لا شك أن التحويلات المالية الإيرانية، باتت تحت رقابة الاستخبارات الأميركية كجزء من العقوبات على إيران وبالتالي فإن مجرد تحويل بنكي أحد أطرافه طهران سوف يخلق جدلاً واسعاً على مستوى الساحة السياسة الدولية.
ووفقاً لتقرير صحيفة Zeit الألمانية الذي رصدت فيه أصداء محاولات واشنطن منع تحويل مئات الملايين من اليورو لإيران فإن الأمر بات محل تساؤل من الرأي العام الدولي بخصوص خطوات أميركا تجاه أموال طهران كجزء من العقوبات على إيران.
وقالت الصحيفة، بات مبلغ 300 مليون يورو، الآن، يشكل جدلاً سياسياً بين أحد الأجهزة الاستخباراتية الأميركية والبنك الاتحادي الألماني وإحدى المؤسسات المالية بمدينة هامبورغ.
ولعل الأمر المثير للاهتمام هو أن مجرد تحويل بنكي اتخذ بعداً سياسياً، نظراً لأنه قد يكون حاسماً فيما يتعلق بمستقبل الاتفاق الأكثر إثارة للجدل، ألا وهو الاتفاق النووي الإيراني.
بموجب هذا الاتفاق، التزمت الحكومة الإيرانية بالتخلي عن برنامج الأسلحة النووية، في حين بادرت الدول الغربية بالتقليص من العقوبات الاقتصادية.
في ظل هذه الظروف، أقدم الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، على الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني ليسلط خلال يوم الثلاثاء الماضي سلسلة من العقوبات على إيران بهدف إجبارها على تقديم تنازلات.
وقال التقرير، من جهتها، اعتبرت الحكومة الألمانية العقوبات الاقتصادية الجديدة أمراً مخالفاً للقانون الدولي، كما أعربت عن رغبتها في إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني.
برهنت قضية التحويل البنكي على أن الولايات المتحدة الأميركية على استعداد للدفاع بكل شراسة عن مصالحها.
والجدير بالذكر أن الأحداث تطورت بشكل كبير بعد الاطلاع على مجموعة من الوثائق الرسمية وعلى فحوى الاتصالات مع مختلف الأطراف.
العقوبات على إيران منعتها من توفير أموال لرجال الأعمال
وكشف التقرير أن الأحداث انطلقت من أروقة بنك التجارة الأوروبي الإيراني في المركز المالي في هامبورغ، علماً وأن هذا البنك ينتمي إلى الدولة الإيرانية تماماً مثل المبلغ الذي يقدر بنحو 300 مليون يورو المدخر بإحدى الحسابات، وهو قيمة إيرادات بيع النفط. كانت تحاول تخطي العقوبات على إيران من خلاله
وتملك إيران حسابات بنكية أخرى في كل من النمسا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية.
وقالت الصحيفة، إنه في مطلع شهر يونيو/حزيران الماضي، أعلن البنك الاتحادي الألماني عن إمكانية تحويل مبلغ 300 مليون يورو نقداً إلى طهران على متن طائرات، مع العلم وأن الإعلام بتحويل مبالغ مالية كبيرة أمر اعتيادي في ألمانيا.
في الحقيقة، يتكفل البنك الاتحادي الألماني بتوفير السيولة، حيث يتولى طباعة الأوراق المالية ليقوم بتوزيعها على مختلف البنوك في كافة أنحاء البلاد. على ضوء ذلك، يحتاج هذا البنك لمعطيات دقيقة بشأن المبالغ المالية وقيمتها النقدية.
من جهتهم، برر الإيرانيون رغبتهم في التحويل البنكي بحاجتهم للأموال من أجل توزيعها على رجال الأعمال الإيرانيين، الذين يصرفون الأموال نقداً عند السفر نظراً لأنه لا يمكنهم استعمال البطاقات البنكية.
خاصة وأن توفير السيولة النقدية من اليورو والدولار يمثل مشكلة كبيرة بسبب العقوبات على إيران
يمثل توفير السيولة من الأوراق النقدية من فئة اليورو والدولار مشكلاً كبيراً بالنسبة للحكومة الإيرانية.
ولئن كانت البنوك الألمانية العادية تعمد إلى تحويل الأموال إلى إيران، إلا أن المؤسسات الكبرى تأبى ذلك خشية أن تتعرض للعقوبات من طرف الحكومة الأميركية.
ومن المحتمل أن تؤدي العقوبات الاقتصادية الجديدة إلى مزيد تدهور الأوضاع في إيران خاصة وأن الحكومة الأميركية تعمل على عزل البلاد مالياً.
بمجرد أن استلم البنك الاتحادي الألماني طلب تحويل الأموال الإيراني، اتخذ الأمر بعداً سياسياً، حيث كلف هذا البنك وكالة الاستخبارات المالية في بون، وهي وحدة خاصة تابعة لإدارة الجمارك، بالتثبت ما إذا كانت هذه الأموال موجهة لتمويل الجماعات الإرهابية.
كما تكفلت الوكالة الاتحادية للرقابة على العمليات المالية ببون بالتثبت من مدى التزام بنك التجارة الأوروبي الإيراني بقوانين مكافحة الإرهاب.
لكن الاستخبارات الأميركية كانت تراقب الاتصالات وعلمت بحاجة إيران إلى الأموال وأوقفت العملية
وشرحت الصحفية، كيف تم وقف عملية التحويل المالي، وقالت، إنه في حين كانت وكالة الاستخبارات المالية والوكالة الاتحادية للرقابة على العمليات المالية منشغلتين بالقيام بمهامهما
تدخلت سيغال مانديلكر، نائبة وزير الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية عن طريق الهاتف، وذلك بعد أن أبلغتها الأجهزة الاستخباراتية الأميركية برغبة إيران في سحب مبلغ مالي كبير من حساباتها في ألمانيا.
وشعرت مانديكلر بالخطر عندما سمعت بهذا الخبر، خاصة وأن حصول إيران على الأموال من طرف ألمانيا قد ينسف الجهود الأميركية لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية عليها.
في الأثناء، أبلغت مانديكلر السلطات الألمانية بمخاوفها بشأن حصول إيران على الأموال.
وحظيت المكالمة الهاتفية، التي أجرتها مانديكلر مع بعض المسؤولين الألمان، باهتمام إعلامي واسع. في هذا السياق، التقى السفير الأميركي بألمانيا، ريتشارد غرينيل، بكاتب الدولة لدى وزارة المالية الاتحادية، يوهانس غايسمان.
حيال هذا اللقاء، نشرت صحيفة Bild تقريراً تحدثت فيه عن "برنامج الملايين للبنك الاتحادي الألماني".
وأورد هذا التقرير أن الأجهزة الاستخباراتية الأميركية والإسرائيلية تملك أدلة على أن السلطات الإيرانية ستنفق الأموال، التي ستسحبها من ألمانيا، لتمويل الجماعات الإرهابية.
وعقب ذلك بيوم، دعا السفير الأميركي بألمانيا غرينيل من خلال صحيفة Bild الحكومة الألمانية إلى العدول عن فكرة تحويل الأموال إلى إيران.
وهو ما تسبب في انسحاب كثير من الشركات العالمية من إيران بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية
وتقول الصحيفة، في برلين، يتم التعامل مع هذا الملف من قبل المسؤولين في أعلى هرم السلطة السياسية، حيث باتت هذه القضية بين أيدي كل من وزير المالية أولاف شولز، إلى جانب وزير الخارجية هايكو ماس، وزير الاقتصاد بيتر ألتماير والمستشارة أنجيلا ميركل شخصياً.
وبات كل هؤلاء المسؤولين الذين يتابعون هذا الملف على وعي تام بمدى خطورة هذا التحويل المالي.
لم يترك الأميركيون أي مجال للشك في أنهم مصرون على اتخاذ أي تدابير لتنفيذ العقوبات ضد إيران. ويعني ذلك عملياً أن كل طرف يقدم على إنجاز معاملات مالية مع إيران يجب أن يتوقع تبعات فيما يخص علاقته بالولايات المتحدة.
وذلك بغض النظر عن حقيقة أنه لا يوجد أي أساس في القانون الدولي لهذا التصرف الأميركي، بما أن الاتفاق النووي لا يزال قائماً من الناحية القانونية.
وبسبب استراتيجية التهديد الأميركية، انسحبت أغلب الشركات الكبرى مؤخراً من إيران، بالنظر إلى أهمية مصالحها في السوق الأميركية، حيث لا ترغب أي شركة منها في المخاطرة والتمسك بعلاقتها مع طهران.
وقد دعا المفاوضون الممثلون للحكومة الفيدرالية الألمانية، نظراءهم الممثلين للولايات المتحدة، لتقديم أدلة على ادعاءاتهم بأن الأموال موضوع الخلاف سوف تذهب لتمويل مجموعات إرهابية.
فعلى الرغم من أن الجميع يتفقون على أن الحكومة الإيرانية تدعم نظام بشار الأسد في سوريا، وتجمعها علاقات بحزب الله في لبنان، إلا أن هذا الأمر كان معلوماً للجميع عندما تم إبرام الاتفاق النووي.
كما كان ذلك مقبولاً لدى الدول الكبرى الموقعة على الاتفاق، في إطار سعيها لمنع إيران من مواصلة طريقها في التسلح النووي.
في الأثناء، لا يمكن للقوانين الجمركية أن تمنع تحويلاً مالياً، إلا إذا كانت هناك أدلة ملموسة على أن المال سيذهب لجهات غير قانونية. ولحد الآن، لم تتمكن واشنطن من توفير هذه الأدلة، بحسب تصريحات الجانب الألماني.
انطلاقاً من هذه النقطة، أخذت هذه القضية منعطفاً خطيراً، حيث أوضح الأميركيون أن عقوباتهم لن تفرض فقط على شركات القطاع الخاص، بل أيضاً على المؤسسات الحكومية.
ويعني ذلك فرض عقوبات أيضاً على البنك الاتحادي الألماني، وهذا يمثل ضربة موجعة بالنسبة لاقتصاد ألمانيا.
ففي الواقع، تدير هذه المؤسسة المالية احتياطي العملة، ولديها فرع في نيويورك. وإذا تم منعها من التعامل مع سوق المال في الولايات المتحدة، سيصبح هذا الفرع خارج الخدمة.
وفي الوقت الحالي، يخشى ينس فايدمان، رئيس البنك الاتحادي الألماني، من التعرض للاعتقال في حال حضوره أحد المؤتمرات الدولية حول العملة في الأراضي الأميركية.
ويبدو أن سياسات الترهيب الأميركية قد أثرت على الجانب الألماني أيضاً
تقول الصحيفة، في نهاية يوليو/تموز الماضي، شدد البنك الاتحادي الألماني الرقابة والشروط على التحويلات النقدية، معلناً أنه "في بعض الحالات الفردية الاستثنائية، يمكنه أن يرفض مع التعليل المصادقة على دفوعات مالية، في حال كانت تمثل خطراً على العلاقات بين البنك المركزي والمؤسسات المالية في دول أخرى".
ويمثل هذا الإجراء خطوة غير مسبوقة في تاريخ هذه السلطة المالية، حيث يجد البنك المركزي نفسه مجبراً على تحويل الأموال إلى حسابات البنوك الألمانية في أي وقت وفي شكل قطع نقدية وأوراق مالية، إذا تمت الاستجابة لكل الشروط القانونية.
والآن، أصبح من الوارد أن يمنع هذه التحويلات، حتى لو لم يكن هناك أساس قانوني واضح لقراره.
ويدور الخلاف الآن حول مبلغ 300 مليون يورو. وقد أكدت الحكومة الإيرانية من جانبها أنها لن تبقى معنية بالالتزام بالاتفاق النووي إذا تم حرمانها من المكاسب الاقتصادية تحت ضغط العقوبات الأميركية.
وتتعرض الآن القوى المعتدلة في إيران، بقيادة الرئيس حسن روحاني، لضغوط كبيرة في الداخل، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة البطالة، كما فقدت العملة الإيرانية قيمتها، في حين وصل التضخم لمستويات عالية. في الأثناء، شهدت شوارع إيران مظاهرات جديدة خلال الأيام الماضية.
وفي ظل هذه الأوضاع، تعد القدرة على القيام بعمليات التحويل المالي مؤشراً بالغ الأهمية بالنسبة لطهران. فعلى أرض الواقع، توجد شركات أوروبية أخرى صغيرة لا تزال مستعدة للاستثمار في إيران، ولكنها تخشى من انعدام أي بنوك تنجز من خلالها عملياتها المالية.
وفي برلين، يبدو أن الجميع مقتنعون بأنه إذا لم يتم حل هذا المشكل، ستستأنف إيران أنشطتها النووية، وسيصبح الاتفاق النووي في حكم المنتهي.
ويخشى كبار المسؤولين في الحكومة الألمانية من أن هذه النتيجة تمثل الهدف الذي يسعى وراءه دونالد ترمب، الذي يريد أن يثبت وجهة نظره، وهي أن الاتفاق النووي كان سيئاً.
نظراً لهذه المعطيات، تعمل الحكومات البريطانية والألمانية والفرنسية، على النظر في الطرق التي تمكنها من تحويل الأموال إلى إيران، حتى بعد امتناع بنوك القطاع الخاص عن ذلك.
ومن الأفكار المطروحة الآن، تكفل البنوك المركزية الوطنية في هذه الدول بتأمين التحويلات المالية. ولكن يجب الحذر من أنه في هذه الحالة ستصبح هذه البنوك المركزية هدفاً للحكومة الأميركية.
وفي خضم هذه التعقيدات، تبقى هذه القضية مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا يزال المسؤولون الماليون في ألمانيا يدرسون هذه القضية، في حين لم تصدر المستشارة ميركل قرارها بعد.
وفي كل يوم يتدهور فيه الاقتصاد الإيراني أكثر، يتعرض الرئيس روحاني للمزيد من الضغوط. ويتمثل المشكل الأبرز في أن هذه التطورات لن تفيد التيار الإصلاحي في إيران، بل على العكس سيستفيد منها التيار المتشدد، الذي كان موقفه مماثلاً لموقف ترمب، حيث رفض الاتفاق النووي منذ البداية.