تنظيم داعش يدمر الموصل ، ومر من هنا، هكذا تقول مدينة الموصل، فالأهالي غير قادرين على العودة مرة أخرى ، والمدينة تدفع ثمن صراع تنظيم الدولة والجيش العراقي
رصدت مجلة The Atlantic الأميركية أوضاع مدينة الموصل بعد خروج تنظيم داعش، وقالت المجلة إنه في الأسبوع الذي سبق الانتخابات البرلمانية العراقية، التي عُقدت خلال شهر مايو/أيار 12018، وفي وادي حجر، الحي المهدد غربي الموصل، كان الرجال ذوو الأطراف المبتورة يحومون بالقرب من شاحنة تقلُّ موظفين من منظمة غير حكومية تقدم خدمات قانونية، في انتظار دورهم لطلب المساعدة.
كان أحدهم يدعى محمد مصطفى، وقد جاء إلى هذه المنظمة غير الحكومية للحصول على شهادة ميلاد لابنته، التي ولُدت في أثناء فترة احتلال تنظيم الدولة المدينة بين عامي 2014 و 2017.
مصطفى عربيٌّ سنّي يعيش في حي فقير، ويؤمّن مصاريف عيش زوجته وابنتيه من خلال العمل مع الشرطة العراقية.
كان عمله محفوفاً بالمخاطر في مرحلة الفوضى ما بعد غزو الولايات المتحدة للعراق، خاصة مع انتشار نفوذ تنظيم القاعدة في جميع أنحاء المنطقة.
تنظيم داعش يدمر الموصل ويجبر المواطنين على الهروب
وعندما سيطر تنظيم الدولة على مدينة الموصل في يونيو/حزيران 2014، هرب مصطفى إلى قرية تقع في ضاحيةٍ بجنوب الموصل، حيث يعيش جده.
وقد أفاد مصطفى بأن "تنظيم الدولة كان يعتبر الأشخاص الذين يعملون مع الشرطة كفاراً، حيث اعتقل أكثر من 1000 شخص وأعدمهم، وكان من بينهم بعض أبناء عمومتي".
ظل مصطفى مختبئاً 4 سنوات ولم يعد إلى حيّه إلا بعد أن حرر الجيش العراقي المنطقة.
لكنه لم يكن يعرف كيف سيعيش؛ فغرب الموصل مدمر، وأنتشرت الفوضى فضلاً عن أن اسمه وُضع في القائمة السوداء للحكومة، وحُرم من وظيفته القديمة مع الشرطة.
وحيال هذا، قال مصطفى: "تعتقد الحكومة أن جميع من عاش بهذه المنطقة هم من أتباع تنظيم الدولة".
لكن بعد تحرير المدينة من "داعش" لم يستطع المواطنون العودة لمنازلهم
بعد مرور سنة على تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة، انتشرت الفوضى وتقلَّص عدد سكان المدينة الأصلي قبل الحرب بنحو ثلاثة أرباع.
ويعود ذلك جزئياً إلى أن معظم المدينة، لا سيما الجزء الغربي منها حيث تم خوض أسوأ المعارك، ما زال غير قابل للعيش مطلقاً، حيث تفيض جبال من الزجاج والقمامة والأسلاك المعدنية، والصخور المنشطرة من المباني الفارغة.
ويتدلى حبل مشنقة داخل الممر الخلفي لكنيسة محروقة، فضلاً عن أن الكتب والثياب وأشرطة الكاسيت والأطباق منتشرة في الشوارع. لقد طال الدمار جميع أنحاء المدينة القديمة، حيث تنظيم داعش يدمر الموصل والهواء مشبَّعٌ برائحة الجثث.
حتى اللحظة الراهنة، أسهم المجتمع الدولي بنحو 30 مليار دولار في عملية إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب ضد تنظيم الدولة. لكن الفساد أعاق عملية إعادة الإعمار، الفساد والفوضى، وعدم فاعلية الحكومة.
وحتى لو أعيد بناء الموصل، فإن انعدام الثقة واستمرار العنف الطائفي والعرقي من المحتمل أن يحطما مستقبل العراق في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة.
إن عدم ثقة العراقيين بالعرب السُّنة تشكل إحدى كبرى العقبات أمام إجراء مصالحة مع هذه الطائفة؛ نظراً إلى أن تنظيم داعش يدمر الموصل ، و كان يتبنى نزعة متطرفة من الإسلام السُّني.
وقد دعمت بغداد بشكل رسمي عودة النازحين، وضمنهم العرب السُّنة الذين مكث العديد منهم في الموصل طوال فترة الاحتلال، وتخشى حكومة العراق في الوقت الراهن من أن يكونوا من الموالين للتنظيم.
أما القوات الكردية والميليشيات الشيعية وجيرانهم السابقون، الذين يهددون بإحلال العدالة بطرقهم الخاصة، فغالباً ما يمنعونهم من الوصول إلى مدنهم.
فما زالت هناك تهديدات للمواطنين تعيقهم عن العودة إلى منازلهم في مدينة الموصل
في تقرير نشره المجلس النرويجي للاجئين خلال شهر فبراير/شباط 2018، أكد 16% من النازحين العراقيين من الأنبار، وهي مقاطعة غالبيتها من العرب السُّنة، أنه تمت عرقلة محاولاتهم للعودة إلى ديارهم.
كما أوضح واحد من بين كل 5 عراقيين، ومعظمهم من العرب السُّنة ويعيشون في أحد مخيمات اللاجئين بالأنبار، خلال شهر ديسمبر/كانون الأول 2017، أنهم حاولوا العودة إلى ديارهم، لكنهم فروا مرة أخرى؛ بسبب تلقيهم تهديدات بالانتقام. ووبسبب أن الواقع يقول أن داعش يدمر الموصل حتى بعد خروجه منها
أخبرني أستاذ في اللغة الإنكليزية يعمل في جامعة الموصل، يبلغ من العمر 36 سنة، يدعى علي البارودي، بأنه لا يجب التعامل مع الطائفة السُّنية بطريقة عشوائية على أنهم أنصار تنظيم الدولة.
فعلى الرغم من أن بعضهم قد انضم إلى صفوف هذا التيار، فإنه -حسب البارودي- "لا يمكنك إلقاء اللوم على 95% من الطائفة السُّنية لمجرد أن نسبة ضئيلة منهم فعلت ذلك". كما أكد البارودي "ضرورة التمييز بين المذنب والبريء".
وأضاف البارودي: "لا ينبغي أن نتعامل معهم مثلما يفعل الطغاة، فنحن جميعاً ضحايا". ففي المقام الأول، كان التهميش الدافع وراء دعم العديد من السُّنة تنظيم الدولة.
كما أكد البارودي أن المسلمين السُّنة العائدين إلى غرب الموصل باتوا الآن محل شكوك، وسيواجهون العزلة مرة أخرى. وتساءل البارودي: "كيف تتوقع منهم أن ينظروا إلينا وهم يعيشون في مبانٍ مدمرة، وتحيط بهم الجثث في كل ركن؟ وتنظيم داعش يدمر الموصل، إنهم أكثر من مهمَلين، لقد تم التخلي عنهم".
وهناك مسألة عدم ثقة بين أبناء الشعب العراقي تمنع علاج أزمة المدينة
ومسألة إعادة بناء الثقة صعبة حتى بين أفراد الطائفة السُّنية نفسها، خاصة أن أيديولوجيا تنظيم الدولة والخلايا المتشددة لا تزال قائمة هناك.
لقد روى غسان محمد، البالغ من العمر 28 سنة، والذي يعمل بمخيم للعائلات النازحة بالقرب من مدينة كركوك، ما حصل معه في يوم من أيام العام الماضي (2017) عندما التقى طفلاً سُنياً يبلغ من العمر 7 سنوات، كان هارباً من مدينة الحويجة التي تسيطر عليها قوات تنظيم الدولة، وكان يبكي من شدة الظمأ.
وقد أخبرني محمد: "عندما أعطيته الماء، نظر إليَّ وقال: (لا أريد الماء من كافر)! كان محمد ينتمي إلى الطائفة السُّنية، لكن هندامه كان غربياً ولم تكن لديه لحية، وقد وصفه الطفل الذي كان يعاني صدمة جراء العيش في ظل احتلال تنظيم الدولة، مثلما يصفه أعضاء التنظيم.
لقد أخبرني محمد بأنه عاد لتوُّه من جنازة راعيَي غنم قامت جماعة تنظيم الدولة بإعدامهما في مدينة الحويجة.
وقد أكد محمد أنه لا تزال جماعات تنظيم الدولة موجودة في مدينة كركوك. وفي مدينة الحويجة، يختبئ القرويون فوق أسطح منازلهم حاملين بنادق لحماية عائلاتهم من الهجمات التي تشنها جماعات تنظيم الدولة ليلاً، ويغلب على السكان هناك الخوف".
إن الأمن من أولويات الأقليات في العراق قبل الحديث عن المصالحة. وفي مخيم قرب منطقة شاريا، وهي بلدة صغيرة يسكنها اليزيديون بمنطقة تابعة لأكراد العراق، قالت ليلى مراد، البالغة من العمر 36 سنة، إنها لن تعود أبداً إلى مدينة سنجار، المنطقة الجبلية التي تم طرد ما يقارب 200 ألف يزيدي منها من قِبل تنظيم الدولة سنة 2014.
لقد عانت ليلى صدمة بعد هروبها من هناك، وأمضت 3 أشهر مستلقية على حصيرة دون حراك؛ ومن ثم دخلت في حالة نهم شديدة وقلق وأرق. لقد ألقى تنظيم الدولة القبض على 25 شخصاً من أفراد عائلتها، في حين بقي 6 آخرون بعداد المفقودين.
وأضافت مراد: "حتى لو عادت أسرتي، لن أعود إلى هناك. ما زلت أتذكر كل شيء. وسوف أتخيل ما حدث".
تلعب منظمات على غرار Yazda، وهي منظمة غير ربحية تقدم الإعانة للأقليات اليزيدية وتعمل على جمع دراسات تفصيلية لحالات فردية من ضحايا الاغتصاب والأسْر والقتل، دوراً رئيسياً في الجهود المبذولة لمساعدة هذه الأقلية على العودة إلى ديارها.
وقد أخبرني مدير منظمة Yazda، مراد إسماعيل، بأن "الناس يجب أن يثقوا بقدرتهم على العودة إلى ديارهم"، مشيراً إلى أن "عدم ضمان اليزيديين حقوقهم ضد مقاتلي تنظيم الدولة جعلهم يشعرون بأنهم دون قيمة وغير محميِّين".
حسب ما أفاد به مراد إسماعيل، لا يمكن اعتبار الأحكام المستعجلة التي تُطبق بمحاكم مكافحة الإرهاب الخاصة في بغداد ضد أعضاء مزعومين من تنظيم داعش الذي يدمر الموصل ، وعائلاتهم وأحكام الإعدام الصادرة في دقائق– أحكاماً عادلة. وأضاف إسماعيل: "أريد أن أعرف ما الذي حدث لمجتمعي، لماذا يَعتبر تنظيم الدولة اليزيديين كفاراً؟! أريدهم أن يتعمّقوا في دراسة جذور هذه المشكلة".
خاصة أن هناك ملفات عالقة مثل الأقليات لا تملك الحكومة السياسة الفعالة فيه
لكن من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة في بغداد مجهزة للقيام بهذا النوع من "الاستبطان".
في هذا الإطار، أشار المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بقضايا الأقليات إلى أن الحكومة العراقية لا تملك السياسة الفعالة أو الأطر المؤسسية اللازمة للدفاع عن حقوق الأقليات.
وكشف المبعوث أن هناك مجموعة من الأقليات المستضعفة كانت بالفعل تعاني التمييز والاضطهاد والتشرد في خضم الفوضى التي مر بها العراق في الفترة التي سبقت فترة دخول تنظيم الدولة للبلاد.
وبحسب الإحصائيات التي قامت بها وزارة الهجرة والمهجَّرين العراقية، كان قد غادر نحو نصف السكان من الأقليات في العراق خلال الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2008؛ بسبب العنف المستهدف، وضمنه القتل والاختطاف والتعذيب والاغتصاب والترهيب، بالإضافة إلى تدمير منازلهم ودور العبادة الخاصة بهم.
من الناحية القانونية، يحتوي دستور عام 2005 على بعض البنود التي تضمن الحرية الدينية والتمثيل السياسي للأقليات.
لكن ذلك لم يكن ناجعاً مع دخول تنظيم الدولة للبلاد، خاصة بعدما قام بعمليات اختطاف وارتكب مجازر في حق التركمان والمسيحيين واليزيدين والشبك وغيرهم.
وتظل الحكومة العراقية والسلطات الكردية والمجتمع الدولي عاجزين عن ضمان حماية الأقليات، مع انتشار الفوضى ما يقلل فرص عودتهم للعراق.
من جهة أخرى، اعتقلت الحكومة العراقية أكثر من 19 ألف شخص بتهم متعلقة بالإرهاب، ومعظم هذه القضايا ذات صلة بتنظيم الدولة في إطار تطبيق العدالة الانتقالية.
وفي الإطار نفسه، كشفت دراسة حديثة من الأمم المتحدة أنه تمت إدانة ما لا يقل عن 8861 متهماً منذ عام 2013، وصدرت أحكام بالإعدام على ما لا يقل عن 3130 من المدانين بتهم تتعلق بالإرهاب.
في سياق متصل، بيَّنت الدراسة أن النظام القضائي العراقي قد فشل في التمييز بين المستويات المختلفة للمشاركين في التنظيم. فغالباً ما يتم التعامل مع مقاتل في داعش بالطريقة نفسها التي يتم بها التعامل مع زوجات المقاتلين.
كما تعتمد الحكومة في كثير من الأحيان على مخبرين مجهولين، وتتمّ إدانة الأشخاص استناداً إلى أدلة غير كافية.
وأفادت الدراسة بأن هذا النوع من النظام العقابي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، ينشر الفوضى ويخلق مظالم جديدة من شأنها أن تشعل مزيداً من التطرف والعنف، وهو ما قد يشكل خطراً على أمن البلاد.
قد يكون مصير العراق في أيدي بُناة السلام الذين يعملون على حل المشاكل الطائفية. وفي نهاية المطاف، قال محمد، القاطن في محافظة كركوك، إنه كسب الطفل، البالغ من العمر 7 سنوات، بأخذه لزيارة عائلته ونقله إلى برامج تُعنى بالأطفال حتى توقَّف عن ترديد الخطابات المتطرفة.
كان الشباب الذين ينتمون إلى الطائفة السُّنية والذين كانت لديهم شكوك في المنظمات غير الحكومية قادرين أيضاً على التغيير.
وقال محمد إنهم يحتاجون فقط للعمل والتعليم والمساعدة المالية والأمل.
وقد التقى محمد طفلاً يبلغ من العمر 13 عاماً، وهو ابن لمقاتل بتنظيم الدولة، وكان قد تعرض للمضايقات في المخيم؛ ما أدى إلى إقدامه على محاولة إنهاء حياته، فقام محمد بتوجيهه وإقناعه بالانضمام إلى برنامج موسيقي حتى نجح في ذلك، وعاد الطفل إلى المدرسة وبدأ يفكر في المستقبل.
وعن هذا الموضوع، قال محمد: "حتى لو حاولت عائلتان من أصل 10 أُسر قتلي، فأنا بذلك أكون قد أسهمت في مساعدة العائلات الثماني المتبقية".
وأضاف محمد قائلاً: "أشعر بأن هذا العمل رائع. لا يمكنك وصف شعورك عندما تسهم في إنقاذ حياة شخص واحد".