لا يزال بكاءُ الصغار يتردَّدُ على مَسامعه كل مرة يتذكَّر فيها ليلته الأولى بمخفر الشرطة بمدينة تلمسان، مُمسكين بتلابيب أمهاتهم، يُنصِتون لاستِجْداء العشرات من النساء والأطفال والشيوخ المتوافدين تباعاً، متبوعاً بصُراخ رجال الشرطة وسبابهم. بعد 43 عاماً على ليلة تهجير وترحيل المغاربة من الأراضي الجزائرية، لا يزال ميلود الشاوش ، أحد ضحايا الطرد التعسفي من الجزائر ، يتحدث بغُصة ذارفاً الدموع على ما سمَّاه "مأساة" أصابته وعائلته، وهو لا يزال في عمر العاشرة.
في الجزائر .. جاءت المأساة على حين غِرَّة
يعود الشاوش المولود لأبوين مغربيين، بذاكرته إلى صبيحة يوم بارد من أيام شهر ديسمبر/كانون الأول 1975، أيام قليلة فقط تفصل الطفل، آنذاك، وأسرته عن الاحتفال بعيد الأضحى.
تنهد بعمق، ليبدأ في سرد حكايته لـ "عربي بوست" قائلاً، إنه كان داخل الفصل الدراسي حين حلَّ شرطيان بالزي المدني وبدآ في المناداة على اسمه وأسماء أطفال آخرين "تملكني الخوف حين تم اقتيادنا نحو المجهول، طارحاً عشرات الأسئلة، لكن ما من مُجيب".
تفاجأ الصغير حين وجدَ جميع أفراد أسرته داخل مخفر الشرطة المكتظ رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً، ما إن لمح والدته التي تحمل أخاه الرضيع ويحيط بها إخوته الأصغر حتى سألها بريبة: "ما الذي يحدث؟ لماذا نحن هنا؟".
جاء جواب الأم مختصراً وحاسماً: "سنعود إلى المغرب".
يقول ميلود تعقيباً على جواب والدته: "بالنسبة لي آنذاك المغرب بلد غريب عني، فبلادي هي الجزائر التي كبرت وترعرعت فيها!".
المغاربة المرحلون.. قلق وخوف ومصير مجهول
هكذا كانت أولى لحظات ميلود وأسرته، بالإضافة إلى عشرات الأسر الأخرى داخل مخفر الشرطة، جوع وعطش، أطفال خائفون ورضع باكون وبرد شديد، فلا ملابس تقيهم برد شهر ديسمبر/كانون الأول القارس، وهم الذين مُنعوا من حمل ملابسهم وأغراضهم وأموالهم إلا القليل منها، وكل ما اقترفوه أنهم يحملون الجنسية المغربية أو من أصول مغربية.
ميلود، ووالده ووالدته وجدته وإخوته الخمسة، هي واحدة من بين 45 ألف أسرة مغربية، وفق أرقام رسمية، تم ترحيلها وتهجيرُها قسراً من الجزائر نحو الحدود، شهراً واحداً فقط بعد تنظيم المغرب للمسيرة الخضراء، وهي مسيرة سلمية مكَّنت المغرب من بسط سيطرته على كامل أراضي الصحراء، مُنهية عقوداً طويلة من الاستعمار الإسباني.
نظام هواري بومدين آنذاك، قرَّر الرَّدَ على نجاح المسيرة الشعبية، التي شارك فيها 350 ألف متطوع ومتطوعة، بـ"مسيرة سوداء" (المسيرة الكَحلة)، تعبيراً عن رفضِه لبسط المغرب سيادته على الصحراء، ودعماً لجبهة "البوليساريو" الانفصالية.
تم خلال هذه الفعاليات طرد 350 ألف مغربي ومغربية صوب الحدود الجزائرية المغربية، قبل السماح لهم بالمرور صبيحة يوم عيد الأضحى الموافق 18 ديسمبر/كانون الأول 1975.
المصائب لا تأتي فُرادى
لم ينسَ ميلود الشاوش، الذي بات أحد أشرس المناضلين لردّ الاعتبار لضحايا هذا التهجير، مؤسس جمعية أطلق عليها اسم "المغاربة ضحايا الطرد التعسفي من الجزائر" بمدينة الرباط حيث يستقر، رحلة مرعبة امتدت لساعات من مدينة تلمسان صوب الحدود.
يقول: "ضُربت حافلتنا بالحجارة حين وصولنا لمدينة مغنية الجزائرية، ارتفع صراخ الصغار كما النسوة، وكان برفقتنا مرضى خاضعون لعمليات جراحية ونساء حديثات الولادة أُخرجوا من المستشفيات عُنوة، وتوفي الكثير منهم على الحدود".
لا يُخفي المتحدث آلامه وهو يستحضر عدداً من الذكريات المؤلمة طبعت وجدانه وشخصيته، متسائلاً بلسان الطفل الصغير الذي كان عليه "كنت تلميذاً، كنا نملك بيتاً جميلاً وسيارة وكان لوالدي مدخول جيد، بين ليلة وضُحاها غادرت مدرستي، وحُرمت من كتبي وملابسي وانتقلنا للإقامة داخل خيمة بمخيم للاجئين لم تحمنا من الأمطار ولا من برد فصل الشتاء".
يصمت المتحدث قليلاً ليقول: "لقد انتقم بومدين من المغرب عن طريق تشريد أبنائه".
لم تقتصر مُعاناة المطرودين عند الحرمان من الدراسة أو المسكن والملبس، بل امتدت جراحها إلى الحرمان من عطف الأب وحنان الأم وقطع صلة الأرحام، فيما اضطر آخرون لترك آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية ومئات الممتلكات والعقارات، أما النسوة فجُرِّدن من كل ما حملن من حُلي أو مُجوهرات.
جمعهم الحب.. وفرَّقتهم السياسة
لكل مطرود حكاية مُرة، وإن كان البعض رفض تماماً الحديث لـ "عربي بوست" عمَّا قاساه من جراء التهجير القسري عام 1975، مُبدِين امتِناعهم الشديد عن الحديث عن تلك "الأيام السوداء" مخافة أن ينفتح الجرح من جديد، فإن خديجة فتحت قلبها لنا وعادت إلى أيام الشباب حين كانت زوجة رجل غني جمعتهما قصة حب وزواج.
لم تستطع مي خديجة الحديث دون بكاء، تذكرت الطَّرق العنيف على الباب عند الخامسة صباحاً، وإجبارها على الصعود إلى سيارة من الحجم الكبير، مرتدية ملابس النوم: "أُخرجت من بيتي بكل قسوة، كنت صغيرة السن وجميلة، وكان زوجي الجزائري مُتعلقاً بي ويحبني، بادلته نفس المشاعر، وما كنت أظن أن شيئاً سيُفرّق بيننا سوى الموت".
استطاع قرار بومدين أن يفرق بين مي خديجة وزوجها، ويبعث بها إلى بلادها وحيدة لا هي مطلقة ولا متزوجة، إلا أنه لم يستطع لحسن الحظ تفرقتها عن ابنتها الصغيرة التي أتت بها لأهلها قبل سياسة الطرد بحوالي الشهر، استعداداً لإجرائها عملية جراحية.
"التحقت بعائلتي في مدينة الناظور وابنتي الوحيدة معهم، كانت نيتي أن أقضي عيد الأضحى في بيت زوجي وأعود للمغرب من أجل البقاء إلى جانب الصغيرة حتى تجري العملية".
الابنة المحظوظة بوالدتها وأقربائها، حرمت من رؤية والدها أو التعرف عليه، إذ إن العلاقات قطُعت بالمرة، ولمَّا علمت خديجة بوفاة والد ابنتها بعد سنوات قليلة طالبت بميراث ابنتها، الأمر الذي رفضه الإخوة الأكبر من زوجته الأولى تمكنيها من أي نصيب، تحكي مي خديجة لـ "عربي بوست".
العجوز الحزينة والتي أصبحت جدة لثلاثة أحفاد، أكدت أن ما وقع لها أفضل من كثير من المغربيات اللواتي كنَّ متزوجات من رجال جزائريين، دُفعن غَصباً للعودة لبلادهن تاركات ثلاثة أو أربعة أطفال، على اعتبار أنهم يحملون جنسية الأب.
تابعت المتحدثة بأسف "صديقة لي انتزعوا رضيعها من حضنها، عادت لبيت أهلها بمدينة مكناس، وعملت على التواصل مع زوجها وعائلته من أجل أطفالها الثلاثة دون جدوى، بقيت على ذلك الحال إلى أن أصابَها الجُنون وذهب الحزن بعقلها".
سنوات الضياع
لا شك أن الدولة المغربية كما الأسر المطرودة، تفاجأت بما حدث، وفي محاولة منها لإيجاد حلول لآلاف الأُسر المطرودة والمُشرَّدة على الثغور الحدودية، لجأ المسؤولون بداية إلى توزيع المطرودين على أقسام المدارس بمدينة وجدة، قبل تزويدهم ببضعة أفرشة وأغطية كانت مستعملة خلال المسيرة الخضراء.
مئات الخيام نُصبت آنذاك على مستوى الساحات الكبيرة بمدينة وجدة، شرقي المغرب، لاستقبال ضحايا الطرد التعسفي، مخيمات حفتها الآلام والبكاء والعويل، وحملت أسماء "لافوار" و"روك 1″ و"روك 2″، قبل أن تعمد الدولة إلى ترحيل الأسر إلى مختلف المدن المغربية، حتى تتكلف كل عمالة (محافظة) بجزء من الأعباء والأسر.
سعت الدولة لتشغيل أرباب الأسر، خاصة أن كثيرين منهم كانوا ذوي أملاك وتجارة، فقامت بتوظيف الرجال وأبنائهم الشباب كحراس للمدارس والمؤسسات العمومية، ومكنت بعضهم من السكن الوظيفي، إلا أن الأجور الهزيلة أدخلت هذه الأسر في دوامة الفقر والحاجة، ما دفع الأبناء اليافعين إلى ترك الدراسة والتوجه للعمل وتعلم الحِرف بالنسبة للأبناء، واللجوء إلى العمل داخل البيوت بالنسبة للبنات ووالداتهن.
بعد أكثر من أربعة عقود على حادثة التهجير هذه، لا تزال العائلات تتجرع مرارة المعاناة وتتعرّض للتشريد مرة أخرى، بعد أن صاروا مطالبين بإفراغ السكن الوظيفي عقب إحالتهم إلى المعاش وقيمته الهزيلة، يُعلِّق محمد الشاوش على هذه الأوضاع قائلاً: "عائلاتنا تعرضت لظلم مزدوج ولم يتم إنصافها حتى الساعة".
رئيس جمعية المغاربة ضحايا الطرد التعسفي من الجزائر، أوضح أن على المغرب الترافع عن حقوق 45 ألف أسرة مغربية أمام المنتظم الدولي وكل الهيئات الأممية المرتبطة بحقوق الإنسان، ورد الاعتبار لهذه الأسر وجبر ضررها.
ويرى المتحدث أن الملف حقوقي واجتماعي وإنساني أولاً وأخيراً، خاتماً كلامه متسائلاً: "أي ذنب اقترفته هذه العائلات التي ساهم رجالها ونساؤها في دعم الثوار من أجل استقلال الجزائر، حتى يعاملوا بهذه الطريقة؟ ويقولون علينا أن ننسى، من عانى وقاسى وفقد أهله وحُرم أبناءه لا يمكنه أن ينسى".