«مدنية» السبسي تثير التونسيين.. فهل تتخلّى النهضة عن هويتها وتنجرّ إلى مربع الرئيس؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/15 الساعة 17:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/15 الساعة 18:07 بتوقيت غرينتش
FILE PHOTO: Tunisian President Beji Caid Essebsi delivers a speech in Tunis, Tunisia May 10, 2017. REUTERS/Zoubeir Souissi/File Photo

الثالث عشر من أغسطس/آب، من جديد، بذات الحضور الغالب عليه الطابع النسوي، وضمن البروتوكولات الدولية التونسية منذ تأسيس جمهوريتها الأولى عقب الاستقلال، يخرج رئيس البلاد ليلقي خطاباً تكريمياً وتشريفياً للمرأة التونسية في عيدها الوطني، الذي يتزامن مع إصدار مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956، عندما قرَّر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة إقرار حريات وحقوق أكبر للمرأة التونسية.

السبسي لم يعد معجبًا بإصلاحات بورقيبة

ولكن يبدو أن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، لم يعد مقتنعاً بهذه المجلة، التي لطالما افتخرت بها العائلة الدستورية في تونس لسنوات، ففي ذكرى العام الماضي لهذه المجلة قرَّر بعث لجنة من أجل ما سمَّاها إصلاحات جديدة للمرأة، وسميت بعد ذلك بلجنة الحقوق والحريات الفردية، التي ترأسها المناضلة النسوية والحقوقية السيدة بشرى بالحاج حميدة.

في غضون هذه السنة، أنهت اللجنة التي باتت تعرف عند طيف كبير باسم "لجنة بشرى" على اسم رئيستها، تقريرها المكون من 365 صفحة، شاملة لملفات الحقوق الفردية والحريات، والمساواة التامة بين المرأة والرجل، مستندة بذلك لدستور 2014، الذي ينص على المساواة التامة وضمان حرية الضمير والمعتقد حسب تأويلها، ليبدأ مسلسل الصراع حول هذا التقرير بين مؤيديه ومعارضيه، وكان أولهم أحد أعضاء اللجنة، السيد صلاح الدين الجورشي، القيادي الإسلامي السابق، الذي اعتبر أن تركيبة اللجنة ليست متكافئة، وهناك تسييس لملف الحريات في تونس.

المساواة في الإرث ليست المسألة الشائكة الوحيدة

أهم البنود التي ركز عليها الرأي العام التونسي في هذا التقرير، مسألة المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وموضوع عدم تجريم المثلية الجنسية، وضمان حقوق المثليين، وهو الأمر الذي جعل التيار الديني يستنفر ضد ما اعتبره تعدياً على شرع الله وهوية الشعب التونسي، فكانت مسيرة الحادي عشر من أغسطس/آب الحالي، نتيجة لذلك، حيث اجتمع آلاف الناس وفي مقدمتهم أئمة البلاد وعلماؤها في ساحة باردو قبالة البرلمان، لرفض هذا التقرير، والمطالبة بإلغائه جملة، حتى دون التعديل فيه، كما طالبوا بالنظر لمشكلات البلاد الحقيقية الاجتماعية والاقتصادية.

ليأتي الرد على هذه المسيرة بأخرى مقابلة لها بعد يومين، يوم الثالث عشر من أغسطس/آب، للمطالبة بتمرير هذا التقرير والمضي فيه، لتكريس مبدأ المساواة وضمان حقوق الأفراد في ممارسة طقوسهم وشعائرهم كما يريدون، مؤكدة على مدنية الدولة التي نص عليها الدستور.

هذه الكلمة التي أثارت الجدل حول خطاب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في نفس اليوم، عندما اعتبر أن تونس دولة مدنية، ليست قائمة على الشرع الإسلامي ولا تعاليم القرآن، مؤكداً على ضرورة تمرير هذه الإصلاحات كوفاء للحبيب بورقيبة، ولكنه في نفس الوقت تراجع عن فرض المساواة في الميراث، معتبراً أن طريقة التوريث مسألة فردية لا يفرضها القانون.

 

ردود أفعال عنيفة ضد السبسي

ردود فعل كبيرة أعقبت كلمة الرئيس السبسي، التي اعتبرها خبراء ومتابعون تراجعاً عن بعض بنود التقرير، حيث اعتبر الأكاديمي التونسي والباحث الاجتماعي والمختص في الأنتروبولوجيا الثقافية "الأمين البوعزيزي"، أن الباجي قدَّم خطابين فيما يتعلق بالميراث، واحداً للمستقوين به، وآخر لمعارضيه، وهو ما تسبب في صدمة في صفوف المستقوين به وبأجهزة الدولة، مذكراً إياه بأن حق المورّث في العدل بين وارثيه عملياً ممارس في تونس لدى الكثيرين، كما ذكره  بأنه في الإسلام تكون الأولوية للوصية في توزيع الميراث، وليس إلى أحكام المواريث، ليس ثمة عائق عقدي يستفز مطلب الحق في المساواة.

ملاحظات سريعة حول خطاب السبسي منذ دقائق:* تأكيدٌ على كون الدستور هو الوثيقة المرجعية التي يلتقي حولها التونسيون جميعا…

Geplaatst door ‎الأمين البوعزيزي‎ op Maandag 13 augustus 2018

في حين اعتبر القيادي في حركة النهضة عبداللطيف المكي، أن تخيير المورث وعدم ضبطه سيقسم أكثر المجتمع التونسي، معتبراً أن جبهة سياسية هي مَن اختلقت هذا الموضوع للخروج من المأزق، كما أكد نور الدين البحيري، رئيس الكتلة البرلمانية لحركة النهضة أن المساواة في الميراث لن توافق عليها كتلته في البرلمان، وسيعمل على إسقاطه؛ لأنه تعد على الشريعة الإسلامية.

كل ما فيه مساس ب #الدستور وقيم #الاسلام وثواب الشعب لن يمر

Geplaatst door ‎Noureddine BHIRI نور الدين البحيري‎ op Maandag 13 augustus 2018

مختلفون مع السبسي من خلفيات مختلفة

وبعيداً عن حركة النهضة، المستهدف الأول من هذا التقرير، الذي يضعها في امتحان جديد داخلياً وخارجياً، فإن معارضة الباجي قائد السبسي جاءت حتى ممن ينتمون لعائلته السياسية، حيث عارضت السيدة عبير موسى، الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد هذا التقرير، معتبرة إياه حياداً عن منهج البورقيبية، مذكرة الباجي بأن بورقيبة قام بإصلاحات دون المس بهوية الناس، ولم يعتبر تونس في يوم من الأيام دولة علمانية.

وفي الضفة الأخرى، تباينت آراء المساندين لتقرير الحريات والحقوق الفردية حول خطاب الرئيس، بين من اعتبره تراجعاً وعدم وضوح وهروباً من المعركة الأصلية، بالتخفي وراء مبادرات غير مفهومة، وبين من أكد على صلابة موقف السبسي وجرأة خطابه. كما اعتبرت السيدة بشرى بالحاج حميدة، رئيسة اللجنة، أن موقف الرئيس كان قوياً في كلمته التي ألقاها في عيد المرأة.

في السياق ذاته لا يزال يعتقد المساندون لهذه القضية في تونس، إمكانية تمرير التقرير عبر البرلمان، رافضين فكرة الاستفتاء الشعبي التي اعتبرها تعدياً على حقوق الأقليات، حيث اعتبر الكاتب والروائي التونسي هادي يحمد، أن الطريق ما زال طويلاً من أجل التحرر، محتفياً بإنجاز اللجنة والمسيرة المساندة لها.

الخلاف يعيد فتح النقاش حول الديني والسياسي في تونس

وبعيداً عن الاختلاف القائم، تظل مسألة الحقوق والحريات الفردية أهم المسائل العالقة في العالم العربي عموماً، وتونس خصوصاً، وذلك نظراً لبنيوية المجالات القانونية المتداخلة مع الدين والعرف والعادات، كما أن تعريف مدنية الدولة عربياً لم يتضح حتى الآن، بسبب الموروث الثقافي، والهوية الدينية الملتصقة بالشعوب، وهو ما يجعل من مفهوم الدولة المدنية التي فصلت الدين عن مؤسسات الدولة في الغرب، معدلاً نسبياً في العالم العربي، وربما صدى كلمة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أكبر دليل على ذلك، عندما اعتبر المدنية هي عدم الاستناد إلى الشرع، في حين أن الفصل الأول من الدستور التونسي ينص على أن تونس "الإسلام دينها"، وهو ما يشكل نوعاً من عدم الوضوح التشريعي والتأسيسي لمنظومة القوانين، وهو الأمر الذي يعتبره كثيرون سبب الأزمة في تونس، من الضبابية وعدم وضوح مقصد المشرع في البلاد.

نهاية "النداء" كما نعرفه.. كيف يبدو مستقبل الحزب الحاكم في تونس؟

ولكن في خضم هذه المعركة، نجح الباجي قائد السبسي نسبياً في أمرين، أولهما جر الشعب التونسي للمربع الذي رسمه، وإبعاده عن مشكلات البلاد الحقيقية في فترة حكمه، التي تعتبر أسوأ من الفترات السابقة على جميع المؤشرات، وخلق حالة جديدة من الاحتقان الأيديولوجي، مشابهة لتلك الحالة قبل انتخابات 2014، في محاولة منه لإعادة فلسفة التصويت الإيجابي لمعسكره الذي خسر الكثير منذ ذلك الوقت، والانتخابات البلدية أكبر دليل على ذلك.

أما الأمر الثاني فقد نجح مرة أخرى في عملية التسويق الخارجية، بأن حركة النهضة لم تتخل عن أرضيتها الإسلامية، ولم تدخل المدنية، وهو الأمر الذي لَطالما يحرج النهضة أمام المجتمع الدولي، ولعل هذه الأسباب هي التي هيّأت المناخ المناسب للجنة الحقوق والحريات الفردية. تبدو النهضة أمام مفترق، إما أن تحتفط بمواقفها الصلبة، وإما أن تنجرّ لمربع السبسي لتأكيد تمدّن الحركة الإسلامية. 

تحميل المزيد