يتنافس ساسة العراق على تشكيل الحكومة المقبلة، يشير كل من هذا الفيديو والأداء الانتخابي القوي لتحالف الفتح إلى واحدٍ من الأسئلة الأكثر استقطاباً: هل سيكون لقوة الحشد الشعبي، البالغة 120 ألفاً، دور بنَّاء أم مزعزع للاستقرار في عصر ما بعد "داعش"؟ حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
الفيديو يُظهر رجال ميليشيات في شاحنةٍ صغيرة مزوَّدين بالأسلحة يخوضون صحراء غربي العراق سريعاً، لم يكونوا هذه المرة يبحثون عن معركة يُظهرون فيها شجاعتهم، وإنما كانوا في مهمة لهم بمدينة القائم، وهي بلدة حدودية كانت من بين آخر المعاقل التي تحررت من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). يظهر أعضاء وحدات الحشد الشعبي شبه العسكرية وهم يصعدون تلاً صخرياً في البلدة، بعضهم يلوحون ببنادق M16 أميركية الصنع، وآخرون ببنادق الكلاشينكوف.
تعليق صوتي في الفيديو يتحدث عن "شجاعة" الحشد الشعبي و"الحرب الضروس" التي خاضها مع "داعش" في العراق.
لكن هذه المرة لم يكن الرجال الذين صقلتهم الحرب يبحثون عن معركة. وكان الفيديو، عوضاً عن ذلك، يتباهى بدورهم في إعادة بناء مستشفى محلي بعد طرد الجهاديين من القائم في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قبل شهرٍ واحد فقط من إعلان العراق النصر على "داعش".
نُشِر الفيديو على موقع الحشد الشعبي قبل أيامٍ من احتلال التحالف السياسي المُكوَّن حديثاً للحشد -تحالف الفتح- المرتبة الثانية بالانتخابات البرلمانية العراقية في مايو/أيار 2018.
وكيل قوي لإيران وقوة تخريبية على الأرض
بالنسبة للأنصار، فإنَّ مقاتلي الحشد الشعبي هم المنقذون الذين دافعوا عن بلدهم في أحلك الساعات حين سيطر "داعش" على ثلث البلد تقريباً، ويقول مسؤولون إنَّ نحو 8 آلاف من أعضائه لقوا مصرعهم في المعركة التي استمرت 3 سنوات.
لكن بالنسبة للمنتقدين، أصبح الحشد الشعبي وكيلاً قوياً لإيران وربما قوة تخريبية في بلدٍ عانى العنف المروع على مدار الأعوام الـ15 الأخيرة، معظمه على أيدي الميليشيات التي استغلت ضعف الدولة لإذكاء التوترات الطائفية، بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 2003 لإطاحة صدام حسين.
ويخشى بعض المسؤولين العراقيين والغربيين من أنَّ المجموعات شبه العسكرية التي يهيمن عليها الشيعة قد تصبح قوة ظل، على غِرار الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله، الحركة اللبنانية التي تمتلك جناحين أحدهما سياسي والآخر عسكري.
يقول جنرالٌ عراقي: "إنَّه (الحشد) صنيعة إيرانية يقوده أشخاص يتبعون إيران: إيران لديها الحرس (الثوري)، والعراق لديه الحشد الشعبي".
أو.. شأن داخلي مثل الحرس الوطني في أميركا
ينزعج هادي العامري، وهو قائد شبه عسكري إلى جانب كونه سياسيّاً قاد الحشد الشعبي في المعركة، من تلك الإشارات.
ويقول العامري، الذي تخلّى عن زيّه المُموَّه ليرتدي بدلاتٍ وقورة: "لا نقبل هذا.. هذا هو الفهم الخاطئ. هذا (الحشد) يشبه تماماً وضعية الحرس الوطني في أميركا… إنَّه شأنٌ داخلي".
وتكمن الحقيقة في منطقةٍ ما بالمنتصف. فعكس الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، لا يُعَد الحشد الشعبي، الذي يضم عدة عشرات من الفصائل، حركة متجانسة.
ويقول محللون إنَّ أياً من واشنطن أو طهران لا ترغب في أن يصبح العراق مسرحاً للصراع.
ولكن الآن أصبح "الحشد" تحت المجهر الأميركي
وفي حين تتصاعد التوترات الإقليمية، ومع تكثيف الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية الضغط على إيران بعد قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، يجتذب الدور المستقبلي للحشد الشعبي مزيداً من التدقيق والتركيز.
إذ أرسلت بعض عناصر الميليشيات الأكثر موالاةً لإيران في الحشد الشعبي قوات إلى سوريا للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، وأصدروا تهديدات ضد المصالح الأميركية في العراق.
واتهم وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، طهران برعاية "مجموعات ميليشياوية شيعية وإرهابيين للتسلل إلى قوات الأمن العراقية وتقويضها وتعريض سيادة العراق للخطر".
وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد صنَّفت أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، في عام 2009، على قوائم العقوبات "لتهديده سلام واستقرار العراق وحكومة العراق"، وتُصنَّف ميليشيا كتائب حزب الله التي يتزعمها، منظمةً إرهابية. وقالت وزارة الخزانة إنَّه كان مستشاراً لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني. ومؤخراً في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وصفه متحدثٌ باسم الخارجية الأميركية بأنَّه "إرهابي".
كان شريكاً فعلياً لأميركا لسنوات ثم تهديدا لها
والأسبوع الماضي، حذَّر سليماني الولايات المتحدة من تهديد إيران، فقال وفقاً لوكالات الأنباء الإيرانية: "إنَّنا قريبون منكم، بشكلٍ أقرب حتى مما يمكن لكم أن تتخيلوه". كان ذلك تصريحاً بدا أنَّه يعني أنَّ إيران مستعدة لاستخدام قواتها ووكلائها خارج الجمهورية الإسلامية لقتال الولايات المتحدة.
لكن على مدى 3 سنوات، كانت الولايات المتحدة والحشد الشعبي، وبصفةٍ غير مباشرة إيران، شركاء في واقع الأمر بالعراق، وهدفهم المشترك كان هزيمة "داعش". لكن وفقاً لدبلوماسي غربي في بغداد، ما سيحدث تالياً للحشد الشعبي هو الأمر الذي عليه "علامة استفهام كبيرة".
وإذا اندلع الصراع هنا سيختار إيران ضد أميركا
يعتقد روبرت فورد، الذي اختُطِف فترة وجيزة من جانب ميليشيا شيعية عام 2003 في أول فترة من فتراته الثلاث بالعراق كدبلوماسي أميركي، أنَّ العامري سيُفضِّل ألّا ينحاز إلى أي طرفٍ فيما بين إيران والولايات المتحدة. لكن، إذا تصاعدت الأعمال العدائية بين الخصمين "بشدة"، فإنَّ ولاءه سيكون لطهران.
يقول فورد، وهو زميل بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن: "يدرك العامري وكل الشيعة العراقيين تقريباً أنَّ النفوذ الأميركي في المنطقة سيتضاءل عاجلاً أم آجلاً، لكن إيران ستبقى دوماً جارتهم".
بعضهم متطوعون والغالبية ميليشيات شيعية سابقة
وُلِدت ميليشيات الحشد الشعبي بعدما أصدر آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الأرفع بالعراق، دعوة لحمل السلاح في يونيو/حزيران 2014، بعد الانهيار المهين لقوات الأمن العراقية، التي أنفقت عليها الولايات المتحدة أكثر من 20 مليار دولار من التجهيزات، في وجه هجوم "داعش".
وفي حين شنَّ المتشددون هجوماً خاطفاً عبر شمال ووسط العراق، مُتقدِّمين باتجاه بغداد، اصطف الشبان خلف الشاحنات الصغيرة وخارج القواعد العسكرية من أجل نقلهم لجبهات القتال.
بعضهم كانوا متطوعين، والغالبية كانوا أعضاء في الميليشيات الشيعية، التي كانت لا تحظى باهتمام وتركيز كبيرين، مثل منظمة بدر التي يقودها العامري، والتي تشكَّلت بإيران في الثمانينيات لقتال نظام صدام حسين؛ وعصائب أهل الحق، وهي فرع منشق عن ميليشيا جيش المهدي التابع لرجل الدين مقتدى الصدر، هاجمت القوات الأميركية بعد إطاحة صدام؛ إلى جانب كتائب حزب الله.
والغريب أن السنة والطوائف الأخرى انضموا إليه وميزانيته أصبحت ضخمة
جذب الحشد الشعبي تدريجياً المقاتلين من الطوائف الأخرى، بما في ذلك السُّنَّة، والمسيحيون، والأيزيديون، ما منحه صورة أقل طائفية. ودعم الحشد الهجمات التي قادتها قوات الأمن العراقية، التي أُعيد بناؤها والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والذين هزموا الجهاديين في نهاية المطاف.
ومنذ ذلك الحين، قلَّصت القوات شبه العسكرية حضورها في شوارع بغداد. لكنَّ قادة الحشد الشعبي قاوموا مساعي رئيس الوزراء حيدر العبادي لإدماجهم داخل القوات المسلحة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، مرَّر البرلمان قانوناً يجعل الحشد الشعبي قوة مستقلة، لديها الآن ميزانيتها الخاصة البالغة 1.6 مليار دولار، وتخضع ظاهرياً لمكتب رئيس الوزراء بدلاً من وزارة الداخلية أو الدفاع.
رئيس الوزراء لا يعرف أعدادهم، وهذه لعبتهم في التعامل مع الدولة
مع ذلك، يقول أحد الساسة العراقيين إنَّ العبادي حين حاول الحصول على مراجعة مستقلة لأعداد قوات الحشد الشعبي، تصدى له قادة الحشد. واليوم، تحرس القوات شبه العسكرية المناطق المُحرَّرة من داعش، بما في ذلك الحدود الاستراتيجية مع سوريا حول بلدة القائم، وتقيم نقاط تفتيش في مختلف أنحاء البلاد.
يقول ريناد منصور، وهو محلل بمركز أبحاث معهد تشاثام هاوس أجرى أبحاثاً عن الحشد الشعبي، إنَّ العامري "يلعب لعبة الدولة حين تلائمه". ويضيف: "المرحلة النهائية للحشد الشعبي إمَّا السيطرة على الدولة وإما، في حال لم يتمكنوا من ذلك، أن يكونوا على الأقل جزءاً من الدولة".
ويتابع: "لكنَّ لديهم أيضاً خطة ب. فإذا ما قرَّرت الدولة يوماً ما أنَّها بحاجة لدمج الحشد الشعبي أو تسريحه، يمكنهم الحصول على سلطة أو نفوذ عبر منافسة الدولة اقتصادياً وسياسياً".
وتسريحهم ليس أمراً واقعياً.. إنه الخطر
يقول خبراء إنَّه من غير الواقعي أن نتوقع من عشرات الآلاف من الرجال المسلحين أن يحزموا أمتعتهم ببساطة ويعودوا لبيوتهم. في الواقع، إنَّ خطوة كتلك في بلدٍ يفيض بالأسلحة ومُصاب بتفشّي البطالة لن تؤدي إلا للمخاطرة بمفاقمة عدم الاستقرار.
ويشير العراقيون في هذا الصدد إلى الفوضى التي اندلعت بعد القرار الأميركي بتسريح قوات الأمن في 2003. إذ سمح الفراغ للميليشيات بالازدهار، بما في ذلك المجموعات الشيعية والسُّنّية المتنافسة، التي قاتلت قوات التحالف وخاضت معارك طائفية، ومقاتلو البيشمركة الموالون لمجموعتين سياسيتين رئيسيتين في إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتي.
يقول منصور: "تمثل المجموعات المسلحة المرتبطة بالأحزاب السياسية أو الأفراد مشكلةً في جميع أنحاء البلاد؛ وقد يكون الحشد الشعبي هو أكبر مثال على ذلك الآن. هذا جزءٌ من القضية الأكبر حول كيفية إنهاء احتكار استخدام العنف الشرعي في مختلف أنحاء العراق".
اتُّهِمت عناصر من الحشد الشعبي بارتكاب انتهاكات ضد السُّنَّة في الحرب مع داعش، وزعمت منظمة العفو الدولية العام الماضي، أنَّ القوات شبه العسكرية "أعدمت أو قتلت بطريقة غير شرعية، وعذَّبت، واختطفت آلاف الرجال والصبية".
وذكر التقرير أنَّ المعدات الأميركية التي زُوِّد بها الجيش العراقي، بما في ذلك مدرعات هامفي وناقلات الجند المدرعة M113 والأسلحة الصغيرة، كانت تُستخدَم من جانب الميليشيات.
وهم يسيطرون على منافذ التهريب
يقول بعض العراقيين والمحللين إنَّ مجموعات الحشد الشعبي توسع أيضاً مصالحها التجارية ويُزعَم أنَّها تنخرط في عمليات تهريب كالتي قام بها داعش من قبل، بدءاً من تهريب الأغنام إلى الحبوب والنفط. يقول محللٌ عراقي: "في المناطق التي كان داعش يسيطر عليها، أقامت مجموعات الحشد الشعبي نقاط تفتيش مأهولة حتى يضطر المهربون الذين ينقلون الأغراض عبر تركيا أو سوريا للمرور عبرهم". ويقول سياسي منافس: "كل مجموعة من هذه المجموعات هي أفراد عصابات منخرطين في نهب هذا البلد".
يُقدِّم موقع الحشد الشعبي رواية بديلة، إذ تسلط البيانات الضوء على عمل الحشد في تقديم المساعدات الطبية، ومصالحة القبائل، وترميم المساجد والطرق والجسور والمدارس في المناطق المحررة. ويتحدث قادة الحشد عن رغبتهم في إقامة "جامعة للشهداء".
حتى إنهم يحاولون الدخول للمجال الأكاديمي
"محاولة الدخول إلى المجال الأكاديمي مثالٌ على الكيفية التي يريد بها الحشد الشعبي أن يكون له دور أيديولوجي في "تشكيل الطريقة التي يمضي بها العراق قدماً"، حسبما يقول ناثانيل رابكين، وهو محلل أمني.
ويقول إنَّ جزءاً من هذا يتمثَّل في كبح النفوذ الغربي. ويضيف: "إنَّهم أذكياء كفاية ليدركوا أنَّه سيكون من الخطأ أن يجعلوه (الحشد) كالحرس الثوري بالضبط.
لكنَّك تشاهد مقابلات العامري وهو يتحدث عن كيف أنَّ الحشد الشعبي جيشٌ أيديولوجي، وأنَّ العراق في حربٍ أيديولوجية… أصبح واضحاً أنَّه ينظر إلى هذا المشروع باعتباره مُتعلِّقاً بشيءٍ أكبر وأطول أجلاً بكثير".
والأمر متوقف على كيفية تشكيل الحكومة وموقف الصدر خصوصاً
الكثير من الأمور ستعتمد على أين سيكون مكمن القوة في الحكومة الجديدة. إذ دعا مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي الذي يقود تحالفه السياسي "سائرون" لمباحثات لتشكيل ائتلاف بعد الفوز بالحصة الأكبر من الأصوات، في انتخابات مايو/أيار الماضي، سابقاً، لحل الحشد الشعبي.
وانتقد النفوذ الإيراني، لكنَّه يمتلك ميليشياته الخاصة هو أيضاً، جيش المهدي. انسحب جيش المهدي من الشوارع بعد حملة من جانب القوات العراقية وقوات التحالف في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، وتغيَّر منذ ذلك الحين اسمه إلى "سرايا السلام".
وقال الصدر والعامري، الشهر الماضي، إنَّ كتلتيهما ستنشآن "تحالفاً وطنياً" لقيادة المباحثات بشأن تشكيل الحكومة.
ويبدو أن الحشد سيصبح خليطاً من حزب الله والحرس الثوري
يقول كريم النوري، وهو سياسي بتحالف الفتح، فيما صوره وهو يرتدي الزي العسكري على خطوط جبهة المعارك ضد داعش مُعلَّقة خارج مكتبه: "بعض قادة الحشد الشعبي يصبحون سياسيين، لكنَّهم يخدمون العراق لحماية الدولة. سندخل البرلمان بلباسٍ مدني وليس بالزي العسكري".
ويقول محلل عراقي آخر، إنَّ مكتسبات الحشد الشعبي إذا لم تتعرَّض للتهديد، فإنَّه قد يصبح "قوة جيدة". ويضيف: "لكن سيكون لهم الكثير من المطالب، وسيضعون أنوفهم في كل شيء، تماماً كما يفعل الحرس الثوري الإيراني. الضغط الأهم الذي خلقته إيران بعد حزب الله اللبناني الشيعي هو الحشد الشعبي".
يرفض العامري، وهو رجل ستيني ممتلئ الجسم، كل ذلك. ويقول: "تخلصوا من عقدة إيران لديكم. اذهبوا وحلوا الحرس الوطني في أميركا والسعودية وارجعوا إليّ. إذا حللتم البيشمركة فسنحل الحشد الشعبي، لكنكم تقبلون البيشمركة وتحتفون بهم. هذه ازدواجية في المعايير".
اقرأ أيضاً