طبيب يشهد بعينيه موت ابنه.. أنقذه 7 مرات لكن في الأخيرة خرجت الأمور من يده

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/14 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/14 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش

على مدار عمر ساري الشوبكي الذي لم يدُم سوى 22 عاماً، أنقذه والده من الموت سبع مرات.

يتذكر الطبيب داود الشوبكي المرة الأولى التي أنقذ فيها نجله، عندما وُلد ساري أزرق اللون بسبب قلة الأكسجين قبل موعده ولادته الطبيعي بثلاثة أشهر لقبع في حضَّانة. وهناك أيضاً تلك المرة التي أصيب فيها بحمى خطيرة في عمر أربع سنوات.  

لكن الخمس مرات الأخيرة حدثت جميعها في فترة شهرين من هذا العام.

يقول: "تمنيت لو تمكنت من إنقاذ حياته هذه المرة، كما اعتدت أن أفعل… ولكنها المرة الثامنة، كان قضاء الله (نافذاً)".

كان داود على علم بالمصاعب التي تواجه الجرحى والمرضى في مستشفيات قطاع غزة المحاصر، إذ إنَّه طبيبٌ متقاعدٌ في السادسة والستين من عمره، يعمل الآن في استشارات الصحة العامة في القطاع.

لكن على الرغم من كل الفظائع الصحية التي واجهها على مدار سنوات عمله، لم يكن داود مستعداً ليشهد موت ابنه ساري بالبطيء أمام عينيه مباشرة وهو بين يديه مصاباً في الرقبة برصاص الجنود الإسرائيليين في شهر مايو/أيار الماضي، ليلقى مصيره متأثراً بجراحه بعد شهرين.  

تُرك ليموت

كان ساري الشوبكي الذي لم يتجاوز عمره الاثنين وعشرين ربيعاً يحلم بأن يتزوج ويصبح أباً. شابٌ صغيرٌ واعدٌ عمل جاهداً على تحقيق حلمه، عمل في عدة وظائف غريبة مثل بيع المشروبات الباردة، وبيع الجوارب، وعمل في استوديو تصوير.

كان ساري الابن الثاني بين إخوانه الثمانية. استخدم ما يربحه في مساعدة عائلته التي تسكن حي الدرج في قطاع غزة، وحاول بناء مستقبله.

في الساعة العاشرة من صباح يوم 14 مايو/أيار خرج الشاب الصغيرُ من منزله دون أن يخبر أهله عن وجهته، التي لا تزال سراً لا تعرفه أسرته حتى الآن.

رنَّ هاتف داود بعد ساعةٍ واحدةٍ من مغادرة ساري للمنزل.

وعلى الجانب الأخر من المكالمة، أخبره أحدهم أنَّ ابنه العزيز قُتل على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي في منطقة عازلة بالقرب من إسرائيل.

وانتهى المطاف بيوم الإثنين المصيري هذا، بأن أصبح أكثر الأيام دموية خلال مسيرة العودة الكبرى. منذ 30 مارس/آذار، تظاهر آلاف الفلسطينيين احتجاجاً على الظروف المعيشية وطالبوا بحقهم في عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين أخرجوا من ديارهم أثناء تأسيس إسرائيل.

مات على الأقل 58 فلسطينياً في يوم 14 مايو/أيار بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النيران على المتظاهرين، ومات بعدها 7 فلسطينيون آخرون متأثرين بجراحهم التي أصيبوا بها ذلك اليوم. خرج الكثيرون إلى الشارع منددين بتدشين السفارة الأميركية في القدس، وهو الأمر الذي حدث في اليوم ذاته.

هرع داود مسرعاً إلى مستشفى الشفاء في قطاع غزة، التي كانت مكدسة لآخرها بالمصابين من جراء التظاهرة. لم يكن لدى السلطات الطبية أي سجلات تحمل اسم ساري؛ لذا اضطر داود لتمشيط كل أقسام المركز الطبي لساعات بحثاً عن ابنه.

ووسط الفوضى، وجد ابنه أخيراً مستلقياً في أحد أركان منطقة الاستقبال. وعلى صدره ورقة كُتب عليها: "مجهول الهوية". كان في حالة يرثى لها ولكنه كان يتنفس.

أبٌ وطبيب

لحظات قاسية تلك التي عاشها هذا الطبيب
لحظات قاسية تلك التي عاشها هذا الطبيب

استطاع داود أن يتمالك مشاعره بالكاد عندما رأى أنَّه لا يوجد من يقدم لابنه الرعاية الطبية التي يحتاجها.

تساءل داود مسترجعاً ما حدث: "آه يا ساري، كم ساعة مرت عليك وأنت تنزف وحيداً؟ هل هذا ما تستحقه؟".

وعلى الفور اضطر داود للتعامل مع الوضع بنفسه وأنقذ حياة ابنه للمرة الثالثة، ونقل له 12 وحدة دم، وأكثر من 100 وحدة من المحلول الملحي.

استقرت حالة ساري، لكن الطلقة التي اخترقت رقبته كانت قد أصابت الحبل الشوكي،  مما تسبب له في شلل رباعي، وشلل في الجهاز التنفسي وحركة الأمعاء.

بعد مرور 10 أيام في مستشفى الشفاء، اتفق كل الأطباء الذين فحصوه على أنَّ حالته لا شفاء منها، خاصة في ظل الإمكانيات الطبية المحدودة المتاحة في القطاع، حيث يطول انقطاع الكهرباء، وتقل الإمدادات الطبية بسبب الحصار الإسرائيلي الذي استمر 11 عاماً دُمر أثناءها القطاع الصحي في غزة.

حاول داود جاهداً مثله مثل باقي أهالي المصابين في غزة أن يوفر لابنه العلاج خارج القطاع، ولكنها عملية صعبة بسبب قلة عدد تصاريح الخروج الطبي التي تمنحها إسرائيل للمرضى الفلسطينيين.

وأخيراً، سُمح لداود وساري يوم الجمعة  25 مايو/أيار بالسفر إلى القدس الشرقية لتلقي العلاج بمستشفى ماريوسف.

أملٌ في الشفاء

أخبره أحدهم أنَّ ابنه العزيز قُتل على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي
أخبره أحدهم أنَّ ابنه العزيز قُتل على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي

على الرغم من التشخيص ونقص الرعاية الصحية الملائمة في غزة، فلم يفقد داود الأمل.

بدأ الأب وابنه يتواصلان بلغة العيون: يغمض ساري عينيه مرة واحدة ليقول "نعم" ويرفع حاجبيه ليقول "لا".

يتذكر داود أنَّه قال: "سأكون سعيداً حتى لو بقيت معي بعينيك فقط، حتى بدون جسدك"، مضيفاً: "لا أطلب المزيد".

بعد وقت وجيز، ابتكر الاثنان نظاماً أكثر استفاضة للتواصل. يستعرض داود الحروف الأبجدية، ويغمض ساري عينيه عندما يصل أبوه إلى الحرف المرغوب، وببطء يتهجى كلماته وجمله.

كان داود يشجع ولده بحرارة أثناء التدريبات التأهيلية. سُجلَّت بعض جلسات العلاج ونشرت على الإنترنت، وحصدت موجات دعم على شبكات التواصل الاجتماعي.

قال داود: "مرة أخرى، يا حب حياتي، هل تريد الخروج من هنا؟" وقبّل رأس ولده الذي أغمض عينيه مرة واحدة في إشارة إلى كلمة نعم".

ويضيف داود أنَّ ساري كان يتعافى ببطءٍ ولكنه كان تعافياً مشجعاً في مستشفى القدس الشرقية في الفترة بين 5 يونيو/حزيران وحتى 5 يوليو/تموز. وحافظ داود على  المشاركة في علاج ابنه.

وتابع: "كنت أطمئن على كل شيء، حتى على تنفسه. كنت أدلكه لمدة ثلاث ساعات أو أكثر يومياً حتى لاحظت أنَّه يحاول تحريك رقبته، لقد استعاد حاسة الشم، وكان قادراً على التغوط والكلام ثانية، وحرك عضلات معدته أيضاً وعضلات  فخذه، وحرك ركبته عندما جذبتها".

لم يصدق داود التحسن الكبير الذي حققه ولده.

يتذكر أنَّه قبَّل ساري قائلاً له: "لن نعود إلى غزة حتى تقف على قدميك".

ليرد ساري: "أريد الوقوف، أريد أن أمشي يا أبي".

أيام ساري الأخيرة

ولكن بعد أن بدا أن هناك أملاً في حالته، سرعان ما تدهورت صحة ساري بشدة.

لم تسر عملية إدخال الأنبوب إلى قصبته الهوائية لمساعدته على التنفس كما هو مخطط لها، مما تسبب في ناسور يصل بين القصبة الهوائية والمريء. وأصيب بعدوى بكتيرية مقاومة للأدوية.

تسبب هذا الناسور في جعل ساري غير قادر على الأكل تماماً. كان داود يراقب ولده وهو يذبل أمام عينيه ولكنه مكتوف الأيدي، ويعلم أنَّه يشعر بالجوع والعطش، ولكنه لا يستطيع تلبية هذه الاحتياجات الأساسية.

في يوم 17 يوليو/تموز، أي بعد شهرين أو أكثر قليلاً من تاريخ إصابته بالطلق الناري، مات ساري الشوبكي.  

يقول داود: "عندما توفى ساري، لم ير دمعة واحدة تنهمر من عيني، عندما كنت معه، تمالكت نفسي تماماً. كنت قوياً، قوياً للغاية. وأنا حقاً سعيد بهذا، أنَّ ساري لم يرَني باكياً أبداً".  

واستكمل حديثه بصوت متهدج: "كانت معنويات ساري في السماء، ومعنوياتي تحت الأرض. كنت أتركه في غرفة العناية المركزة، وأذهب لغرفة الانتظار لأنهار في البكاء".

ووفقاً لوزارة الصحة في غزة، كان ساري الفلسطيني رقم 142 الذي يُقتل على يد القوات الإسرائيلية في غزة منذ بداية مسيرات العودة الكبرى.

وقال مسؤولون في الوزارة إن 25 آخرين على الأقل قُتلوا في غزة منذ ذلك الحين.

يقول داود: "أشعر بالفخر وكذلك العالم كله؛ لأنَّه لم يصَب في مشاحنة أو شجار"، مضيفاً: "لا، لقد أُصيب على يد العدو".

على الرغم من انفطار قلبه وحزنه، تعهد داود بتجاوز الأمر.

وأنهى حديثه بالقول: "أنا حقاً سعيد أنني كنت الشخص الذي يرعاه وليس أي شخص آخر،  سأعود لوظيفتي كطبيب، أقوى من السابق".


اقرأ أيضاً

الفن مقاومة.. الإسرائيليون يدمرون مركز غزة للثقافة والفنون

 

علامات:
تحميل المزيد