اعتاد الشاب المصري محمود حامد على السفر للعمل خارج مصر منذ أكثر من 15 عاماً، تنقل خلالها بين دول الخليج العربي قبل أن يستقر به المطاف أخيراً في ليبيا رغم ظروف الحرب الأهلية التي مزقت البلد النفطي وحيث انتشرت حوادث خطف وقتل مصريين أيضاً.
غرقت ليبيا التي تتصارع على السلطة فيها حكومات ومجموعات مسلحة عدة، في الفوضى إثر الإطاحة بنظام معمر القذافي في أكتوبر/تشرين الأول 2011. إلا أن جهود إعادة إعمارها لا تزال تغري فقراء المصريين للسفر والعمل بها.
وتشير تقديرات مصرية غير رسمية إلى وجود ما بين 200 و250 ألف مصري حالياً في ليبيا، رغم أن عددهم جاوز المليونين في آخر الإحصاءات الرسمية قبل الانتفاضة التي أطاحت الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في فبراير/شباط 2011.
في نهاية العام 2012 انتهى عقد حامد البالغ 38 عاماً والذي يعمل نقاشاً في مجال البناء في الإمارات ليعود إلى مصر حيث استقر عاماً "صعباً" كاملاً إذ قال "مفيش (لا يوجد) شغل مجزي زي (مثل) ما كنت في الخليج".
لكن بارقة أمل بدت في الأفق، إذ تحصل حامد الذي يسكن في إحدى قرى مركز كفر شكر بمحافظة القليوبية (65 كم شمال القاهرة) على عقد عمل في ليبيا.
مضطرون للسفر رغم الخطر
سافر الأب لثلاث بنات وطفل صغير إلى ليبيا لأول مرة بعقد عمل دفع حوالي 15 ألف جنيه (حوالي 800 دولار) ثمناً له، ليعمل في مجال المعمار.
حامد بقامته القصيرة زاده العمل في مجال البناء سمرة ونحافة، سافر أول مرة عن طريق البر كما يحكي "ميكروباص كان مستنينا أنا ومجموعة كبيرة من البلد والقرى اللي حوالينا في المنصورة، ومنها اتحركنا بأتوبيس كبير إلى السلوم، عدينا المعبر ودخلنا ليبيا".
ويضيف محمود "اشتغلت مع مقاول ليبي كبير كان عنده شغل كتير في أكتر من مدينة ومنطقة ليبية، كان بيبني عمارات جديدة ويشطب شقق، الشغل كتير والفلوس حلوة".
في مطلع العام 2015، تبنى تنظيم الدولة الإسلامية خطف 21 مصرياً قبطياً في ليبيا خطفوا قبلها بعدة أسابيع.
وما لبثوا أن ظهروا في شباط/فبراير في إصدار مصور للتنظيم الجهادي المتطرف وهم يذبحون بشكل مروع على أحد الشواطئ الليبية.
يسترجع حامد بحزن وتوتر "سمعنا الأخبار زي غيرنا، على فيسبوك وقنوات التلفزيون، كنا في حالة رعب نصنا كان بينزل الشغل والنص التاني كان قاعد خايف".
ودائماً ما تحذر وزارة الخارجية المصرية، المواطنين المصريين من السفر إلى ليبيا نظراً لتردي الأوضاع الأمنية هناك، خصوصاً بعد واقعة ذبح الأقباط في فبراير 2015.
يتحدث حامد عن طبيعة العمل في ليبيا قائلاً إن "الميزة في ليبيا إن دخولها مش محتاج فيزا، وفلوسها دلوقتي أحسن من الخليج خاصة من مجال المعمار، مدن كاملة بتتشيد ومدن تانية محتاجة إعادة إعمار.. الشغل كتير والأمن معقول حسب المنطقة، في مناطق آمنة وفي مناطق تانية فيها قلق ما بنروحاش".
وتابع حامد الذي يزور مصر في إجازة تمتد شهراً "بنقعد نشتغل 11 شهر وننزل شهر إجازة، ولو عرفنا نخطف كام يوم على إجازة عيد أو رمضان بيبقى زي الفل".
ما يقلق محمود هو القرار الليبي بزيادة رسوم الدخول والخروج على المصريين، بهذه الطريقة لن يستطيع العمال العودة إلى بلدهم كل سنة.
وكانت الحكومة الليبية أعلنت في الثاني من يوليو/تموز الفائت رفع رسوم الدخول والخروج للمصريين ومركباتهم إلى الأراضي الليبية.
وذكرت وسائل إعلام ليبية أن هذا القرار طبقاً لـ"مبدأ المعاملة بالمثل مع مصر"، وقررت كذلك رفع رسوم الدخول والخروج للأشخاص والمركبات من الجانب المصري إلى أراضيها وكذلك مغادرتهم الأراضي الليبية.
"ذكرى سيئة"
لا يختلف الوضع كثيراً مع ابن محافظة المنيا، سمير سالم (36 عاماً). سافر إلى ليبيا في عام 2013، وكانت له ذكرى سيئة فعاد إلى مصر بعد 10 أشهر فقط.
يقول سمير الذي يعمل سباكاً، إن مسلحين اقتحموا منزلهم في العاصمة طرابلس وقتلوا مصريين أقباطاً وسرقوا متعلقاتهم. يتذكر كيف هربوا في الشوارع واحتموا بعائلات ليبية هرباً من مطارديهم.
بعد يومين هدأت الأمور فقصدوا مطار طرابلس لكنهم تفاجأوا أنه مغلق ولا رحلات، اضطروا للسفر براً على مراحل متعبة حتى وصلوا معبر السلوم.
قبل أن يسافر سمير كان يعمل بمعدل ثلاثة أيام في الشهر، فلا يستطيع سداد مصاريف أولاده الثلاثة. حينما اضطر للرجوع من ليبيا عاد لنفس وضعه القديم.
بعد أشهر تعرف من جديد على شخص يهرب المصريين إلى ليبيا عن طريق المعبر، اتفق معه على السفر مقابل 1500 جنيه، في الرحلة التقى بمحمود في نفس الميكروباص، ساروا على طريق الواحات، وفي واحة سيوة غيروا السيارة بواحدة أخرى رباعية الدفع صالحة للصحراء وبعد ساعات وجدوا أنفسهم داخل التراب الليبي، ومن "هناك كل واحد يبحث هم رزقه" يعلق سمير.
حينما يسأل سمير "ألم تخف من تكرار هجوم المسلحين مرة ثانية؟"، يجيب من دون تردد "العمر واحد والرب واحد.. في ليبيا أجني في شهر أكثر مما يمكن أن أحصل عليه خلال سنة في مصر".
سوق متعطش للعمالة
ارتفاع معدل التضخم ونسب البطالة هما إحدى أهم أسباب سفر المصريين إلى ليبيا للعمل رغم اضطراب الأوضاع الأمنية هنا، كما يشرح الباحث الاقتصادي محمد سليمان.
ويضيف أنه منذ سنوات يسافر مصريون إلى ليبيا للعمل، بسبب قربها من مصر وسهولة الوصول إليها براً، ويستطيعون أيضاً دخولها بدون تأشيرة مسبقة.
ويصف الباحث الاقتصادي ليبيا بأنها "سوق مفتوح متعطش للعمالة" لإعادة الإعمار للمناطق المدمرة بسبب الحرب الأهلية.
وأضاف "السوق الخليجي بدأ سياسة التوطين في الوظائف وإحلال الخليجيين محل الوافدين في مختلف الوظائف، ما يجعل السوق الليبي رغم اضطرابه الأمني الخيار الأول للمصريين".
وفي مكتبه الممتليء بالاستمارات الخاصة براغبي العمل بالخارج في شارع رئيسي في وسط القاهرة، قال سمسار سفر أربعيني فضل عدم ذكر اسمه "السوق الخليجي شبه مقفول. والعراق لا تطلب عمالاً ووضعها صعب أمنياً أيضاً".
وتابع الرجل حاد الملامح وهو ينفث دخان سيجارته الأجنبية "البديل إما التكدس في مراكب السفر لأوروبا عبر البحر المتوسط أو السفر إلى ليبيا سواء بشكل شرعي أو غير شرعي".
وأكد وهو يشير إلى الاستمارات "الناس دي عارفة إنها رايحة بلد كلها موت وذبح وقتل وممكن مترجعش بس لقمة العيش تحكم" في إشارة إلى ليبيا .
حوادث مستمرة
بعد أشهر من مقتل القذافي، وفي ظل الفوضى التي عمت ليبيا، وقعت عشرات الاعتداءات على مصريين، منها طعن مجهولين مُدرساً مصرياً قبطياً، توفي متأثراً بجراحه.
وسبق وقدم وزير القوى العاملة الأسبق خالد الأزهري كشفاً بأسماء المصريين المقتولين في الأراضي الليبية خلال أحداث الثورة هناك، وكان عددهم 160 شخصاً.
في يوليو 2015 أعلنت منظمة الهلال الأحمر الليبي العثور على 48 جثة لمهاجر غير شرعي، أغلبهم من مصر، في منطقة صحراوية تقع بين مدينتي أجدابيا وطبرق، وأفيد بأنهم ماتوا من العطش.
وقالت المنظمة في بيان لها "إن الضحايا كانوا في طريقهم إلى ليبيا بطرق غير شرعية للعمل هناك"، لافتة إلى أنها عثرت على 19 جثة مهاجر غير شرعي مصري منتشرة في المنطقة (ما يعنى أنهم تاهوا بحثاً عن الماء أو وصولاً لأقرب طريق)، إلى جانب 29 جثة أخرى وجدت ملقاة في الصحراء لعدم توفر وسيلة لنقلهم.
وبعد العثور على متعلقاتهم، اكتشفت السلطات أن أغلب المتوفين منحدرون من محافظات صعيد مصر، خاصة أسيوط والمنيا وبني سويف وهي من أشد المحافظات المصرية فقراً.
وفي يوليو/تموز 2017، انتشل رجال الهلال الأحمر الليبي جثث 19 مهاجراً مصرياً آخرين من صحراء الجغبوب على بعد حوالي 400 كيلومتر جنوبي طبرق.
وبحسب خالد الراقي، رئيس جمعية الهلال الأحمر الليبي، فإن المهاجرين دخلوا الأراضي الليبية سيراً على الأقدام، وماتوا من الجوع والعطش بعد أن ضلوا طريقهم.
ويقول سمير الذي سلك نفس الطريق وربما كان سيتعرض لنفس المصير "الوضع الاقتصادي بائس والجوع كدة كدة موجود وبيموت ولادنا".
وأضاف بأسى "أشرف إننا نموت في الصحرا وإحنا بنسعى للقمة العيش عن إننا نفضل مستنين الجوع يموتنا في بيوتنا".