«أين أبوكَ اللعين؟».. عن طالب عربي انتقل في الثمانينيات إلى أميركا للدراسة ليصبح مسلماً شهيراً تحت أنظار أجهزة المخابرات

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/28 الساعة 21:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/29 الساعة 14:57 بتوقيت غرينتش

كان صوت الرجل صاحب الرسالة المسجلة على جهاز الرد الآلي، بهاتف عبد العظيم الصِّدِّيق، هادئاً ومتزناً. لكن الرسالة التي تركها تُجمد الدماء في العروق. قال الصوت: "سنقتلك، وسنقطع رقبتك. لدينا رجالٌ في شيكاغو ولدينا رجالٌ بكل مكان، وفي منزلك". قال الصوت إنَّه يتحدث نيابة عن "الدولة"، الاسم المختصر الذي يستخدمه رجال الجماعة المسماة "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو المعروفة أكثر في الغرب باسم "داعش"، وفق تقرير موقع The Intercept.

تجمَّد جسد الصدّيق في أثناء استماعه للرسالة. نشط عقله نشاطاً محموماً وهو يحاول التعرف على الصوت الغريب. ومضى الرجل في رسالته الصوتية قائلاً: "كل من في مكتب التحقيقات الفيدرالي، بالاستخبارات المركزية الأميركية، وفي المخابرات الداخلية البريطانية (إم آي 5).. هذه المنظمات التجسسية التي تحارب الإسلام، سنعثر عليهم ونقتلهم". وقبل أن يُنهي رسالته، قال: "إن لم تتُب، فالموت مصيرك".

وصل هذا التهديد إلى هاتف عبد العظيم الصدِّيق الخلوي في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2015. وبدأ محنة من الخوف والنزوح استمرت إلى يومنا هذا. بدأ الصدِّيق بالتواصل مع المكتب المحلي التابع لمكتب المخابرات الفيدرالي. لكنه لم يجد شيئاً من المساعدة التي انتظرها من جهازٍ يكرس جهوده ظاهرياً لمحاربة الإرهاب. نصحه المكتب بأن ينتقل من منزله الذي عاش فيه 22 عاماً، والابتعاد عن الأنظار. يقول الصدِّيق: "قالوا لي: (ينبغي أن تتوخى الحذر). لم يقدموا أي مساعدة أو دعم. فقط نصحوني بالانتقال والتواصل معهم بين الحين والآخر لأعلمهم بما أفعل". منذ ذلك الحين، وقع الصدِّيق البالغ من العمر 61 عاماً، وزوجته في وضعٍ برزخي، يتنقلون بين منازل أبنائهما بأرجاء الولايات المتحدة.

لم يكن رد مكتب التحقيقات الفيدرالي بالاستهزاء أولى تجارب الصدِّيق مع الجهاز؛ بل الموقف الأخير في تجربة دامت عشرات الأعوام من المضايقات والتعامل معه باحتقار من الحكومة الأميركية، التي قلبت حياة الصدِّيق رأساً على عقب. كان الصدِّيق في السابق عضواً بارزاً بالمجتمع الإسلامي الأميركي، ومنخرطاً في الجهود التعليمية والعمل المشترك بين الأديان وتنظيم الأعمال الخيرية. لكنه وجد نفسه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مستهدَفاً من الأجهزة الأمنية، بصفته مجرماً محتملاً. دمرت المحنة القانونية أعماله وظلت تطارده هو وعائلته حتى اليوم.

 شارك في تنظيم المجتمع بعد 11 سبتمبر

قصة حياة الصدِّيق، من أوجه عديدة، نموذجٌ مصغرٌ لما عاشته الأجيال الأولى من المسلمين الأميركيين المشتركين في عملية تنظيم المجتمع بعد 11 سبتمبر/أيلول، وفق موقع The Intercept. جاء الصدِّيق من طبقة من المهاجرين المسلمين المتعلمين الواثقين سياسياً، الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة في الثمانينيات، وهو ابن جيلٍ من المسلمين الأميركيين الذين وقعوا في مرمى نيران الحرب الداخلية لإدارة الرئيس الأسبق جورج بوش على الإرهاب عقب الهجمات. وقُمِعت حيواتهم العامة تحت مظلة الرقابة المتعنتة؛ بل والمضايقات.

عبد العظيم الصدِّيق مهاجر من السودان، حصل على الجنسية الأميركية، وانتقل إلى الولايات المتحدة في الثمانينيات لاستكمال دراسته الجامعية. وبعد تخرجه وحصوله على شهادة ما بعد الدكتوراه، بزغ نجمه ليصبح قائداً للمجتمع المحلي المسلم، في فيلادلفيا ثم بشيكاغو. شارك الصدِّيق في إدارة الجمعيات الخيرية وإلقاء المحاضرات، ومارس أعمالاً مشتركة بين الأديان مع قياديين مسيحيين ويهود. الصدِّيق رجل لطيف المَعشر، قامته قصيرة، ببشرة مائلة إلى الحمرة ولحية مشذبة. أحب الكثير من أبناء مجتمع المسلمين المهاجرين الصدِّيقَ؛ لطيب مَعشره، ورأوا فيه إمكانية أن يكون موجِّهاً ومرشداً، خاصة للشباب.

تقول صفا سلامة، التي التقت الصديق للمرة الأولى بعد محاضرة ألقاها في مؤتمر للمسلمين الأميركيين قبل أكثر من عقد: "عرفت أمي بالصدِّيق، بفضل سمعته في تقديم المساعدة والمشورة لكثير من العائلات التي تواجه مشاكل فيبتربية الأبناء المراهقين. حضرت بعض محاضراته، وأعجبت للغاية في أول مرة أتحدث معه شخصياً بعقليته ودعمه الكبير لحقوق المرأة. لم تكن عقليته بطريركية. وعلى مدار الأعوام، كلما احتجت المشورة في تعليمي أو أمور عائلتي، كان متاحاً دوماً. لقد كان بكل تأكيدٍ، ملاذ كثيرين من أبناء مجتمعنا".

عن أوّل لقاءاته بمكتب التحقيقات الفيدرالي

وضعته سمعته المتنامية في أوساط المسلمين على رادار أجهزة الأمن، التي كانت مهتمة منذ أمدٍ طويل بمراقبة الأميركيين المسلمين، حتى قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. كان الموقف الأول للصدِّيق مع مكتب التحقيقات الفيدرالية في منتصف التسعينيات، حين كان يعمل إمام مسجدٍ بفيلادلفيا. ولم يكن هناك ما يدعو للشك في أنَّ العملاء، الذين أخبروه بأنَّهم ببساطة يريدون التحدث معه قليلاً، كانوا يراقبونه أو يجمعون معلومات استخباراتية عنه وعن المترددين عليه.

يقول الصدِّيق: "لقد أتوا عدة مرات لطرح الأسئلة، وتصرفوا بحذر شديد. أخبَروني بأنني قائد في مجتمعي وأنَّهم يرغبون في طلب المشورة. لو كنت أعلم في ذلك الوقت أنَّهم يوثقون كل اجتماع وكل كلمة تُقال كجزءٍ من عملية (جمع المعلومات الاستخباراتية)، لامتنعت عن لقائهم نهائياً. في اللحظة التي تدخل فيها تحت المراقبة، ينتهي الأمر".

مداهمة مؤسسات يعمل بها

في الأعوام التي تلت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، تعرضت أعمال الصدِّيق لتدقيقٍ أشد. واهتمت السلطات خصيصاً بمؤسسة خيرية لها أنشطة إغاثية في أفريقيا، حيث كان الصدِّيق يعمل. في عام 2004، داهمت السلطات مقر مؤسسة الإغاثة الإسلامية الأميركية وأوقفت نشاطها، كجزءٍ من حملة شنتها إدارة بوش لأعوامٍ على المنظمات الخيرية الإسلامية الأميركية. وقد اتهم مسؤولون بإدارة أوباما الكثير من الجمعيات بأنَّها على صلة بالجماعات الفلسطينية المسلحة أو المنظمات الإرهابية العالمية.

بالنسبة للصدِّيق، آذنت مداهمة مؤسسة الإغاثة بأعوامٍ من زيارات مكتب التحقيقات الفيدرالي، والمضايقات في المطارات، والخضوع للمراقبة. وأفضى التحقيق الفيدرالي إلى دزينة من الاتهامات الموجهة للصدِّيق وآخرين في 2007، تتعلق بأعمالهم الخيرية. وزعمت الحكومة في أحد ادعاءاتها أنَّ المؤسسة الخيرية الموقوفة كانت على صلة بجماعات إرهابية وأرسلت الأموال إلى العراق في التسعينيات منتهكةً العقوبات المفروضة على البلد آنذاك.

 صُدِم الصدِّيق حين وجد الأصفاد في يده والقضبان حوله، وهو الأكاديمي معسول اللسان الذي أدار عدداً من الأعمال التجارية الصغيرة وأسس حياة عائلية ناجحة في الولايات المتحدة. لكن، نظراً إلى البيئة السياسية بالبلد في تلك الفترة، حين كانت سحابة الشك تُحيط بالكثير من الجمعيات الخيرية الإسلامية الأميركية، كان الصدِّيق جاهزاً بقدر ما. يقول: "لقد اتُّهم كثيرون قبلي من أبناء المجتمع المسلم؛ لذا كنت مستعداً ذهنياً بطريقةٍ ما لما ستفعله الحكومة بنا وبمنظمتنا. الصدمة أو خيبة الأمل التي أصابتني لم تكونا شيئاً بالمقارنة لما مر به أغلب القادة المسلمين بأميركا في ذلك الوقت".

في 2010، بعد أعوامٍ من بقائه قيد الإقامة الجبرية وارتداء سوار كاحل لتحديد مكان وجوده وتقييده، قَبِل الصدِّيق بصفقةٍ يَعترف بموجبها بممارسة نشاط جماعات الضغط دون التسجيل بالسجل المخصص لتلك الجماعات -على خلفية مجهوداتٍ بذلها لرفع اسم مؤسسة الإغاثة الأميركية الإسلامية من قائمة الإرهاب الخاصة باللجنة المالية بمجلس الشيوخ- أملاً في العودة إلى حياته الطبيعية. وحُكِم عليه في 2012 بالسجن عامين مع وقف التنفيذ ووضعه تحت المراقبة.

عاد الصدِّيق إلى العمل المدني والتدريس؛ ظناً منه أنَّ متاعبه مع أجهزة الأمن الأميركية قد انتهت أخيراً، وأسهم في إدارة مجموعة للتعليم والحوار بين الأديان بمنطقة شيكاغو تحمل اسم "جسور-Bridges". وشجعه على هذا أنَّ مضايقات مكتب التحقيقات الفيدرالي توقفت. وبعد مكالمة الهاتف التي وردته في عام 2016، من الرجل الذي يزعم انتماءه إلى تنظيم داعش، الذي هدده بالأخص لمشاركته في برنامج الحوار بين الأديان- عاد مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى إبداء الاهتمام بالصدّيق وعائلته.

خاطبوا ابنه بعنف: أين أبوكِ اللعين؟

وقالت أمل، ابنة الصدِّيق، إنَّ عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، في الأشهر التي تلت مكالمة التهديد، جاءوا في زياراتٍ عدوانية مزعجة إلى منزل أخيها الذي يدرس الطب في شيكاغو، وكذلك إلى أفراد العائلة الآخرين. كان العملاء يسألون في هذه الزيارات عن مكان وجود الصدِّيق، مع أنَّ بيانات الاتصال به موجودة لديهم، ولدى محاميه كذلك. وفي إحدى هذه الزيارات العدوانية إلى منزل ابن الصدِّيق، يُزعم أنَّ العملاء صرخوا في وجهه بالبذاءات، قائلين: "أين أبوك اللعين؟" بعد إيقاظه من النوم في شقته.

يقول مايكل دويتش، محامي الحقوق المدنية الذي وكَّله الصدِّيق في الأعوام التالية لاعتقاله، إنَّ حملة المضايقات الظاهرة التي شنتها الحكومة على مدار عقود لا يمكن تفسيرها إلا في سياق الأعمال التنظيمية التي شارك فيها الصدِّيق نيابة عن المجتمعات الإسلامية والإفريقية في الولايات المتحدة. ومَثَّل فشل مكتب التحقيقات الفيدرالي في التحقيق بالتهديد الموجه إليه كما ينبغي، إضافةً إلى قرار المكتب لاحقاً الاستمرار في استهداف عائلته، إذلالاً بالغاً؛ إذ إنَّ  التدقيق الذي أجرته الحكومة لم يؤثر على حياة الصدِّيق فحسب؛ بل فشل أيضاً في تقديم أي أدلة على أنَّه يُمثل تهديداً للأمن القومي.

وتابع دويتش الحديث نيابة عن موكله، قائلاً: "الطريقة التي يعمل بها مكتب التحقيقات الفيدرالي تتمثل في صنع قوائم بالأشخاص الذين يزورهم المكتب ويتفحصهم بانتظام ويحاول انتزاع المعلومات منهم. نتيجة لذلك، استمر المكتب على مدار عقود في إهدار كل هذا الوقت وكل هذه الموارد في تتبع الصدِّيق، رغم افتقاره إلى أي دليل ملموس يبرر هذا".

وأضاف دويتش: "لا توجد أي راديكالية أو معاداة للولايات المتحدة في شخصيته أو في أي تصريح أدلى به. لكنه مسلم في الولايات المتحدة نشط في تنظيم أمور المسلمين الآخرين، كما أنَّه من أصلٍ إفريقي وناشط في التنظيم والأعمال الخيرية بإفريقيا، وكل هذا تراه أجهزة الأمن مثيراً للشكوك؛ لأنه لا يتقاضى راتبه منهم، تعتبره الحكومة مستقلاً، ومن ثمَّ تعتبره تهديداً بدرجة ما".

في الأعوام التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، تعرضت الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني الإسلامية الكبرى لهجمة منظَّمة من الحكومة الأميركية. شوهت الحكومة سمعة العديد من المنظمات وقادتها بتوجيه اتهاماتٍ بالإرهاب ليس لها أساس، استُخدِمت حينها في تبرير الإخضاع للمراقبة ومصادرة الممتلكات والاعتقالات وتحطيم العديد من المؤسسات.

ويشير تقرير صادر عن الاتحاد الأميركي للحريات المدنية في عام 2014 إلى أنَّه "برغم ضعف أغلب الأدلة التي استخدمتها إدارة بوش في استهداف الجمعيات الخيرية الإسلامية أو إدانتها بالجرائم أو مداهمة مقراتها، روجت الإدارة لتحركاتها ضد هذه الجمعيات على أنَّها نجاحات أمنية، وأدلت بمزاعم مُهيِّجة لا أساس لها أو مُبالغ فيها حول علاقة القطاع الخيري بتمويل الإرهاب". ويضيف التقرير أنَّ هذه السياسات ما تزال مستمرة. وقال إنَّ "الأثر الذي أحدثته هذه التحركات الحكومية هو خلق مناخ عام يخشى فيه الأميركي المسلم الملتزم بالقانون من التبرع للمنظمات الخيرية إقامةً لشرائع دينه".

حتى اليوم، لا يعرف الصدِّيق يقيناً مَن أرسل رسالة التهديد الصوتية إلى هاتفه، ولا سبب فشل مكتب التحقيقات الفيدرالي في تقديم أي مساعدة ذات قيمة حين لجأ إليهم. (رفض مكتب التحقيقات الفيدرالي التعليق على القصة).

لكن الواضح هو التالي: لقد ضاعف التهديد إرهاق الصديق والآثار السيئة الأخرى للتحقيقات التي خضع لها الصديق قبل رسالة التهديد وبعدها. أُجبِر هو وزوجته على حياة بلا استقرار منذ تلقيه الرسالة. وزيادةً على مضايقات مكتب التحقيقات الفيدرالي كل فترة، يجد الصديق نفسه محتجزاً في المطارات لفترات طويلة، أو ممنوعاً من استخدام الخدمات الحكومية الأساسية مثل تجديد جواز السفر. لقد كبلَّت أعوامٌ من المضايقات عائلته كلها بما تصفه ابنته بـ"الأغلال الخفية".

قال الصديق: "فكرة وجود الإنصاف في نظامنا القضائي الجنائي غير صحيحة بالمرة. لقد عانينا من التحيُزات والأحكام المسبقة، وتعرضنا للاستهداف من أعضاء بالأجهزة الأمنية لهم أجندتهم الخاصة. وهذه المضايقات تستمر جيلاً بعد جيل، وتنتقل الآن إلى أبنائنا".

ويُمكل: "هناك العديد من الناس يقبعون خلف القضبان مدى الحياة، وهم ليسوا مجرمين كما تظهرهم الحكومة. آمل أن يأتي يوم تتحقق فيه العدالة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقرأ أيضاً

تعمَّدت السفر معه وتعرف أهله والسلطات تبدأ التحقيق معها.. معلومات جديدة عن الشابة السويدية التي فشلت في منع ترحيل لاجئ أفغاني

أعقد عملية سطو في دبي لماسة زرقاء بـ20 مليون دولار.. السارق تجاوز 3 بوابات وفتح خزانة شديدة الحراسة والشرطة تنشر فيديو لضبط الجريمة

الأردن اتفق مع إسرائيل على ربط البحر الميت بـ"الأحمر" لكن الأخيرة تراجعت ..ودفعت عمّان للتحرك بمفردها

تحميل المزيد