لم تكن كندا هي الدولة الغربية الوحيدة التي دعت لإطلاق سراح المدافعين عن حقوق الإنسان الذين اعتقلتهم السلطات السعودية في الأشهر الأخيرة، إذ عبَّرت الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي علناً أيضاً عن قلقها بشأن الاعتقالات.
ولكن من بين هذه الدول، نالت كندا عقاباً على موقفها الأخير، لفتت سرعته وحدّته الأنظار، فلماذا صبّت الرياض جام غضبها على أوتاوا أكثر من غيرها؟
اندلعت العاصفة بتغريدةٍ من رئيس الوزراء الكندي الأسبوع الماضي، عبَّر فيها عن قلقه إزاء إلقاء القبض مؤخراً على ناشطة حقوق المرأة في السعودية، التي كان لها أقارب في كندا، وَدَعَا إلى الإفراج عنها.
ويوم أمس الإثنين 6 أغسطس/آب، جاء ردّ السعودية غاضباً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأميركية.
إذ صدرت الأوامر للسفير الكندي بالرحيل خلال 24 ساعةً، وجمَّدت الحكومة السعودية التعاملات التجارية والاستثمارية بين الدولتين. وأشارت وسائل الإعلام السعودية إلى أن برامج التبادل التعليمي ستتوقف، مما يؤثِّر على 12 ألف طالب سعودي يدرس في منحٍ مموَّلةٍ من الدولة في كندا. وأعلنت الخطوط الجوية الوطنية السعودية عن وقف كل رحلاتها إلى كندا، اعتباراً من يوم 13 أغسطس/ آب.
وكانت الأزمة بدأت عندما أعربت وزيرة الخارجية الكندية، كريستيا فريلاند، في شبكات التواصل الاجتماعي، الخميس 2 أغسطس/آب 2018، عن "انزعاجها" لسماع اعتقال سمر بدوي، شقيقة الناشط السعودي رائف بدوي، علماً أن زوجة رائف وأطفاله الثلاثة يعيشون في كيبيك، وأصبحوا مواطنين كنديين الشهر قبل الماضي (يونيو/حزيران 2018).
ليست المرة الأولى التي تنتقد فيها كندا سجل الرياض الحقوقي.. فما الذي تغيَّر؟
ليست هذه المرة الأولى التي تتعرَّض فيها المملكة، التي تحكمها الملكية المطلقة، حسب وصف Washington Post، لانتقادات بسبب انتهاك حقوق الإنسان، وليست حتى أول مرةٍ تنتقد فيها كندا تحديداً الحكومة السعودية، منذ أن شرعت في اعتقال الناشطات في مايو/أيار 2018.
لكن يقول محللون إن تحت حكم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، صارت المملكة، التي كانت معروفة بالتأنِّي في الشؤون الخارجية، تستجيب للتحديات الظاهرة من الخارج بتسرُّعٍ وتهوُّرٍ.
وسلَّط انتقاد كندا الضوء على تضييق السعودية المستمر للخناق على المعارضين، ومن بينهم مجموعةٌ من الناشطات البارزات أطلقن حملةً لأجل رفع الحظر عن قيادة السيارات للنساء وحقوقٍ أخرى.
رسالة الاعتقال: رغم التحرر الاجتماعي فلن نتهاون مع هذه الأنشطة
واتَّهم المدّعون العامون السعوديون بعضَ النساء بالتواطؤ مع أطرافٍ خارجيةٍ مجهولةٍ، لكنهم التزموا الصمت بشأن أسباب هذه الاعتقالات.
وخمَّنت منظمات حقوق الإنسان، أن هذه الموجة مَعنِيٌّ بها بعث رسالةٍ بأن القيادة السعودية لن تتهاون مع أي مؤشِّرٍ للنشاط السياسي.
وقال أحد مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية، يوم الإثنين، إن الولايات المتحدة قد "طلبت من الحكومة السعودية معلوماتٍ إضافيةً عن احتجاز عدة ناشطات"، وشجَّعَت السعوديين على "احترام أحكام القانون والإعلان عن موقف القضايا القانونية".
وفي بيانٍ أُصدِر صباح يوم الإثنين، وصفت وزارة الخارجية السعودية انتقاد كندا بأنه "تدخُّلٌ سافرٌ في الشؤون الداخلية للمملكة، في مخالفةٍ لكل الأعراف والبروتوكولات الدولية"، وبأنه "تجاوزٌ غير مقبول على قوانين المملكة وإجراءاتها القضائية".
وأعرب البيان عن استياءٍ ناحية مناداة كندا بالإفراج عن الناشطات، ووصفه بأنه أمرٌ "مستهجن".
ولكن التصعيد مع كندا سلَّط الضوء على غرائب السياسة الجديدة للسعودية
وبعيداً عن هذا الخلاف، ألقى هذا التصعيد السريع الضوءَ على زيادة التشدد في السياسة الخارجية، في ظلِّ حكم وليِّ العهد محمد بن سلمان.
فمع أن بن سلمان لقي الثناء على تجديد دماء المملكة الجامدة، ومحاولة تنويع سياساتها الاقتصادية، والتخلي عن بعض القيود الاجتماعية، فقد ساهم أيضاً في اشتباك المملكة في صراعاتٍ مع دولٍ أجنبيةٍ -بما فيها حربٌ أهليةٌ في اليمن- عانت المملكة لأجل الخروج منها، إضافة لفرضه مع بعض حلفائه حصاراً على دولة قطر الجارة.
وتقول السعودية إن تدخلها في اليمن كان ضرورياً بعد إسقاط الحكومة اليمنية على يد جماعة معارضةٍ متحالفةٍ مع إيران، النِّد الإقليميِّ للسعودية.
وفي واقعةٍ غريبةٍ في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، احتجزت السلطات السعودية رئيس الوزراء اللبناني سعد الدين الحريري، وأرغمته على الاستقالة من منصبه (ولكنه استعاد منصبه لاحقاً). وحين شجبت وزير خارجية ألمانيا واقعة الحريري، استدعت السعودية السفير الألماني، وقدَّمت له شكاوى بشأن "التعليقات المخزية وغير المبررة".
فلقد أصبحت متقلبة ويصعب التنبؤ بها حتى إنها اشتبكت مع أوتاوا رغم الصفقة الكبيرة بينهما
"لقد أصبح أمراً متكرراً. على مدار السنوات الثلاث الماضية، صارت القيادة السعودية أكثر تقلُّباً، وأصبح من الصعب التنبؤ بتصرفاتها بصورةٍ متزايدة"، حسب ما يقول كريستيان أولريخسن، الزميل في شؤون الشرق الأوسط بمعهد بيكر التابع لجامعة رايس الأميركية.
وليس واضحاً ما إن كان الخلاف الدبلوماسي قد يؤثر على صفقاتٍ بعينها، مثل صفقة أسلحة بقيمة 15 مليار دولار كندي (11.57 مليار دولار أميركي) اتُّفِق عليها في 2014 لبيع مركبات مدرعة خفيفة للسعودية من الوحدة الكندية لشركة General Dynamics Land Systems للصناعات العسكرية.
وقد تعرَّضت هذه الاتفاقية، التي أبرمتها حكومة المحافظين في 2014 برئاسة ستيفن هاربر رئيس الوزراء آنذاك، إلى انتقاداتٍ لاذعةٍ من منظمات الحقوق المدنية، التي قالت إن الاتفاقية مبهمةٌ وتثير المخاوف نحو استعمال الأسلحة في انتهاكات حقوق الإنسان.
وصدَّق جاستن ترودو، خليفة هاربر، على الصفقة في ربيع 2016، حين بدأت حكومته في إصدار تصاريح التصدير، وبرَّر ذلك بأنه لا يملك خياراً سوى احترام العقود التي وقعتها الحكومة السابقة.
وقالت فريلاند، في فبراير/شباط، إن تحقيق وزارتها في التقارير المشيرة إلى أن السعودية تستخدم الأسلحة المصنوعة في كندا لارتكاب انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان لم يسفر عن "أي دليلٍ قاطعٍ" على تلك المزاعم.
ولكنْ هناك هدف بعيد المدى من الغضبة السعودية على كندا تحديداً
"إنهم يُضفُون كثيراً من الشكِّ على المشهد في وقت يحتاجون فيه إلى إقبال الناس على السعودية وتوطيد العلاقات معها"، هكذا يعلق أولريخسن على الأزمة.
لكن أولريخسن يستدرك قائلاً إن القرار السعودي بمواجهة كندا لم يكن بلا منطقٍ. إذ قال: "هذا يبعث برسالةٍ لأيِّ طرفٍ آخر يفكِّر في انتقاد السياسة السعودية، كما فعلت عدة دولٍ أوروبيةٍ إزاء اليمن".
وهذا أيضاً كان رأي البروفيسورة في العلوم السياسية بجامعة واترلو الكندية، باسمة موماني، التي غرَّدت على "تويتر"، قائلة: "رأينا الكثير من الدعم للمعارضين السعوديين في المملكة المتحدة وكندا والكونغرس الأميركي وغيرها.
لكن من الأسهل أن تقطع (السعودية) علاقاتها مع كندا أكثر من البقية. ليست هناك علاقة تجارية ثنائية قوية، ومن المرجح أن يتردد صدى وخز حكومة ترودو مع الحلفاء الإقليميين الصقور للسعوديين.
وهكذا قررت الرياض معاقبة هذه الدولة لتكون عبرة لأشقائها الأكبر
وتعتبر موماني أن الخطوة الدبلوماسية السعودية أكبر بكثير من قضية بدوي، حيث أوضحت لقناة CBC الكندية: "أعتقد أنه يتعين على المرء أن يتراجع خطوة للوراء، ويرى أن هناك قدراً كبيراً من الحرارة على المملكة العربية السعودية، لا سيما معاملتها عناصر المجتمع المدني وأنشطة حقوق الإنسان. وأعتقد أن القصد هو جعل كندا مثالاً أو عبرة للآخرين".
We've seen a lot of support for Saudi dissidents in the UK, Canada, the US Congress, & others. But Canada is easier to cut ties with than the rest. There isn't a strong bilateral trade relationship & poking Trudeau government likely resonates with Saudi's hawkish regional allies.
— Bessma Momani (@b_momani) August 6, 2018
ويقول أولريخسن، إن هذا الخلاف مع كندا "ليس له عواقب، في نظرهم. أو أنها ليست عواقب بوخامة الوقوف ضد الدول الغربية الأكبر كالولايات المتحدة أو بريطانيا مثلاً، من ناحية علاقاتهم السياسية والاستراتيجية والاقتصادية".
ولكن هناك أمر فعلته السفارة الكندية ضاعف غضبهم
ووفقاً لمنظمة هيومان رايتس ووتش، أُلقِيَ القبض على ناشطتين أخريين الأسبوع الماضي. وإحداهما هي نسيمة السادة، المُرشَّحة السابقة في إحدى الانتخابات المحلية، التي نادت بإلغاء ما تُدعى بقوانين ولاية الرجل، التي تُلزِم المرأة باستئذان أحد الأقارب الذكور لأجل السفر أو الزواج.
والأخرى، سمر بدوي، حائزةٌ على جائزة نساء الشجاعة الدولية المقدَّمة من وزير الخارجية الأميركي، وهي شقيقة المُدوِّن المعارض رائف بدوي.
وقد حُكِمَ على رائف بدوي بألف جلدةٍ والسجن 10 سنواتٍ في السعودية بتهمة "ازدراء الإسلام عبر قنواتٍ إلكترونيةٍ". وحصلت زوجته إنصاف حيدر وأبناؤه الثلاثة على الجنسية الكندية في "يوم كندا"، الشهر الماضي يوليو/تموز، ويعيشون في مدينة كيبيك.
وقالت كريستيا فريلاند، وزيرة الشؤون الخارجية الكندية، في تغريدةٍ يوم الخميس 2 أغسطس/آب 2018، إنها كانت "قلقة للغاية" عندما علمت بالقبض على سمر. وأضافت أن الحكومة سوف "تواصل بقوةٍ المناداة بإطلاق سراح كلٍّ من رائف وسمر بدوي".
وبعد ثلاثة أيامٍ، نشرت السفارة الكندية في السعودية بيان وزارة الخارجية المنادي بالإفراج عن ناشطات حقوق المرأة على حسابها على موقع تويتر، باللغة العربية، لضمان أن يقرأها عددٌ أكبر من السعوديين.
وقال أولريخسن: "ربما هذا ما أفضى إلى هذا الردِّ وجعله بهذه الحدَّة".
وفي بيانٍ صدر يوم الإثنين، قالت فريلاند: "ستظل كندا دوماً مناصرةً لحماية حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، وحرية التعبير في جميع أنحاء العالم".
تشعر كندا بقلق بالغ إزاء الاعتقالات الإضافية لنشطاء المجتمع المدني ونشطاء حقوق المرأة في #السعودية ، بما في ذلك #سمر_بدوي . نحث السلطات السعودية على الإفراج عنهم فوراً وعن جميع النشطاء السلميين الآخرين في مجال #حقوق_الانسان.
— Canada in KSA (@CanEmbSA) August 5, 2018
وليست هذه المرة الأولى التي تفعلها السعودية ولكن إحدى السوابق تُثبت نظرية الرسائل
الخطوة الدبلوماسية السعودية تعيد إلى الذاكرة ما أقدمت عليه عام 2015، عندما وقع خلاف دبلوماسي مشابه مع السويد، استدعت وقتها المملكة سفيرها في ستوكهولم، التي ألغت بدورها اتفاقية دفاعية مع المملكة.
وحدث طلاق تجاري بين البلدين بعدما حظرت السعودية وزير الخارجية السويدي مارغوت والستروم؛ لحديثه في قمة عربية عن حقوق الإنسان، انتقد وقتها أيضاً والستروم قرار جلد بدوي، واصفاً العقاب بـ "ممارسة العصور الوسطى".
وقررت السعودية في مارس/آذار 2015، إعادة سفيرها إلى السويد بعد تقديم حكومة السويد اعتذاراً للسعودية عن الأزمة الدبلوماسية التي مرّت بها العلاقات بين البلدين مؤخراً.
ويلفت التشابه بين وزني كندا والسويد النسبي طبيعة اختيارات السعودية للدول الغربية التي تشتبك معها، إذ يمكن اعتبارها دولاً من العيار المتوسط من ناحية الثقل الاقتصادي والسياسي، مما يقلل الخسائر، ويؤدي لإيصال رسائل للدول الأكبر في الوقت ذاته.
كما توترت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية ودولة غربية أكبر هي ألمانيا، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين انتقد وزير الخارجية الألماني آنذاك المملكة، بسبب ضغطها على رئيس الوزراء اللبناني للاستقالة. بعد ذلك، أمرت الحكومة السعودية سراً بعدم منح عقود جديدة للشركات الألمانية، وفقاً لما نقلت صحيفة The Wall Street Journal الأميركية عمّا وصفتهم بأشخاصٍ مطلعين على المسألة.
ولكن ما الذي دفع كندا لاتخاذ هذا الموقف منذ البداية، وماذا ستفعل مع الطلبة السعوديين؟
التصريحات الكندية التي أغضبت السعودية تتجانس مع مبادئ الحزب الليبرالي الكندي فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وإن كانت تُطبّق بـ"خجل" في مواقع أخرى مثل قطاع غزة، حسبما قال رئيس تحرير جريدة "البلاد" الصادرة في أونتاريو بكندا، ليث الحمداني، في تصريح سابق لـ "عربي بوست".
كما أن سجل الحزب الليبرالي الحاكم في ملف قضايا حقوق الإنسان جعله أكثر عرضة لضغط منظمات المجتمع المدني، مقارنة بالحكومة المحافظة السابقة التي تمت الاتفاقية العسكرية مع السعودية في عهدها.
فقد تلقت الحكومة المحافظة وقتها أيضاً موجة انتقاد لم تؤثر على موقف رئيس الوزراء السابق ستيفن هاربر، الذي مضى قدماً في الصفقة.
وفي مؤتمر صحفي عُقِدَ يوم الإثنين في فانكوفر، قالت وزيرة الشؤون الخارجية الكندية، إن الدبلوماسيين الكنديين قد طرحوا "أسئلةً إجرائيةً" على نظرائهم السعوديين، وإنهم "بانتظار إجاباتٍ بشأن نوايا السعودية حيال استمرار العلاقات".
وقالت إن رسالتها للطلاب السعوديين هي أنهم مرحبٌ بهم في كندا، وإن "من الخسارة أن يُحرَموا من هذه الفرصة".
اقرأ أيضاً