انتهك الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأعراف مجدداً.
فقد وجَّه الدعوة لنظيره الروسي فلاديمير بوتين لزيارة واشنطن، الأمر الذي اعتبر انتهاكاً للأعراف الدبلوماسية، نظراً لأنَّ الضيف تلقَّى الدعوة على تويتر، مما اضطره إلى التفكير في كيفية الرد سريعاً وفقاً للمعايير الدبلوماسية.
لكن هذه ليست المشكلة الرئيسيّة، فرغم ما تعنيه مثل هذه القمم من إيجابيات لبوتين، فإنها قد تلحق الضرر بترمب وحزبه الجمهوري، حسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
أخيراً أصبح بوتين شريكاً
يُعد عقد لقاءٍ ثانٍ بين الرئيسين بعد القمة التي عُقِدَت في هلسنكي بمثابة القبول الذي يتوق إليه الرئيس الروسي، ليمثل نهايةً رمزية للنبذ الذي عانى منه منذ أن طُرِدَت بلاده من مجموعة الثماني عام 2014. وقد يحقق ذلك بعض التقدم في تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
وبالنسبة لجمهور بوتين المحلي، فسيكون ذلك تأكيداً على أن الرئيس الأميركي يراه على الأقل منافساً لا يمكنه تجاهله أكثر من ذلك، إن لم يكن يراه شريكاً.
قد تفضل روسيا أن تتخذ المحادثات طابعاً رسمياً أكثر من تلك التي تبادلوها أثناء قمة هلسنكي، ما يمنحه فرصةً لضمان تناول المسؤولين في كلا الجانبين بعض التفاصيل بدقة.
ولديه قائمة ضخمة من المكاسب المحتملة
ومن المكاسب الضخمة التي من الممكن أن تخرج بها روسيا استئناف المفاوضات بشأن نزع السلاح النووي، وإجراء استفتاء في منطقة دونباس الشرقية بأوكرانيا، وحماية المصالح الإسرائيلية في نهاية الحرب السورية.
فبعد كل شيء، نادراً ما يقول أي رئيسٍ أميركي إنَّ الولايات المتحدة، وليست روسيا، هي المسؤولة عن التدهور في العلاقات بين البلدين، مثلما قال ترمب خلال القمة، لذا فإنَّ هناك حافزاً لروسيا لانتهاز تلك الفرصة غير المسبوقة.
ولكن هو وغيره من المسؤولين الروس فوجئوا بموقف الأميركيين من القمة
يبدو أنَّ المسؤولين الروس، مثل السفير الروسي بالولايات المتحدة أناتولي أنتونوف، قد فوجئوا بشدة من ردِّ الفعل السلبي تجاه القمة في الولايات المتحدة. حتى إنَّ بوتين تحدث بنفسه عن القوى المؤثرة التي ترمي إلى تقويض القمة.
لا تكمن المشكلة فقط في وجهة نظر الحزب الديمقراطي، المنطوية على أنَّ بوتين يرى ترمب عنصراً قيماً للاستخبارات الروسية، لكن أيضاً العدائية الشديدة المنتشرة بين كبار الجمهوريين تجاه جهود تحسين العلاقات.
أظهر استطلاع أجرته مؤسسة Ipsos Mori لوكالة رويترز، أنَّ 56% من الأميركيين يظنون أنَّ بوتين تدخل نيابةً عن ترمب أثناء انتخابات 2016، حتى وإن كان 32% فقط من الجمهوريين يظنون نفس الشيء. لكنَّ القاعدة الجمهورية آخذة في التآكل، ويغير عددٌ كبير من الجمهوريين آراءهم الآن، وهم يرون رئيسهم يظهر الثقة في كلمات بوتين أكثر من تحليل أجهزة الاستخبارات الأميركية.
إذ إن بعضهم اعتبروا رئيسهم خائناً
"إحدى أسوأ اللحظات" في تاريخ الرئاسة الأميركية، هكذا وصف السيناتور الجمهوري جون ماكين تبني ترمب لنفي بوتين بشأن تدخل بلاده في الانتخابات الأميركية، معتبراً أن قمة هلسنكي بين الرئيسين كانت "خطأ مأساوياً".
وكان ترمب، قد قال عقب اجتماع مع بوتين، الإثنين 16 يوليو/تموز 2018، إنه لا يرى ما يدعوه لتصديق أجهزة استخباراته، بدلاً من الثقة بزعيم الكرملين بشأن مسألة ما إذا كانت روسيا تدخَّلت لمساعدته في الفوز بانتخابات عام 2016.
وعقد ترمب الاجتماع مع بوتين، بعد أيام من توجيه محققٍ خاصٍّ الاتهامَ إلى 12 ضابطاً روسيّاً، بسرقة مستندات من الحزب الديمقراطي لمساعدة ترمب في الفوز.
وانتقد مدير سابق للاستخبارات المركزية الأميركية أداء ترمب، حسب ما نقلته وكالة "رويترز"، ووصفه بأنه "خيانة"، كما ندَّد به سيناتور جمهوري ونعته بالـ "مشين"، لكن جمهوريين آخرين كانوا أكثر تحفظاً.
وخلال المؤتمر الصحافي طلب الصحافيون من ترمب أن يوجه انتقاداً واحداً لروسيا، لكنه رفض مراراً وتكراراً. وسُئل إن كان اللوم يُلقى على عاتق روسيا في تدهور العلاقات، فقال قبل أن يتحول بالنقاش إلى فوزه في الانتخابات: "أحمّل البلدين المسؤولية. أعتقد أن الولايات المتحدة اتَّسمت بالحماقة. كنا جميعاً حمقى".
وعندما سُئل بوتين إن كان يرغب في فوز ترمب بانتخابات 2016، وأنه أصدر تعليمات للمسؤولين لمساعدته، قال بوتين: "نعم"، لكنه نفى أي تدخُّل، قائلاً إن الاتهامات "محض هراء".
والآن أي تدخل جديد سيهدد ترمب بالهزيمة
ربما تدخل بوتين سراً في انتخابات 2016 لمساعدة ترمب، لكنَّ موسكو قد تكتشف أنَّ التدخل الصريح من خلال زيارة يشوبها التوتر بدرجةٍ كبيرة في هذا الخريف، من شأنه أن يصعب على الجمهوريين السيطرة على مجلس الشيوخ.
وكان للسيناتور الجمهوري لينزي غراهام، تعليق على هذا الأمر؛ إذ قال إن أداء ترمب سيبعث برسالة "ضعف" إلى موسكو.
وأضاف غراهام على "تويتر": "أضاع الرئيس ترمب فرصة لمحاسبة روسيا على التدخل في انتخابات عام 2016، وتوجيه تحذير قوي يتعلق بالانتخابات القادمة. ستنظر روسيا إلى ردِّ ترمب على أنه دلالة على الضعف، وهذا الرد يخلق مشكلات أكثر مما يحل".
وبالنظر لنتائج استطلاع الرأي، على الأرجح سيُفضل معظم المرشحين الجمهوريين في الانتخابات النصفية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تجنب الاضطرار للدفاع عن زيارة بوتين للبيت الأبيض في الأسابيع السابقة للانتخابات.
وربما يقرر ترمب المخاطرة بالهزيمة في نوفمبر/تشرين الثاني، عن طريق التمسك الشديد بالعلاقات الروسية، لكن هل سيساعده بوتين في تحقيق مسعاه؟
قد يقترح بوتين بديلاً معتدلاً أكثر، مثل عقد اجتماع في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في سبتمبر/أيلول، أو قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، في نوفمبر/تشرين الثاني، وهي نوعية الاجتماعات التي لم يخرج عنها أوباما.
ولكن، لماذا أصبحت هذه الزيارة إشكالية رغم أنها ليست الأولى لبوتين؟
وإذا خاطر بوتين وسافر إلى الولايات المتحدة من أجل القمة، فإنَّها لن تكون زيارته الأولى، منذ توليه مقاليد الحكم في روسيا، وهذا ما أكد عليه البيت الأبيض هذا الأسبوع.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2001، في أعقاب الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي في نيويورك، دعا جورج بوش الابن بوتين إلى مزرعته في بلدة كراوفورد بتكساس، لحضور قمةٍ استمرت لمدة يومين.
فشل الرجلان حينها في التوصل إلى اتفاقٍ حول معاهدةٍ جديدة للصواريخ، حتى وإن تحسَّنت علاقتهما الشخصية. وأجابا في كليةٍ على أسئلة الطلبة حول حقوق المرأة، وتفاصيل تقليص ترساناتهما النووية، والسباق المفاجئ بينهما لإرساء حكومة معاً في أفغانستان تمثل قطاعاً عريضاً من القبائل المتناحرة في البلاد، وكلها مسائل قد تظهر بكل سهولة من جديد، إذا عقد ترمب وبوتين قمةً مشابهة. لكن بوتين كان ما زال زعيماً غامضاً آنذاك، فلم يكن قد مرَّ إلا عام واحد منذ توليه المنصب.
التقى بوش وبوتين مرةً أخرى في الولايات المتحدة عام 2007 في مجمع بوش بمنطقة ووكر بوينت. وذهبا لصيد الأسماك، وتناقشا بشأن أنظمة الدفاع العسكرية في بولندا وجمهورية التشيك. وبعد مرور عام، غزا بوتين دولة جورجيا بقوة، غير مكترث برد الفعل الأميركي.
وبعد المودة التي ظهرت بينهما في هلسنكي هاهم الروس يستأنفون سياستهم القديمة
تكمن الصعوبة في أنَّه بعد قمة هلسنكي التي عقدت الأسبوع الماضي، ليس هناك ما يكفي من الشواهد لتبرير تحالف جديد بين البلدين، بعيداً عن العلاقة الشخصية بين ترمب وبوتين.
في الأيام التالية للقمة، تحدَّث المسؤولون الروس بصرامة عن الاحتفاظ بشرقي أوكرانيا، ورفضوا تكوين هيئة جديدة للتحقيق في هجمات الأسلحة الكيميائية، وكثَّفوا الحملة العسكرية في سوريا. ويتزايد العداء ضد بوتين في الولايات المتحدة، وبالتأكيد بدأ يتضح لموسكو أنَّ ترمب غير قادر على تغيير الرأي العام الأميركي أو موقف حزبه.
وبالنظر إلى أنَّ التحقيق الذي يجريه مولر في الولايات المتحدة، والتحقيق الذي تجريه المملكة المتحدة بشأن التورط الروسي في عملية تسميم سيرغي سكريبال لم تظهر نتائجهما بعد، يجب على موسكو إدراك أنَّ فرص الحقبة الجديدة من العلاقات تستند إلى أسس هشة.