استعرض الكاتب ماثيو غامبل، الباحث في الشؤون الجيوسياسية بمنطقة أوراسيا والسياسة الدفاعية الكندي، تأزم علاقات السعودية وكندا على ضوء إعلان مونتريال في الثاني من شهر أغسطس/آب، استعدادها لانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة.
وقال ماثيو غامبل في مقاله الذي نشرته مجلة The National Interest الأميركية إنه بعد إلقاء القبض على الناشطتين في مجال حقوق النساء السعودية، سمر بدوي ونسيمة السادة دعت وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند علناً للإفراج الفوري عنهما، وعبَّرت عن قلقها العميق عن المحنة المستمرة لنشطاء حقوق الإنسان في السعودية ما أدى إلى تأزم علاقات السعودية وكندا.
وقد ردَّدت البيانات الرسمية من وزارة الخارجية صدى مشاعرها. ثُمَّ اندلعت عاصفة نارية دبلوماسية وتأزمت علاقات السعودية وكندا في الساعات التي تلت إصدار هذه التصريحات.
علاقات السعودية وكندا فتحت الباب أمام سجل المملكة في مجال حقوق الإنسان
ويقول الكاتب ماثيو غامبل إنه من المؤكد أن المملكة لا تشتهر بسجِّلها المبهر في مجال حقوق الإنسان. إذ تحتفظ الأسرة الملكية السعودية الحاكمة بسلطة سياسية كاملة على البلاد، فتسحق معظم المعارضين بينما تفرض الشريعة الإسلامية بصرامة.
ويضيف أنه في غضون ذلك، تتعرض قواتها المسلحة لتدقيق متزايد بسبب عملياتها في اليمن، بسبب الخسائر البشرية العالية في صفوف المدنيين ومزاعم قصف العشوائي.
مع ذلك، حين يتعلق الأمر بالسعودية، فعادةً ما يسود التفكير الواقعي على حساب قيم الليبرالية الدولية.
لكن وضعها العالمي فيما يتعلق بالنفط جنَّبها الانتقادات الحقوقية
وقال الكاتب الأميركي إن احتياطيات النفط الكبيرة في المملكة، ونفوذها المالي الكبير، والأهمية الجغرافية السياسية في مقابل إيران، كل ذلك جنَّبها معظم الإدانات الدولية التي تُوجَّه لدول أخرى ذات سجلات سيئة نسبياً في حقوق الإنسان.
وقد أصبح هذا الأمر جلياً عندما أعطت الحكومة الكندية الضوء الأخضر لصفقة تُقدَّر بـ15مليار دولار لتزويد السعودية بالعربات المقاتلة الكندية من طراز LAV 6.0 رغم المخاوف من استخدامها في قمع الانتفاضات.
وبصرف النظر عن ذلك تأزمت علاقات السعودية وكندا بعد أن اعتبرت الحكومة السعودية التصريحات الكندية الأخيرة "تدخلاً صريحاً وسافراً في الشؤون الداخلية للمملكة"، واتخذت اجراءً انتقامياً سريعاً، إذ بدأت الرياض بطرد السفير الكندي ثم تجميد الصفقات التجارية والاستثمارية.
ومنذ ذلك الحين، صعَّد السعوديون الموقف بإصدار الأمر لحوالي 16 ألف طالب سعودي يدرسون في كندا بالعودة، وعلَّقوا رحلات طيران الخطوط الجوية السعودية من وإلى تورونتو وتأزمت علاقات السعودية وكندا.
وأصبح الموقف في علاقات السعودية وكندا أكثر توتراً عندما غرَّد حسابٌ مُوثَّق على تويتر تابع للحكومة السعودية (@infgraphic_ksa) بصورة تُظهِر طائرة تابعة للخطوط الجوية الكندية متجهة ناحية برج CN في تورنتو مع تعقيب: "مَن تدخَّل في ما لا يعنيه، لقي ما لا يرضيه".
حذف الحساب الصورة منذ ذلك الحين وأصدر اعتذاراً، زَعَمَ فيه أن المقصود كان تمثيل عودة السفير الكندي إلى بلاده، لكن من غير المحتمل أن يُهدِّئ هذا التوضيح من قلق الجمهور الكندي.
ورغم تصعيد السعودية فإن كندا تقول إنها ستستمر في الدفاع عن حقوق الإنسان
ويقول الكاتب ماثيو غامبل إن الحكومة الكندية نجحت بالصمود في مواجهة هذه التصرفات الاستفزازية رغم تأزم علاقات السعودية وكندا.
فأصدرت فريلاند بياناً قالت فيه: "ستدافع كندا دائماً عن حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير في العالم. ولن نتردد أبداً في الترويج لهذه القيم ونعتقد أن هذا الحوار أمرٌ بالغ الأهمية للدبلوماسية الدولية".
ومع ذلك، لم تظهر أية إجراءات ملموسة أخرى من أوتاوا حتى الآن، وظل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو صامتاً وتأزمت علاقات السعودية وكندا.
وأضاف الكاتب أن بعض المحللين سارعوا، بمن فيهم أيهم كامل من مجموعة أوراسيا، بإلقاء اللوم على واشنطن على هذا الخلاف، مستدلاً بفقدان الاهتمام الواضح من جانب إدارة ترمب لحقوق الإنسان حول العالم.
العجيب في الأزمة هو موقف أميركا التي دعمت السعودية ضد حليفتها كندا
ويتعجب ماثيو غامبل من موقف واشنطن ويشير إلى أنه، وبحسب هذا المنظور، فإن منتهكي حقوق الإنسان قد فهموا أن سلوكهم السيئ لن يجلب غضب واشنطن ما دامت تُراعي المصالح الاقتصادية والعسكرية لأميركا.
وكذا رفضت وزارة الخارجية الأميركية حتى الآن الوقوف مع حليفتها كندا، ودعت بدلاً من ذلك السعودية لتقديم "توضيح" إضافي في ما يتعلق بالموقف.
ودون الدعم القوي من القوة العظمى الأولى في العالم لحقوق الإنسان العالمية، فبالتأكيد يسهل فهم سبب جرأة الطغاة.
لكن الكاتب يستطرد بالقول: "ومع ذلك فإنَّ هذا التحليل يتجاهل أن الولايات المتحدة لطالما كانت حليفاً ثابتاً للمملكة ولم تقدم ما هو أكثر من النقد البسيط لسجلها في حقوق الإنسان".
في الحقيقة، استمرت إدارة أوباما في إمداد السعودية بأسلحة هجومية على الرغم من المزاعم بشأن جرائم الحرب التي ارتكبتها الأخيرة في الحرب الأهلية اليمنية.
وحتى خلال سنوات حكم بوش الابن تجاهلت الولايات المتحدة مزاعم تورط السعودية في هجمات 11 من سبتمبر/أيلول.
وبصفةٍ عامة، فإنَّ هذا الأمر يؤشر أن واشنطن قد منحت بصورة ثابتة الأولوية للطبيعة الاستراتيجية لعلاقتها مع الرياض على حساب المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان رغم تأزم علاقات السعودية وكندا.
وكذا، يمكن أن نخلص إلى أن القضايا الكامنة في هذه المواجهة أكثر من مجرد عدم اهتمام واشنطن بحقوق الإنسان.
لذلك يمكن القول إن السعودية تتبنى سياسة خارجية أكثر عدوانية مع كندا
ويذهب الكاتب الأميركي إلى أن خلاف السعودية الدبلوماسي مع كندا يعكس توجهاً أوسع باتجاه سياسة خارجية أكثر عدوانية.
فمنذ تولى وليّ العهد محمد بن سلمان منصبه رسمياً في يونيو/حزيران 2017، زادت المملكة حزمها على الساحة الدولية ومنها تأزم علاقات السعودية وكندا.
وحتى الآن، أظهر وليّ العهد نهجه العدواني في السياسة الخارجية في مناسبات عديدة.
أولاً من خلال تصعيد الحرب في اليمن، ثم قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وتأزم علاقات السعودية وكندا ولاحقاً فرض حصاراً عليها، وفي النهاية المبادرة بمواجهة متوترة مع لبنان من المحتمل أنه احتجز فيها رئيس الوزراء اللبناني بغير رغبته.
وذلك رغم تقديم الأمير محمد بن سلمان نفسه باعتباره الإصلاحي
ويقول غامبل إنه على الرغم من تقديم بن سلمان نفسه في الخارج بمظهر الإصلاحيّ والمُحدِّث المُتحكِّم بحزم في مملكته، فإنه في موقف حسّاس، لذا فمن المحتمل أنه يستغل تأزم علاقات السعودية وكندا لأغراض سياسية داخلية.
ذلك أن هبوط أسعار النفط أجبر البلاد على مواجهة حالات عجز كبيرة، ولا تزال نتيجة العملية العسكرية في اليمن محل تساؤل.
وعادةً ما تستهدف الصواريخ الباليستية القادمة من مناطق سيطرة الحوثيين المدن والقواعد العسكرية السعودية، وعجز بن سلمان حتى الآن عن إيجاد حل دائم لهذه المشكلة.
وكذا استخدم ولي العهد هذه الأزمات مع قطر ولبنان، والآن كندا، لإظهار حزمه وتحقيق انتصارات لتحقيق رأس مال سياسي.
وأضاف الكاتب أن كندا تعد هدفاً مثالياً للسعودية لعددٍ من الأسباب.
فالعداوة المستمرة الناجمة عن التأخيرات المرتبطة بتردد أوتاوا في المضي قدماً بصفقة أسلحة متفق عليها بقيمة 15مليار دولار على الأرجح كان له دورٌ في ذلك.
لكن الأمر الأهم هو أن كندا ذات أهمية اقتصادية ضئيلة نسبياً للسعودية. إذ استوردت كندا عام 2017 بضائع سعودية تزيد بقليل على 70 مليون دولار.
وفي المقابل، استوردت ألمانيا في العام ذاته ما قيمته أقل بقليل من 211 مليون دولار من المملكة.
ولذا، فإنَّ السعودية بتحذيرها كندا قد أرسلت رسالة للمجتمع الأوروبي-الأطلنطي الأوسع مفادها أن التدخُّل في شؤونها الداخلية ليس محل ترحاب تماماً، وأن الأمر لا ينطوي إلا على الحد الأدنى من التهديد للمصالح السعودية.
وفي قابل الأيام، يُستبعَد تصاعد هذه الأزمة بما يتجاوز كونه خلافاً دبلوماسياً متوتراً. فالسعودية تبحث بالأساس عن إرسال رسالة مفادها أن شؤونها الداخلية لا تعني الدول الأخرى.
وقد حقَّقت الرياض هذا الهدف، أما استقبال الرسالة من جانب الأطراف المُستهدَفة بها من عدمه فهي مسألة أخرى.
وعلاوةً على ذلك، تعكس تصرفاتها حاجة محمد بن سلمان للظهور بمظهر الحازم، لكنَّها تكشف أيضاً التوجه الأوسع باتجاه نزعة عدوانية سعودية أكبر.
يبقى أن نرى رد فعل حلفاء الناتو الآخرين، لكن دون قيادة أميركية واضحة، يظل خروج رد غربي موحّد أمراً مستبعداً.
ودون دعم من الحلفاء الآخرين، لا يكون لدى كندا الكثير من الخيارات بعيداً عن الاعتراضات الدبلوماسية والخطاب الحاد، ولو أن أوتاوا تحتفظ بالقدرة على زيادة الإنتاج الداخلي من النفط لتقليل الاعتماد الكندي على النفط السعودي ومحاولة الدفع باتجاه تراجع الأسعار.
وفي النهاية، على الأرجح ستظل العلاقات السعودية ـ الكندية تحت ضغط كبير لبعض الوقت، لأن أصداء هذا الخلاف ستمتد إلى المستقبل.
إقرا أيضاََ