناس حسنة المظهر.
أبناء الطبقة العليا يهربون من العاصمة باتجاه حانات الساحل الشمالي
وتقول الصحيفة إن أبناء الطبقة العليا يشدّون الرحال بعد ظهر كل يوم خميس في هذا الوقت من العام، قاصدين صفاء مياه "الساحل" وبرودتها، تاركين وراءهم عربات "الكارو" التي تجرّها الحمير ومقاهي الشيشة في العاصمة.
وقرابة منتصف الليل، تبدأ حانة Kiki وغيرها من المؤسّسات التجارية التي تقدّم المشروبات الكحولية -مثل ملهى The Lemon Tree ومطعم Sachi by the Sea- بالازدحام برجال يرتدون قمصاناً من الكتّان ونساء ترتدين بلوزات برّاقة بحمّالات عنق ورموش اصطناعية.
ورغم تأثيرات الانقلاب على الواقع الاقتصادي سلباً، فإنك لن تشعر بذلك في الساحل الشمالي
وشهد الساحل الشمالي، ذلك الذي يشار به إلى الشاطئ المصري المطل على البحر المتوسّط والممتدّ من الإسكندرية وحتى الحدود الليبية، انتشاراً لحانات "كريمة المجتمع" مع التطوير العقاري السريع لمنتجعات أجدد من ذي قبل وأكثر رفاهيةً، حتى فيما يعاني المواطنون المصريون العاديون للتأقلم مع ارتفاع تكلفة الماء، والغاز، والكهرباء في منازهم.
ولكن الصحيفة ترصد ملمحاً غاية في الأهمية، وهو حالة العزلة التي يعيشها سكان الساحل الشمالي ورواده بعيداً عن الأوضاع الاقتصادية الحقيقية في البلاد.
فتقول الصحيفة: "إذا كانت الصدمات الاقتصادية التي تعرّضت لها البلاد مثل (الربيع العربي)، أو الانقلاب العسكري لعام 2013، قد دفعت نحو ثلث تعداد سكان البلد، البالغ عددهم 95 مليوناً، إلى تحت خط الفقر- فإنّك لن تشعر بهذا في الساحل، حيث النوادي الليلية تحفل بخريجين جدد من جامعات غربية ينعمون بطرازها المصمّم على غرار منتجعات جزيرة إبيثا ومدينة ميامي الأميركية".
وعلى امتداد كلا جانبي الطريق السريع بين القاهرة والساحل الشمالي، تصوّر لوحات إعلانية عملاقة لمجمّعات عقارية راقية جديدة مثل Fouka Bay وLa Vista شاليهات ناصعة مشيّدة على رمال بيضاء خالية تطلّ على البحر الفيروزي المميّز لهذا الساحل النخبوي، الممتد إلى مسافة 300 ميل (483 كيلومتراً) من الضفّة الجنوبية للبحر المتوسط.
لكنّ الحقيقة أنّه لم يبقَ كثير من هذا الشاطئ دون أن تطوله يد
وتنقل الصحيفة عن ديفيد سيمز، عالم الاقتصاد والمخطّط العمراني المقيم بالقاهرة، الذي يصف الساحل الشمال بالقول إنه "أكثر أسواق العقارات رواجاً في مصر الآن"، بفعل الوتيرة السريعة التي تجري بها عمليات البناء المكثّفة، تلك التي لم تترك بالكاد أيّة شواطئ عامة أو مساحات مفتوحة: "لا أظن أنّ هناك متّسعاً واحداً من الساحل الشمالي لم يمس".
وأسعار تذاكر الحفلات في الساحل الشمالي تتعدى 50 دولاراً أميركياً
وترصد الصحيفة أسعار تذاكر دخول الحفلات التي يتم تنظيمها في الساحل الشمالي، وتقول إنه في ظهيرة أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع في يوم صيفي، داخل مارينا، أقدم وأكبر منتجعات الساحل، وإن كان لم يعد أرقاها، توزّع شابات -ترتدين سراويل قصيرة- منشورات حفل على السيّارات المارّة.
وبالطبع، وفقاً لـ"لوس أنجلوس تايمز"، فإنّ حدثاً كهذا متاح فقط لمن يستطيع تحمّل تكلفة الدخول. يقول محمد راشد، الكاتب المقيم بالقاهرة ويعمل لدى موقع Scoop Empire المصري، وهو موقع معني بـ"الوجهات المدينية" كالتي نتحدّث عنها هنا، إنّ دخول الحفلة وحده يكلّف 30 دولاراً، وقد يصل إلى 50 دولاراً في النوادي "اللائقة".
هذا أكثر ممّا يجنيه المصري المتوسّط في أسبوع كامل. تتطلّب بعض النوادي وجود حجز مسبق، أو يتفقّدون وجود راع لراغب الدخول عبر حسابه على موقع فيسبوك، أو غيرها من الأساليب الداروينية (كنوع من الانتخاب الاجتماعي الطبيعي).
وقال راشد: "في مصر، لديك نوعان من الأغنياء؛ هناك أغنياء ممّن يملكون مالاً فحسب، مثل خرّيجي الجامعات الخاصة المرموقة، وفي المقابل هناك ذوو الثراء الفاحش".
ويوم الجمعة، قبل المغيب بساعات، يبدأ أفراد من الفئة الثانية بالتوافد إلى حانة Rituals، وهو موقع مصمّم على طراز استشراقي روحاني، حيث يمكنك تناول السوشي وأنت متكئ على سرير مكسوّ بقماش وبري أبيض فخم تحت مظلّة من نسيج خيوط القنب وأنت على بعد أمتار فحسب من الأمواج.
ولعقود عدة، جرت العادة بأنّ من يقْدر على تكلفة السفر يعمد صيفاً إلى الهرب من حرّ القاهرة وزحامها إلى شواطئ المتوسط. وخلال فترة الحكم الملكي في مصر، كانت الحكومة بأكملها تنقل مقرّها إلى الإسكندرية خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب.
وهذه قصة منتجع مارينا الأكبر في الساحل الشمالي وكيف أصبح ملاذاً للساسة وللوزراء
وتسرد "لوس أنجلوس تايمز" تاريخ منتجع مارينا فتقول إنه حتى عام 1992 لم تكن مارينا -المنتجع الضخم الأصليّ في الساحل الشمالي- موجودة، وهي الآن على ساحل بامتداد 7 أميال (11 كيلومتراً) من أراض مملوكة للدولة كانت يوماً ميناءً تجارياً في العصر اليوناني الروماني القديم.
وبين مساكنها، البالغ عددها الآلاف، يتضمّن المنتجع ملعباً للغولف، وبحيرات اصطناعية، وحتى "صف مساكن للوزراء" على جزيرة خاصّة، حيث يقضي رجال الدولة الكبار من عصر حسني مبارك صيفهم حتى اليوم.
لكنّ معظم طاقم الفراعنة حكّام البلاد قد هجر مارينا منذ زمن -إذ تعتبر الآن مكاناً للطبقة المتوسطة- إلى وجهات أجدد ومرموقة أكثر نحو الغرب.
يقول سيمز إنّه مع افتتاح الاقتصاد المصري في أواخر سبعينيات القرن الماضي، دبّرت القاهرة خطةً طموحة للاستفادة من إمكانات المنطقة.
كان مقرّراً أن يصبح ساحل المتوسّط مغناطيساً للسيّاح الدوليين، بوجود مناطق للصناعة والتجارة في الداخل الساحلي الأبعد تخلق وظائف للطبقة العاملة المصرية.
لكنّ المطوّرين العقاريين والمسؤولين المصريين على حدّ سواء، سرعان ما اكتشفوا أنّ هناك ربحاً أسرع وأسهل ينتظرهم في بناء منازل صيفية للأثرياء.
ندبت مجلة محلية مختصّة بالأعمال في عام 1998 تبدّد الساحل، الذي كان بإمكانه منافسة "شاطئ الريفيرا الفرنسي، وساحل كوستا ديل سول الإسباني، ومدينة أنطاليا الساحلية التركية".
وحتى اليوم، لا توجد بالكاد أيّة وظائف دائمة في الساحل الشمالي ولا سياحة أجنبية تقريباً، وهذا رغم دعاية المسؤولين الحكوميين والنشرات الإعلانية العقارية التي تصف امتلاك الساحل "منتجات دولية على مستوى عالمي"، حيث تسمّى المجمّعات السكنية بأسماء مثل فيرونا وفالنسيا، وتتأنّق بمعمار ذي طابع إيطالي وإسباني.
وتنقل الصحيفة الأميركية عن منال حسن، وقد كانت نائبة وزير المالية سابقاً وتعمل الآن رئيسةً لمجلس إدارة شركة أوراسكوم للفنادق والتنمية، وهي إحدى أضخم الشركات في مصر، تعليقها على منتجع مارينا ورواده من الطبقة العليا في مصر: "إنّها كالموضة".
ورغم كل هذه الإمكانات لا يعمل الساحل الشمالي سوى في شهور الصيف فقط
وقريباً، قد تتخلّى منال عن قصر عائلتها ذي الغرف الـ5، بحمّام سباحة خاص، وجاكوزي، وسكن للخدم، الذي امتلكته 15 عاماً، رغم عيشها فيه ذكريات صيفية سعيدة كثيرة.
فسرت منال قرارها ذاك بأنّ حضور حفلات الزفاف ودعوات الغداء المقامة بالساحل اعتيادياً بين وسطها الاجتماعي هذه الأيام، تتطلّب قطعها مسافة 40 دقيقة بالسيارة غرباً نحو عقارات، في مشهد أصفى.
ومع ذلك، بحلول شهر سبتمبر/أيلول 2018، ستوصد صالونات التجميل، والحانات، وحتّى متاجر البقالة أبوابها فيما يقترب موسم الصيف من نهايته. وسيعود أغلب عمّال الحانات ومربّيات الأطفال إلى القاهرة مع أربابهم، تاركين الساحل الشمالي مهجوراً في مجمله.
لم يكن هذا ما تخيّلت الحكومة حدوثه، هذا ما يشرحه سيمز في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان Egypt's Desert Dreams: Development or Disaster? أي "أحلام صحراء مصر: التنمية أم الكارثة؟".
لكن حتى وإن نجح السياح في الوصول إلى الساحل الشمالي -إذ إنّ المطارات القليلة القريبة من المنطقة لا تصل إليها بالكاد أية رحلات من أوروبا- فإنّهم سيواجهون صعوبةً في إيجاد مكان ينزلون به.
هناك حفنة لا أكثر من الفنادق الراقية في الساحل. وعلى سبيل المثال، فإنّ فندق العلمين، حيث يبلغ سعر الغرفة العادة 300 دولار في الليلة الواحدة، محجوز بالكامل طوال شهر أغسطس/آب لزبائن مصريين معتادين.
وعلى الرغم من هذه العيوب، فقد ضاعف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من جهود استراتيجية التنمية التي ولد منها الساحل الشمالي.
وبالإضافة إلى تقديم 12 موقعاً جديداً للمطوّرين العقاريين، من شأنها أن تكون "شاطئ ريفيرا مصر الجديدة"، بحسب وصف رئيس الهيئة العامة للتنمية السياحية، فإنّ الدولة كذلك تعمل على بناء مدينة العلمين الجديدة.
وتعد المدينة المخطّطة في الساحل الشمالي -وهي واحدة بين عدة مدن مخطّط لبنائها على أراض غير مأهولة، ومن بينها عاصمة جديدة مثيرة للجدل ستبنى في منتصف الطريق بين القاهرة وقناة السويس- بتقديم مساكن أكثر "ساحلية وفخامةً" من ذي قبل، بجانب بناء جامعات، ومستشفيات، ومكتبات، ومساجد.
ومع ذلك، يتوقّع سيمز أنّ بيوت العطلة المربحة والموجّهة للسوق المحلية المصرية ستستمر في "إجباط كل الجهود المبذولة لإضفاء التنوّع على الساحل الشمالي".
ومن جهة أخرى، تخطّط مصر كذلك لبناء محطّة للطاقة النووية في الضبعة، على بعد عدة كيلومترات لا أكثر من منتجعات الساحل.
لم يلق مخطّط الضبعة سوى معارضة طفيفة، بجانب بعض الاحتجاجات الأولية عندما أعلن عن إنشائه عام 2015.
في المقابل هناك إهمال للشواطئ التي يرتادها الفقراء
وفي المقابل، حدث جدل آخر هزّ الساحل وجيزاً في الصيف الماضي، بعد أن خرجت للعامّة صور من ملهى 6ix Degrees، وهو ناد ليلي رائج، تظهر فيها راقصات على المسرح وهنّ يرتدين أطواق كلاب والقليل جداً من الثياب كجزء من عرض ذي طابع جنسي ساديّ (BDSM).
ونقلت "لوس أنجلوس تايمز" عن طبيب أسنان مصري حانق، كتب في منشور على موقع فيسبوك الاجتماعي: "لم تلتقط هذه الصورة في فرنسا أو بالولايات المتّحدة؛ بل في الساحل الشمالي بمصر!". وبعد أن انتشرت الصور ذات المحتوى الأقرب للجنسي بشكل واسع، أغلق النادي بأمر من الشرطة، التي قالت إنّها ستقفل أبوابه للأبد.
وعندما فتح الملهى أبوابه من جديد في عطلة الأسبوع التالية، بدا كأنّ الجميع قد فقد اهتمامه بالموضوع.
نشر الشهر الماضي (يوليو/تموز 2018) خبر لم يلق الصدى ذاته الذي شهدته فضيحة ملهى الساحل.
كان الخبر من أحد الشواطئ العامة الرخيصة نسبياً والقليلة الباقية قرب الإسكندرية، حيث وقعت سلسلة من حوادث الغرق، في حين استمر العامة غي السباحة فيه، مخالفين تحذيرات رسمية بشأن أوضاعه الخطرة.
وأخبر محمد النوبي، وهو من سكّان المنطقة، أحد المراسلين: "إنّ الشاطئ هو الملاذ الوحيد الذي يمكنهم تحمّل تكلفته".