دولة غائبة وأمراء حاضرون.. كيف تتعاظم سلطة العُرف والقبائل في مصر؟

القبائل والسلفيون وكبار العائلات يمثلون سلطة كبرى تملأ الفراغ الذي تركته الدولة

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/01 الساعة 13:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/01 الساعة 13:41 بتوقيت غرينتش
Bedouin tribesmen attend a tribal council tribunal, where Islamic Sharia laws, instead of tribal customary ones which were commonly used before, are used to resolve disputes between tribes, in Sheikh Zowyyed city, North Sinai, May 13, 2013. REUTERS/Asmaa Waguih (EGYPT - Tags: RELIGION POLITICS SOCIETY)

في استراحته بمدينة مطروح بدأ الشيخ عمر راجح، شيخ قبيلة أولاد موسى بواحة سيوة، حديثه معنا عن دور القبيلة وأهمية العرف قائلاً: "أحياناً تكون القبيلة أقوى من الدولة"، فبعيداً عن يد الحكومة العاجزة، حينما تقع النزاعات يلجأ الناس إلى التحكيم العرفي باعتباره الأسرع، مقارنة بالقضاء العادي، وباعتباره الأكفأ أحياناً.

يعقب الشيخ فتحي الكيلاني، شيخ قبيلة الظناين بالواحة: "النزاعات التي ينظر القضاء فيها لسنين قبل الحكم فيها، في مجلس الشيخ عمر تحل في ساعة واحدة".

نتتبع في هذا التقرير قصة التحكيم العرفي وكيف يفسر نفوذ المحكمين الهيمنة التي يمارسونها داخل مجتمعاتهم؟ محاولين أن تسهم تجربتنا الميدانية في فهم أعمق لمشاكل الأطراف في مصر (الصعيد ومطروح والواحات وسيناء).

سلطة واسعة وحضور الدولة كالغياب أو أسوأ

هناك ثلاثة مستويات للمشتغلين بالتحكيم العرفي: أولها المُصلح وهو من يهدئ الطرفين حتى لا يتطور الأمر، وهناك الأجاويد وهم الذين يحكمون في النزاعات البسيطة، وثالثها المُحكّم وهو من يتولى التحكيم في القضايا المعقدة أو التي يكون أطرافها من كبار القبائل أو العائلات. والبعض يطلق على أهم المحكمين وأكثرهم نفوذاً اسم الأمراء تمييزاً لهم عن المحكمين ذوي النفوذ الأقل.

السيد أحمد بن مصطفى الإدريسي، أحد أهم الأمراء بطول خط الصعيد؛ حتى من قبل أن يأتي الإدريسي لحل نزاع ما، يتحدث الناس متمنين "ما في غير الإدريسي يحل المشكلة"، وهو ما سمعناه في أزمة أبناء قرية دابود مع أبناء قبائل بني هلال بمدينة أسوان.

أحداث العنف التي اندلعت في أسوان في 2014 شهدت حضورًا متأخرًا للدولة، بل وسلبي بحسب الأهالي
أحداث العنف التي اندلعت في أسوان في 2014 شهدت حضورًا متأخرًا للدولة، بل وسلبي بحسب الأهالي

يرأس السيد الإدريسي رابطة الأدارسة بالعالم الإسلامي، وهو شيخ الطريقة الإدريسية بمصر التي يتبعها الآلاف. أما بعيداً عن النفوذ الروحي للرجل فهو يسيطر على سدس تجارة الجمال -نسبة تقديرية من مصادرنا- الواردة من السودان، والتي يتولى عملية جمعها وشحنها من السودان أبناء الطريقة الإدريسية هناك.

للأدارسة ساحة بمدينة دراو، مقر العائلة، لا تغلق أبوابها على مدار اليوم تقدم الطعام والشراب للزوار والمريدين، لا يوجد إحصاء دقيق للتكلفة اليومية للساحة لكنها تقدر بعشرات الآلاف من الجنيهات يومياً.

لا تروج العائلة للحديث عن امتلاكها السلاح وفرض العنف، على الرغم من أن اثنين في الصعيد، خاصة في محافظة أسوان، لا يتجادلان على مقدرة العائلة على فرض العنف لحماية مصالحها وحشد آلاف المريدين لذلك إذا لزم الأمر.

ظهرت سلطة الأدارسة في أحداث العنف التي شهدتها مدينة أسوان نيسان/أبريل عام 2014 بين بعض العائلات من أبناء بني هلال وعائلات من قبيلة الدابودية والتي أفضت إلى مقتل 28 شخصاً من الطرفين.

توسط للصلح شيخ الأزهر أحمد الطيب وعاونه على إتمام الصلح السيد الإدريسي وتكفلا بدفع الدية الشرعية لأبناء بني هلال، لاحقاً تدخلت الدولة وقبضت على عشرات من أبناء القبيلتين، وصدر قرار غير نهائي بإعدام 25 منهم.

في سيناء ينفصل المحكمون عن الدولة تمامًا على العكس من نظرائهم في الصعيد وغرب مصر
في سيناء ينفصل المحكمون عن الدولة تمامًا على العكس من نظرائهم في الصعيد وغرب مصر

وعلى الرغم من تدخل الدولة، يُجمع الطرفان من القبيلة أن أغلب المقبوض عليهم ليس لهم دخل في أحداث العنف حتى أن بعض المقبوض عليهم كان ممن يسعى في التهدئة والصلح وهو الحاج آدم عابدين من كبار قرية دابود الذي تم القبض عليه عقب خروجه من اجتماع مع لجنة الوساطة والصلح بمبنى محافظة أسوان! وهو ما فسره بعض أبناء القرية بتصارع أجهزة الدولة (المخابرات الحربية/ الأمن الوطني) ومحاولة كل جهاز دعم حلفائه وإضعاف خصومه.

وشمالاً إلى مدينة قنا حيث مقر العائلة الدندراوية ورئيسها الأسبق هو الأمير الفضل بن العباس الدندراوي. في حياة الرجل امتد نفوذه حتى السودان، والتي كان يعامله فيها مريدوه معاملة الأنبياء! كان أهالي المنطقة يتحدثون عن أن لكلامه ظاهراً وباطناً ومعاني خفية. أما بعيداً عن السودان فتحرص العائلة في احتفالاتها على دعوة مريديها من دول الجنوب الإفريقي وجنوب شرق آسيا.

عمل الأمير الفضل رئيساً لمؤسسة تنمية الخدمات البترولية بلبنان، بحسب ما جاء في إعلان نعيه بجريدة الأهرام، ويدعي أتباعه أن الرئيس السادات أعطاه حق الانتفاع بأرض الظهير الصحراوي لمدينة قنا حتى ساحل البحر الأحمر!

وتحتفل العائلة الدندراوية بمولد الأمير الفضل في شهر ربيع من كل عام هجري وتبلغ تكلفة الاحتفالات قرابة 10 ملايين جنيه؛ بحسب د. هاني رسلان، رئيس تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي.

أمراء القبيلة والدولة.. مساحة للتعاون

بمنطق إذا لم تستطع القضاء على خصمك فنافقه! تتعامل أجهزة الدولة المصرية ممثلة في المخابرات الحربية وجهاز الأمن الوطني مع أمراء العائلات والقبائل.

وبحسب د. أمل حمادة، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، فإن القبيلة هي من اخترقت الدولة ول العكس! لم تدخل القبيلة في عداءٍ جذري مع الدولة، بخلاف القبائل في المملكة المغربية مثلاً، التي تحظر على أبنائها الاحتكام لقضاء الدولة بتاتاً، بل استفاد كل طرف من الآخر.

ويرى الباحث (أ. ع)، الذي رفض ذكر اسمه لطبيعة عمله البحثي، أن السيد الإدريسي نموذج مثالي للموازنة بين التماهي الشديد مع أجهزة الدولة الذي يصل ببعض الأجاويد وصغار المحكمين أن يأخذوا أوامر بالتحركات من جهاز الأمن الوطني ويصبحوا مصادر معلومات لصالح الجهاز، وبين اعتزال الدولة الذي يمارسه بعض المحكّمين في سيناء والصحراء الغربية.

وسلطات عابرة للحدود أيضاً

شبكة الاتصال لدى الأمراء تتنوع بداية من المجالس المحلية وديوان المحافظة إلى قيادات المناطق العسكري والمخابرات الحربية. لا يتعامل الإدريسي وكذلك كل الأمراء مع جهاز الأمن الوطني وإنما مباشرة مع جهاز المخابرات الحربية. وبالنسبة للإدريسي فقد نسّق مع المخابرات الحربية للسفر إلى السودان -بطلب من البشير- للتحكيم بين ميليشيات الجنجويد "العربية" والمزارعين الأفارقة في أزمة دارفور.

إضافة إلى ذلك فمجلس القبائل العربية الذي يضم ممثلين عن كل القبائل العربية بمصر وأحد أهم مهامه هي التحكيم العرفي؛ فإنه وبحسب مصدر مقرّب من المجلس؛ لا تنسق المخابرات مع المجلس وحسب بل هي من أسسه من البداية. وهو ما أكده محمد عزمي، الرئيس الأسبق للاتحاد النوبي بأسوان، في حديثنا معه عن علاقة مجلس القبائل بالحقوق النوبية وكيف يتحدث عنها.

سلطة القبيلة تصل لحل خلافات بعيدة عن حدود مصر
سلطة القبيلة تصل لحل خلافات بعيدة عن حدود مصر

لا يكون التنسيق داخلياً فقط فمع امتداد القبائل يمتد نفوذ الأمراء خارج حدود مصر، يذكر لنا الشيخ عتمان بوزعالة، محكّم قبيلة أولاد علي من سرت الليبية حتى الإسكندرية، أن مرات تحكيمه في ليبيا لا تقارن كثرة بالمرات التي حكم فيها في صعيد مصر.

السلفيون.. لقد أتينا بالشريعة

بحسب بوزعالة فإن منافسة السلفيين للتحكيم العرفي بدئت مع التسعينات يكمل بوزعالة: "حضر الناس مجالس السلفيين في البداية عندما قالوا نحن سنحكم بينكم بشريعة الله وليس بالعرف لأنه يخالف أمر الله"، إضافةً إلى أن صغار السلفيين فضلاً عن كبارهم لا يقبلون الرِّزقة وهى المال الذي يدفع للمحكم كأتعاب. يضيف بوزعالة أن السلفيين لجأوا في النهاية إلى التحكيم بالعرف واعتباره، واعتمدوا على (دربة أولاد علي) وهي بمثابة الدستور للتحكيم العرفي في شرقي ليبيا وغربي مصر.

حتى الإسكندرية!

سلطة السلفيين تجاوزت ووصلت إلى الإسكندرية، ففي فبراير/شباط 2012، تجمع شباب من قرية النهضة بحي العامرية في الإسكندرية، وأشعلوا النيران في بيوت ومحال المسيحيين بعد انتشار تسجيل إباحي لاثنين من أبناء القرية.

تم التحكيم في هذه الواقعة بواسطة مشايخ من الدعوة السلفية أبرزهم شريف الهواري وأحمد الشريف نائب مجلس الشعب عن دائرة العامرية وبرج العرب، الذي أوضح في مقابلته معنا أن حزب النور وكبار العائلات في العامرية تكفلوا بدفع قيمة الخسائر التي تعرض لها المسيحيون على أن يتم تهجير أسرة الشاب الذي ظهر في التسجيل الإباحي.

تتم الاستعانة بمشايخ السلفيين في تقدير المقادير الشرعية من
تتم الاستعانة بمشايخ السلفيين في تقدير المقادير الشرعية من "دية" وتوزيع التركات

لا يختلف وضع السلفيين كثيراً في واحة سيوة، يوضح الشيخ عمر راجح أنه لا يوجد تنافس حقيقي الآن بين مشايخ القبائل وبين السلفيين، مضيفاً أنه يستعين بمشايخ السلفيين في تقدير المقادير الشرعية من "دية" وتوزيع التركات وهم أيضاً يرتضون حكمه فيما يتعلق بالعرف.

يُتهم التحكيم العرفي من قبل منظمات المجتمع المدني بأنه منحاز دائماً ضد المسيحيين؛ ففي تقرير أعدته المبادرة المصرية خلصت فيه إلى أن أحكام التهجير لا تطبق إلا على المسيحيين وبالرجوع لدربة أولاد علي فإن حكم التهجير أو (دربة النزالة) موجودة ومعمول بها على المسلم والمسيحي  من عائلة القاتل. والسؤال هنا: لماذا يحكم بالتهجير على العائلات المسيحية في قضايا هم المتضررون فيها، سواء بسقوط قتلى أو اعتداءات وحرق ممتلكات؟!

والسبب بحسب دراسة أعدها مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية هو غياب مفهوم العدالة لدى التحكيم العرفي، وهو ما أكده بوزعالة بقوله: "أصل العدالة نسبية"! وفي السياق ذاته يحتج الشيخ تقادم الليثي النقشبندي، محكم بجنوب الصعيد، بالآية الكريمة: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات).

لا يسعى التحكيم العرفي لتطبيق العدالة بقدر ما يسعى لخلق مواءمات اجتماعية ليحافظ على تراتبية العائلات والقبائل؛ ففي قضايا السبّ والقذف يختلف حق الفرد بحسب قوة قبيلته وضعفها؛ فبحسب أكثر المحكمين (القبيلة الصغيرة بالتأكيد لا تُفدَى بمثل ما تفدى به القبيلة الكبيرة).

علامات:
تحميل المزيد